2007/04/30

كان شيخا بلا بندقية

كان شيخا بلا بندقية.. جاء برفقة مجموعة من وجهاء المدينة يرى الأمريكيين بعد استحواذهم على شوارع المدينة التي يسكن قبل اربع سنوات بالتحديد.. كان يحاول القيام بما يجيده عادة شيوخ العشائر.. جاء يتحاور بخصوص موضعة القوات الامريكية في مدينته.. اتخيل عبثية المشهد.. شيخ عربي ، والادهى "سني" امام جنرال امريكي جاء العراق باحثا عن انتقام بعد هجمات 11 ايلول.. شيخ اعزل يريد ان يفاوض دباية احتلت العراق في ثلاثة اسابيع.. اتخيل احتقار جنرال المارينز للكوفية.. اتخيل ما قاله الجنرال الامريكي لذلك الشيخ: الدبابة لا تفاوض.. الدبابة تستحوذ.. الدبابة تفرض شروطها.

الشيخ ارتكب خطأ لايرتكبه بدوي في العادة.. هو قد صدق بسذاجة شعارات الامبراطورية.. ذهب يتحاور مع من وعدوه بالحرية والديمقراطية.. فاحتقروه.. راح يتظاهر امام مدرسة ابناءه التي اتخذها المارينز مقرا.. فاطلق عليه جنود مهووسين بالزناد النار.. قال لهم للبيوت حرماتها.. فاهانوه امام ابناءه.. طلب منهم ان لا يستخدموا مكبرات الصوت في الليل.. فرفعوا الصوت: موسيقى راب امريكي.. والشيخ ربابة.

عاد الشيخ مهانا من عند الجنرال.. اشتعل غضبا.. وظل يحترق غيضا.. وحينذاك استعاد الشيخ بعض من ذاكرته.. تاريخه.. وبعض بداوة لم تمحها دعة المدن.. كاد ينسى ان جده حارب الانكليز.. ردد الشيخ ما سمعه عن جده: "أمام المحتل، البندقية أفق و سقف".. منذ ذلك الوقت والشيخ كوفية متحفزة .. بعد ذلك وفي كل مرة التقى الشيخ فيها بأمريكي كانت البندقية بينهما.. رصاص البندقية بينهما.

احتجز الجنرال الامريكي اولاد الشيخ وعراة عذبهم .. وظل الشيخ يقاتل .. نسف الجنرال الامريكي بيت الشيخ .. وظل الشيخ يقاتل .. دمر الجنرال الامريكي مدينة الشيخ .. وظلت البندقية افق و سقف .. سموه ارهابيا .. والشيخ خيمة محتلة .. سموه صداميا .. وللشيخ ثارات مع دكتاتور قتل ابناء عشيرته .. ثم سموه متمردا.. لم يرى الشيخ في ذلك اهانة .. الشيخ لم يقرأ جيفارا.. فالبداوة تمرد.

في الاسابيع الاخيرة ذهب الجنرال الامريكي لِلقاء الشيخ .. الامور ما عادت كما كانت قبل اربع سنوات .. ولهجة الشيخ قد تغيرت هذة المرة .. اصبح للشيخ بندقية.. قال الشيخ للجنرال:"لو احتل العراق امريكا، الا تقاتلون من اجل ارضكم".. سكت الجنرال .. تناقض اكبر كان يستولي عليه .. فحكومته ترسله يصالح من كانت تسميه ارهابيا حتى وقت قريب.. حيرة الجنرال كبيرة.. وهزيمته اكبر.

امريكا تستنجد بالشيخ الذي رفضت مفاوضته قبل اربع سنوات .. هم قد احتقروه انذاك .. لانه كان
بلا بندقية ..الشيخ يعرف الان ان امريكا لاتحترم إلا من يحمل سلاحا.. والشيخ اليوم بندقية.
...............

هذة الكلمات هي تعليق على المقال المنشور امس في النيويورك تايمز والذي يتحدث عن "تحالف" بين بعض شيوخ عشار الانبار والقوات الامريكية ضد "القاعدة في بلاد الرافدين".. منذ سنتين وامريكا، بمساعدة السعودية والاردن.. تبحث عن عزل "مقاتلي المقاومة المعتدلين" كما تسميهم النيويورك تايمز في مقال الامس.. للمفردات هنا دلالات سياسية كبيرة.. لقد احتاجت امريكا الى سنتين لكي تنتقل من مفردة "ارهابين" الى مفردة "متمردين".. ثم ها هي اليوم وبعد اربع سنوات تستخدم مفردة مقاومة.. نعم العجلة الامريكية تستدير ولكن ببطء شديد .. وهذا قد كلف العراق وربما سيكلف المنطقة بل وحتى العالم الكثير.

