2007/07/29

في مديح الناعور والسنابل



"كاتب جيد، يستحق القراءة" .. قال لي " ش" عندما ناولني الصفحة الثقافية لجريدة عراقية .. كنت طالبا في الإعدادية آنذاك .. وكنت أثق بذوق "ش" .. بعد ذلك تابعت مقالات مدني صالح في الصحافة .. لغة بارعة تليق بأستاذ الفلسفة في جامعة بغداد .. وأسلوب يخرج عن مألوف الحشو الذي كان سائدا في "الوسط الثقافي" آنذاك .. قلة كانوا بمستوى مدني صالح .. لغة وموقف .. كان يصرخ بما استطاع في حين كان الآخرون يطبّلون .. كثيرون ممن كانوا يسودون الجرائد بلغة التملق آنذاك ، "يلطمون" اليوم في الجرائد .."الوسط الثقافي" العراقي ارتزاق .. و"مثقفيه" بالنتيجة مرتزقة .. من هنا التفافات وانقلابات الأقلام .. ومن هنا الضحالة.

مدني صالح توفي في الأسبوع الماضي في عراق يموت كل يوم .. رحيل مدني صالح ذكرني بقوة بـ "ش" .. كان يدرس المسرح في أكاديمية الفنون الجميلة .. بضعة مرات رافقته لحضور عروض مسرحية هناك .. اغلب مسرحياتهم تنتمي للمسرح التجريبي .. تلك كانت أول علاقتي بهذا النوع من المسرح ولم يكن سهلا تذوقه في ذلك العمر .. العروض "المسائية" في أكاديمية الفنون الجميلة كانت متعة من طراز خاص .. ليس بفضل المسرحيات .. ولكن بفضل "ديكور" تلك الأمسيات .. حديقة الأكاديمية في النهار رائعة .. ولكنها بقعة ساحرة في المساء .. إضاءة خافتة .. تماثيل نحتية تبدو أكثر حضورا رغم عتمة تفاصيلها .. أشجار الرارنج "نائمة" في هدوء المساء .. وشوارع الوزيرية في الليل خرافة .. كثيرا ما كان طريق العودة على الأقدام .. شوارع بلا نهاية .. ونقاشات طويلة.

أرى الآن هيئة "ش" .. أناقة بلا تكلف .. غالبا ما كان يأتي متأبطا كتاب او مجلة نشرت له تخطيطا او ضحكة .. علبة اقلام "الروترنك" لاتفارقه .. ما كان يميزه هو سخريته الهادئة .. ترى هل لهذا السبب أحبَ أسلوب مدني صالح ؟ اعتقد .. مدني كان يتكلم بالنيابة عن تلك الأرواح العراقية الرائعة التي راكمتها عقود الخير .. سنابل تقدس الأرض ، تعشق النهر و تحترم النواعير .. مدني صالح كان ناعورا عراقيا .

2007/07/18

اللعبة الكبرى .. لاعبون كبار وضحايا صغار

كنت اتحدث اليوم مع صديق عربي عن نزيف الاوطان في مشرقنا .. هو وبمرارة يضع اللوم الاكبرعلى حكامنا .. انا في السابق كنت احمل نفس مرارته تجاه الحكام واحمّل الجانب المحلي من ثقافة وحكام الخ. المسؤولية الاكبر.. ما عدت افعل .. وهذا لا يعني ان الحكام لا يتحملون حصتهم من المسؤولية .. انا شخصيا وخصوصا بعد كارثة العراق اعتقد ان المسـألة اعقد بكثير وهي تتجاوز مسؤولية الاشخاص .. واي محاولة فهم لابد ان تستحضر المسار التاريخي لدولنا الحديثة العهد والهشة .. المسالة ليست ان اقول رأيّ بصورة مجردة عن أفضلية الأنظمة او الايديولوجيات .. ما اروع ان تكون الأمور بالرغبات والتمنيات .. ماذا لو قام هذا البلد بتلك الإصلاحات السياسية .. اه لو فعل الحاكم الفلاني كذا وكذا .. ولكن على ارض الواقع الأمور أكثر تعقيدا من ذلك .. اعتقد ان كل حديث من هذا النوع يغيّب شيئا مهما وهو شروط إمكانية تحقيق تلك الاصلاحات ، القيم ، ،الديمقراطية ، الدولة الخ من الامنيات المشروعة .. لكل شيء شروط امكانية من دون توفيرها ستتحول الرغبات والامنيات الى كوارث .. العراق مثالا .. من اجل ان تنتج مجتمعا متصالح مع ذاته يجب ان توفر كم هائل من الامكانيات والظروف من دونها ستنتج مجتمع عقارب يأكل بعضه بعضا .. واول تلك الشروط هو الامن بمعناه الشمولي .. وهذا غير متوفر لنا .

قبل اسابيع قرأت كتاب "الحرب والسلام في الشرق الاوسط" لـ هنري لورنس، استاذ التاريخ العربي المعاصر في الـ "كوليج دو فرانس" .. قمة الهرم الاكاديمي الفرنسي .. الكتاب ومن خلال عرض تاريخي يناقش "اللعبة الكبرى" في المشرق العربي .. فحوى اللعبة الكبرى ، بحسب هنري لورنس، هو التلاعب بالاخر : بما ان الدول العظمى قد اصبحت متوازنة في القوة .. وبما ان كل مواجهة مباشرة بينها ستؤدي الى صراع شامل مكلف لها .. لذلك فهي قد استبدلت طريقة المواجهة المباشرة بسياسة مد النفوذ التي لاتكلفها كثيرا وتعطي نفس المنافع الاستراتيجية والسياسية ( ص.7 ).

