2007/09/17

عذرا صديقي .. في البدء لم نكن نخجل


“In the beginning it was a shame to say Sunni or Shiite ”

مقالة الـ نيويورك تايمز لهذا اليوم تتحدث عما وصلت اليه عملية "التنظيف الطائفي" بالاحرى "التوسيخ الطائفي" للاحياء .. واثار ذلك على "الروح" العراقية .. تستوقفني جملة في هذه المقالة وهي لهاشم : "في البداية كان من العيب ان تقول انك سني او شيعي" .. كم سمعنا هذه الجملة في السنوات الاخيرة .. كثيرون من العراقيين سيجدون انفسهم في تلك الجملة .. وخصوصا الثلث القريب من قلب العراق .. ثلث عوائل العراق متزاوج طائفيا حسب تقديرات الامم المتحدة .. كيف حصل اذا كل هذا القتل الطائفي على الهوية ؟ كيف حصل ان احياء كثيرة قد "وسخت" طائفيا ؟

"في البدء كان من المخجل ان تقول انك سني او شيعي" .. جملة اشكالية ..هذا الكلام لايصح من دون تأطير زمني .. عن أي "بداية" نتكلم هنا .. الان لم نعد نخجل بعد ان رُفعت مصاحف الطائفية .. ولكن منذ متى كان الخجل؟ ايام التطاحن الصفوي العثماني ايضا لم يكن من المخجل ان تصرح بمذهبك .. في بدايات القرن العشرين قبل وبعد تأسيس الدولة العراقية بقليل ايضا لم يكن من المخجل ان تقول انك سني او شيعي .. افق الناس كان محدودا بتلك التصورات .. الاسلام كالعادة كان عامل تفرقة بين العراقيين والزواج العبرطائفي كان ممنوعا اجتماعيا كما يقول حنا بطاطو :

Islam in Iraq was more a force of division than of integration. It split deeply Shi’i and Sunni Arabs. Socially they seldom mixed, and as a rule did not intermarry. In mixed cities they lived in separate quarters and led their own separate lives. (Batatu, the old social classes, p. 17

لا، لا .. في البدء لم نكن نخجل .. في البدء كان التشرذم واقع حال .. في البدء كان سجن "المِلّة" .. في البدء كانت خزعبلات "المُلا" .. في البدء كانت تجاذبات صريفة بني ساعدة ترن في الرؤوس الاسفنجية .. في البدء كان "غبار" معارك الجمل افقا للارواح الميتة .. في البدء كنا "طائفيون" .. "كلنا طائفيون" في البدء .. التاريخ العراقي "يتكلم" طائفي .. في البدء لم نكن نخجل من انتمائاتنا الطائفية .. كانت هناك حتى مناوشات متأخرة "على الجسر".


كيف حصل اذا ان ثلث العوائل العراقية متزاوجة طائفيا .. كيف حصل اننا في يوم ما كنا نخجل من التصريح بمذهبنا .. هنا بعض اهم اسئلة العراق المعاصر .. وكالعادة هي اسئلة مُغيبة في "الثقافة" العراقية التي تهيمن عليها دكتاتورية الشعرالمُضببة للرؤوس .. "الثقافة" العراقية كانت لها ، ولا تزال ، اسئلة اكثر الحاحا : جدلية الاجيال الشعرية ، سبعيني.. كلا ستيني.. بل ثمانيني !! عدم طرح وبالتالي عدم مناقشة مثل هذه الاسئلة المهمة ساهم في ترك بوابة التاريخ العراقي المعاصر مفتوحة امام عجلة "التوسيخ الطائفي" التي تديرها ثقافة اللطم ، مما ساهم تراكميا في ترسيخ عقليات الكُره المعتاشة على الكليشات والتي تسود اليوم.

اياك ان تبحث عن "مثقف" ظننته "علمانيا" فيما مضى للخوض معه في مثل هكذا اسئلة .. هو اليوم يصرخ بنفس الاجترار السابق للشعارات : "يا شيعة العراق اتحدوا" .. "الموت للامبريالية السنية" .. "فليسقط الاستغلال السني ودولته الطائفية الرجعية" .. "ماكو مؤامرة تصير، ودريلات موجودة" ( الحبال لم تعد تفي بالغرض!!) .. اياك ان تذكر له ان جده قد هرب ذات ليلة من "جنوب" تلسعه سياط الاقطاع المتحالف مع العمامة .. واياك ان تذكر له ان ابوه كان يريد تحويل مراقد "آل البيت" الى مراكز للشباب .. و اياك ثم اياك ان تقول له ان "الدين افيون الشعوب" .. فكل الطرق تؤدي الى "بغداد" .. عفوا .. كل "الايديولوجيات" تؤدي الى المناصب ..عقد النقص تفعل فعلها .. ثم ان المسافة ليست بعيدة بين "الثقافة الشيوعية الطحلبية" وبين ثقافة اللطم : ردحٌ، ثم قدحٌ، ثم لطمْ .. الثابت الوحيد هي الضحالة.

في البدء كنا نخجل ان نقول سني او شيعي .. صحيح .. كثير من "المُشكلين" طائفيا تم تربيتهم على عدم الخوض في خزعبلات قروسطوية .. وهذا دليل رقي اجتماعي يحسب لهم .. والكثير من العراقيين ممن راكمتهم عقود الخير كانوا لا يحبون الكلام عن المذهب ويعتبرون من يتكلم بذلك من المتخلفين .. هذا صحيح .. ولكنهم في الاغلب الاعم يعتبرون ذلك تحصيل حاصل .. مما ساهم في تضبيب الظروف التاريخية التي مكنت للتسامح الطائفي .. العراق لم يكن دائما على هذا المستوى من التسامح .. هذا التسامح كان له شروط مُمَكِنة كثيرة : اقتصادية وتعليمية الخ .. وقبل هذا وذاك "دولة علمانية" .. كل من قاموا على الدولة العراقية الحديثة احتفظوا بهذا المبدأ .. كانوا يعرفون جيدا ان الدين وصفة لخراب العراق .. كل يوم من التصحّر الطائفي يمر على العراق سنعي ذلك اكثر فأكثر.

اتذكر الان كلمات للملك فيصل الاول قالها في مذكرة وزعت على المقربين منه قبل وفاته .. وهي عن حال المجتمع العراقي انذاك .. ساضع هنا ما ينقله حنا بطاطو من هذة المذكرة الوصية :

There is still - and I say this with a heart full of sorrow – no Iraqi people but unimaginable masses of human beings, devoid of any patriotic idea, imbued with religious traditions and absurdities, connected by no comment tie, giving ear to evil, prone to anarchy, and perpetually ready to rise against any government whatever. Out of these masses we want to fashion a people which we would train, educate, and refine …. The circumstances, being what they are, the immenseness of the efforts needed for this can be imagined. (Batatu, the old social classes, p. 25-26

هكذا كنا في البدء .. الثقافة الثملة بسبعة الاف عام حضارة سيزعجها هذا الوصف الواقعي لا الاسطوري للتاريخ .. وهو وصف سياسي محنك ظلمه التاريخ العراقي لأنه كالعادة تاريخ كُتب بمنظور الاسود والابيض السائد في الثقافة العراقية .. كل عقد قحط يمر على العراق سيعطي هذا الرجل قيمته .. للملك فيصل الاول ان يفخر انه ساهم في اعطاء العراق افضل منجزاته المعاصرة ، انجازه الحضاري الارفع : ففي يوم ما وذات دولة تنعتها ثقافة اللطم بالطائفية .. كنا "نستحي" من التصريح بمذهبنا !!