امريكا اليوم تستخدم ورقة رفضتها قبل اربع سنوات .. السؤال هو: هل ما زال هناك وقت لاحياء دور الشيخ العشائري في العراق .. ربما كان هذا ممكنا قبل اربع سنوات .. اما اليوم فلا اظن .. لقد جرت دماء كثيرة خلال السنوات الأربعة الماضية .. ونما حقد طائفي لم يشهده العراق منذ التطاحن العثماني الصفوي .. نعم هناك تيارات غير دينية داخل المقاومة تحاول امريكا جذبها منذ فترة .. ولكن تلك التيارات، وبوجود المناخ الطائفي السائد اليوم في العراق كما في المنطقة، لن تصمد امام قوة جذب التيارات الدينية المتشددة .. للهوية الدينية قوة تجميعية اكبر من الهوية العشائرية في عراق اليوم .. والشيخ ذو الكوفية سيخسر امام الشيخ ذو العمامة في مثل تلك الظروف
.

2007/04/25

هندسة امريكية

“We build too many walls and not enough bridges.” Isaac Newton



George Walker Bush “thinks” there are too many bridges in Baghdad and not enough walls.

2007/04/07

اربع سنوات احتلال





قبل سنتين تقريبا طلبت مني مجلة فصلية سويسرية توزع على نطاق محدود ان اكتب مقالة عن العراق بمناسبة مرور سنتين على الاحتلال .. استعيد اليوم ما كتبته فيها انذاك وتستوقفني جملة .. هي لعراقي من سكان بغداد قالها لصحفي امريكي امام مشاهد النهب والسلب والتدمير لبغداد.. هي عندي من افضل ما قيل في الاسابيع الاولى من الاحتلال.

لقد ارتكب صدام جرائم كثيرة ولكن جريمته الكبرى تكمن في سماحه للامريكيين بدخول بغداد.


بعد اربع سنوات احتلال نستطيع اشتقاق جمل اخرى لاتقل صدقا ومرارة عن هذة الجملة .. نستطيع ان نقول ان امريكا قد ارتكبت جرائم كثيرة في العراق .. ولكن جريمتها الكبرى تكمن في تمكينها لحثالات ولحرامية من تجار السياسة من قرصنة وظيفة الكلام باسم العراقيين وبالتالي "الحكم" باسمهم .. ونستطيع ان نقول ايضا ان هولاء الحثالات والحرامية قد ارتكبوا جرائم كثيرة بحق العراق .. ولكن جريمتهم الكبرى تكمن في التأسيس الشمولي للطائفية السياسية.

اربع سنوات قدمت فيها الديمقراطية الامريكية المستوردة خيارات كثيرة للعراقيين .. لك يا عراقي ان تختار بين عمامة سوداء او عمامة بيضاء .. ولك ان تختار بين ان تقتل او تُقتل .. لك ايضا ان تختار في زمن الحرية الامريكية ما بين التصويت بالبندقية او" التصويت برجليك" / الهروب من العراق .. لا صوت لمن لا يقتل .. اقتل تحصل على حقك بالكلام .. شكّل ميليشيا من الحرامية والقتلة وجهزهم بالسلاح تحصل على ربع مقاعد البرلمان .. هكذا تم تأسيس عراق القتلقراطية.

اربع سنوات تم خلالها قتل نصف مليون عراقي على الاقل .. وتم تهجير ما يقارب اربعة ملايين عراقي من منازلهم ، مليونان من هولاء قد تركوا العراق .. احد الصحفيين الفرنسين يحاول مذهولا تقريب تلك الارقام المجردة بعراقيتها البعيدة فيقول للجمهور الفرنسي "تصورا ان خمسة عشر مليون فرنسي يُهجرون من منازلهم وسبعة ملايين ونصف يهربون من فرنسا خلال اربع سنوات" .. اترك لكم ان تقدروا النسبة امريكيا.

اربع سنوات ومن تسببوا في هذة الجريمة لا زالوا يتلذذون بساديتهم الطائفية وبدماء العراق .. اربع سنوات ولا زالت العمامات تثمل بحقائقها الشيطانية .. اربع سنوات والجلبي، الذي استعاد مطحنة ابيه بعد تدمير الدولة العراقية، ما زال متشبثا بمساعدة الفتاوى السيستانية بقوانين الاجتثاث التي دمرت العراق (دول اوربا الشرقية وبعد سقوط انظمتها الشيوعية تجنبت مثل تلك القوانين لكي تحافظ على سلمها الداخلي) .. اربع سنوات ومن نصبوا انفسهم خبراء للشأن العراقي لازالوا متقوقعين في تحليلاتهم التي دمرت العراق .. اربع سنوات وكنعان مكية يصر، خلال لقاء اجرته معه النيويورك تايمز قبل اسبوعين، على عبقريته التحليلة للماضي العراقي.