مثال من اللعبة الكبرى : التمرد الكردي في شمال العراق .. في العهد الملكي كان العراق مرتبطا بالغرب .. لذلك نجد ان الاتحاد السوفيتي يدعم التمرد الكردي من اجل اضعاف العراق لانه حليف الغرب ( ص. 154) .. عندما تسقط الملكية في العراق وتقوم انظمة قريبة ايديولوجيا من الاتحاد السوفيتي نحصل على توزيع ادوار مختلف رغم ثبات جوهر اللعبة .. الضغط على الاخر من خلال تأجيج مشاكلة الداخلية .. ففي حرب تشرين 1973 لم يستطع العراق تحريك جزء من جيشه لمساندة سوريا الا بعد ان ضمن تحذير الاتحاد السوفيتي لايران من عدم استغلال هذا الظرف للتدخل في العراق الذي قلل من قطعاته على الحدود الايرانية (ص. 291) .. ولكن تدخل العراق في الحرب ضد اسرائيل ليس من مصلحة هذه الاخيرة وراعيتها امريكا .. لذلك يقوم كيسنجر باعطاء الضوء الاخضر لـلـ "سي آي أي" وبالتعاون مع ايران الشاه على اشعال التمرد الكردي في شمال العراق لكي يجبر العراق على توجيه جيشه الى جبهة اخرى (ص. 299 ).

يقول لورنس ان القوى المحلية قد فهمت بشكل جيد تلك المعطيات الجديدة وباتت تستخدم بدورها ميكانزمات اللعبة الكبرى من اجل تحقيق اهدافها الخاصة مستندة في ذلك على المنافسة القائمة بين القوى الاجنبية الكبرى (ص. 7 ) مما يعقد اللعبة ويساعد في عدم الاستقرار المزمن لبعض المواقع الهشة .. لبنان المثال الاكثر وضوحا .. العراق اليوم اصبح مثالا اوضح وساحة للقوى الاقليمية تصفي حساباتها فيما بينها او مع الامبراطورية .. ما يجري في فلسطين بين فتح وحماس هو ايضا مثال ساطع عن قوانين اللعبة الكبرى .. لنتذكر ان الشعوب هي "عملة" غير قابلة للصرف في بورصة اللعبة الكبرى .. برميل نفط اغلى بكثير من رأس عراقي او عربي .. لان "العرب لايصوتون في الولايات المتحدة" كما قال الرئيس الامريكي ترومان ذات يوم لبعض الدبلوماسيين الامريكيين ( ص. 73) .. وقتها اراد ترومان ان يشير ضمنيا الى قوة تأثير اللوبي اليهودي في الانتخابات الامريكية.

يقول لورنس ان المشرق العربي هو مركز الثقل في الشرق الاوسط بسبب الصراع العربي الاسرائيلي .. وان هذا الصراع هو من هيكل الانظمة العربية المعاصرة و بهذا المعنى فان تلك الانظمة هي نتاج اللعبة الكبرى .. ولو لم يقم المشروع الصهيوني ، كان من المحتمل ان تكون الحياة السياسية في المشرق العربي اقل عنفا واكثر استقرارا وما كانت الانظمة السياسية لتصل الى هذا الحد من التسلطية (ص.9 ) يرى لورنس ان الصراع مع اسرائيل قد انتج دولة عسكرية وحكومات عسكر .. وان الانزلاق نحو العسكرة ياتي اولا من اضطرار تلك المجتمعات من الصرف على جيوشها لمواجهة تهديد التوسعية الاسرائيلية .. ومن هنا التناقض المدمر بين الصرف الكبير على الجيوش وضعف الاستشمار في مجالات اخرى .. علما ان سكان تلك المجتمعات قد تضاعف عددها (ص. 464 ).


لورنس لايلغي دور العوامل الداخلية في المساهمة في المشاكل التي تعيشها مجتمعاتنا .. العوامل الداخلية موجودة في طرحه .. هناك امثلة كثيرة عن تنافس وتناحر اللاعبين الصغار فيما بينهم .. ولكنه يعتقد انهم يتحركون داخل حقل اللعبة الكبرى ويحتكمون لقواعدها .. وهم في اغلب الاحيان لايقومون سوى بردود افعال وخصوصا في حروبهم مع اسرائيل باستثناء حرب 1973 (ص. 465 ).

لورنس يذكر ان التعليم ومعدلات نمو السكان هي مؤشرات وعوامل مهمة ومساعدة على استقرار مجتمع ما وهو يلاحظ من خلال الاحصائيات التي يوردها ان جهد كبير في مجال التعليم قد تم في العالم العربي ( هو يستثني العراق في هذه النقطة بسبب ظروف الحصار الذي اعاق التقدم في هذا المجال) وهو يقول ان البلدان العربية في طريقها للمرور في المرحلة الثانية من الانتقالة السكانية تلك التي تؤدي الى ثبات عدد السكان (ص. 465 ـ466 ).. ولكنه يطرح سؤال مهم في الاسطر الاخيرة من كتابه .. هل ان الثبات السكاني سيؤدي الى استقرار سياسي ؟؟ ويجيب ، هناك تحديين (بمعنى ان ذلك مشروط بـتحقيق) : الاستقلال الحقيقي والديمقراطية (ص. 466) .. تجدر الاشارة الى ان الكتاب صدر في 1999 .. واعتقد ان لورنس لم يضع مفردة الاستقلال قبل مفردة الديمقراطية اعتباطا .. انه منطق الاولويات.



Henry Laurens , Paix et guerre au Moyen-Orient, l'Orient arabe et le monde de 1945 à nos jours