كنعان مكية الذي عمل مستشارا لمخطط تدمير العراق وجد اخيرا وبعد خراب البصرة اسباب الفشل الامريكي في العراق .. انها حالة المجتمع العراقي المزرية بعد خمس وثلاثين سنة من حكم البعث .. وهو بذلك يريد ان يقول ضمنيا أن الفشل الامريكي سببته تركة صدام .. فترة حكم صدام هي موضوع مكية المفضّل وعنها وضع كتابه "جمهورية الخوف" .. لم يعي مكية بعد ان "جمهورية خوفه"، ومن خلال تركيزها المرضّي على الجانب المحلي للشأن العراقي (البعث وصدام) واهمالها للبعد الاقليمي والدولي لمشاكل العراق والمنطقة ، قد عملت على تبسيط وتسطيح مشاكل العراق المعقدة وبالتالي ساهمت في تشييد "جمهورية القتل" الحالية .. هو اليوم يعترف بأخطاء كثيرة ولكن ليس بخطأ تحليلاته التي ساهمت بقتل العراق.. وهو، في لحظة الهام غير مسبوقة، ينتقد صديقه في النضال احمد الجلبي من دون ان يسميه ويحمله مع غيره من تجار السياسة مسؤولية الطاعون الطائفي الذي يفتك بالعراق اليوم.. وهو بعد ذلك يعترف انه اساء تقدير درجة التدمير التي اصابت المجتمع العراقي قبل الاحتلال.. وهو لذلك يحضر لكتاب اخر ليفهم ماذا فعلت 30 سنة دكتاتورية لذلك المجتمع الذي افشل المشروع الامريكي العبقري.

كيف حصل ان مكية خبير الشأن العراقي لم يستطع استيعاب ما كان يعرفه كل عراقي بسيط انذاك وهو ان المجتمع العراقي كان مثخنا بالجراح ومنهكا قبل الاحتلال .. ليس بسبب حروب صدام فقط ..وانما بسبب جريمة الحصار الامريكي ايضا .. هنا تكمن مسؤولية مكية ورفاقه في "النضال" .. هم ارادوا تغيير العراق من دون فهم واقع العراق .. ارادوا علاج جرح عميق من دون تحليل دقيق .. تصدوا لمهمة العلاج من دون تهيئة شروط نجاح العلاج .. واول تلك الشروط هو ان لايكون الطبيب دجالا .. كان على خبير الشأن العراقي ان يعلم ان اخر ما كان يحتاجة العراق هو خطاب ايديولوجي اخر.. هو الذي حمّل ايديولوجية البعث مسؤولية مشاكل العراق .. كان على من يتصدى لعلاج هذا المجتمع ان يكون مسلحا بمعرفة حقيقية وليس فقط بايديولوجيا محمية بدبابات جبانة.


كلمة اخيرة بخصوص مكية .. اياكم ان تطلبوا منه اعتذارا.. فهو وتعليقا على خبر اعتذار هيلاري كلنتون (لاسباب انتخابية بالطبع ) عن تصويتها الى جانب قرار شن الحرب على العراق .. يقول

“That’s so Maoist, People shouldn’t feel the need to apologize. What is there to apologize for ”

لماذا الاعتذار !! صحيح الاعتذار عن ماذا ؟ هل يستحق تدمير العراق .. تفخيخ مجتمعه طائفيا ..وقتل نصف مليون عراقي .. وتهجير اكثر من مليونين من سكانه خلال اربع سنوات الى اعتذار .. كلا .. هذه اخلاقيات ماوية .. اريد فقط ان اذكر ان من يقول هذا الكلام هو شخص اخذ على عاتقه مشروع الذاكرة العراقية الذي يريد تسجيل جرائم النظام السابق.

نعم ان المجتمع العراقي كان مثخنا بالجراح ومنهكا.. ونعم ان صدام يتحمل مسؤولية كبيرة في تلك التركة .. ولكن السياسات التي طبقت خلال السنوات الأربع الأخيرة ومخلفاتها التي دمرت العراق تتحملها امريكا "والأربعين" حرامي من أصحاب مكية في "النضال الطائفي .. عندما يتجاهل من يتصدى للتغير الشروط المُمكنة للتغير فهذا يعنى انه مسؤول عن فشل التغير.. وهو حتما مسؤول عن التدمير.

في الثاني من الشهر الماضي نشرت الغارديان مقال تحليلي لـ جوناثان ستيل يعالج فيه احداث حرق نصب حلبجة التذكاري على يد سكان حلبجة انفسهم في العام الماضي، احتجاجا على القيادات الكردية الحالية التي توظف جروح الماضي من اجل كسب الدولارات في حين ان سكان حلبجة يعانون الأمرين .. مقالة ستيل تنتهي بهذه الكلمات :

The time for dumping every complaint on the old regime is over

نعم .. زمن التعكز على الماضي من اجل تبرير سياسات وجرائم الحاضر قد ولى.