2008/04/30

شيء من التاريخ

في كتابه "المسألة العراقية" يستغرب بيير جان لويزار وهو احد الباحثين الفرنسيين في الشأن العراقي من ان حنا بطاطو الذي كتب "انجيل العراق" بحسب تعبيره لايكرس اهتماما كبيرا لدور الدين في المشهد السياسي العراقي .. الخطأ الذي يقع فيه الباحث الفرنسي هو انه يرى عراق الستينات بنظارات عراق اليوم وهو بذلك يسقط الحاضر على الماضي .. احد الفلاسفة الالمان كان يقول من في رأسه مطرقة يرى كل الاشياء امامه على شكل مسامير.. وهذا الباحث الفرنسي كرس حياته لدراسة الحركات الاسلامية وهو لا يرى غير ذلك .. من هنا فهو لايتقبل حقيقة ان دور الدين انذاك لم يكن كبير في المشهد السياسي العراقي كما هو اليوم .

كما ان عراق العشرينات من القرن الماضي لايشبه عراق الستينات من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .. فان عراق الستينات والسبعينات لايشبه عراق التسعينات وعراق اليوم .. استغراب الباحث الفرنسي هذا يمكن طرحه على شكل سؤال : ترى لماذا تطرق حنا بطاطو لتاريخ العراق المعاصر من خلال المنظور الطبقي وليس الديني او الطائفي ؟ هنا نحن امام سؤال اكثر حيادية من استغراب الباحث الفرنسي والذي ينظر للماضي من خلال الحاضر وهو بالتالي يفرض ديناميكية الحاضر على الماضي .

حنا بطاطو كان يرى عراق الخمسينات والستينات والسبعينات فلا غرابة انه ركز على البعد الطبقي وعلى الاحزاب العلمانية التي شكلت تجربة حزبية عبرطائفية .. وهو لم يعطي اهتماما لدور الدين لانه لم يكن مؤثرا في الساحة السياسية العراقية انذاك .. لقد اكتسحت افكار الاحزاب العلمانية الشارع العراقي لانها كانت تجيب على اسئلة وحاجات ذلك الجيل .. علينا ان نتذكر مثلا ان مكتبات النجف كانت انذاك تبيع كتب من مثل "السيف البتار على الكفار الذين يقولون المطر من البخار" ..والباحث الفرنسي لايعرف ذلك .. فقط عندما نعرف ذلك نستطيع ان نفهم اثر "المادية الديالكتيكية " او حتى افكارها المبسطة على شباب ذلك الجيل .


لا بل ان تأثير الماركسية نجده حتى عند رجال الدين وابرز مثال هو محمد باقر الصدر .. فكتابيه "فلسفتنا" و"اقتصادنا" ليس سوى محاولة ضحلة لاستعارة مكشوفة واسلمة للكثير من الافكار والمصطلحات الماركسية .. وعناوين كتب الصدر لوحدها تحكي هذا التأثير.. فتوى محسن الحكيم ومرتضى الياسين في الستينات والتي حرمت الانظمام الى الحزب الشيوعي هي ايضا دليل على تعاضم دور الافكار العلمانية في الوسط الشيعي .. وهي رد فعل على الحزب الشيوعي الذي كان يحصد الرفاق حتى داخل بيوتات رجال الدين .. وتلك الفتوى لم تمنع الكثير من الشيعة من الانضمام الى الحزب الشيوعي .


هنا مقتطفات من كتاب بطاطو تشرح نبض الشارع العراقي آنذاك .. في المقتطف الاول يصف حنا بطاطو الجو الفكري والاجتماعي لتلك الايام ويصف دور الاسلام في المجتمع العراقي انذاك او على الاقل ضمن الشريحة التي شكلت التجربة الحزبية .. ثم هو يروي بعد ذلك قصة انجذاب عبدالله مسعود وهو شيعي من عائلة متدينه نحو الشيوعية .. ومسعود كان احد قيادي الحزب الشيوعي عندما التقاه بطاطو :


“ there was an unassuaged thirst for ideals. The elements directly affected were, of course, the youth of Iraq, and especially the students. The Islamic (Shi’i or Sunnis) ideas, which had for long been the mainstay of the people, were in state of progressive decomposition. At least as then formulated and interpreted, they were out of accord with the needs, desires, and life experience of an ever-widening number of socially conscious Iraqis. Islam to be sure, still preserve its impressive outward front, but in reality had lost much of its life-furthering power” (Batatu 1978, p.480

“ when reading a forbidden book he first came across the idea that the distinction between men were not God-given but were du to humain and historical causes, the idea was to him “something like revelation”. There was nothing in his previous experience to suggest anything different. He had taken for granted the Qur’anic injunction: “and as to the mean of livelihood we have preferred some of you to others” (Batatu 1978, 481
 

2008/04/09

حكومة من ورق



L’anarchie n’est pas l’absence de gouvernement mais c’est un gouvernement faible


الفوضى ليست غياب الحكومة ولكنها حكومة ضعيفة" .. لم اعد اذكر من هو صاحب هذه الجملة الكثيفة .. اليوم تكتمل خمس سنوات احتلال .. خمس سنوات فوضى .. في عراق الاحتلال الفوضى هي العلامة الطاغية .. في كل مكان فوضى .. في المدارس حيث عاد الملا القروسطوي .. في المستشفيات حيث يعالج الناس بأدوية فاسدة او مخصصة للحيوانات .. وفي الجامعات التي شوهتها قاعات اللطمية .. وفي الوزارات التي ما ان يسرق قسما من اقسام احداها حتى يشب فيه حريق يمحو اثار "مظلومية" مرت من هناك على عجل .. خمس سنوات احتلال .. خمس سنوات فوضى.

كل ما تلمسه يد حكومة الاحتلال يتحول الى فوضى .. واخر "لمسة" حكومية لم تشذ عن ثابت الفوضى هذا .. ما اراد لها المالكي ان تكون "صولة فرسان" .. احتفالية عرض عضلات تتزامن مع "ذكرى" خمس سنوات على "تحرير" الفوضى الخلاقة قد انتهت بأكبر صفعة تلقاها "المشروع الامريكي في العراق .. "صولة الفرسان" كشفت عن عمق الفوضى في ما يفترض ان يكون "النموذج" المؤسساتي لحكومة الاحتلال .. الجيش الذي خصصت له مليارات الدولارات (ونهبت في صفقات تسليحه مليارات) ظهر في اول اختبار له على شكل فوضى .

لقد وصل الفشل في "صولة الفرسان" الى درجة ان قائد كبير في الجيش يرفض تنفيذ الاوامر لانه يعتقد ان الحكومة غير قادرة على حمايته و حماية عائلته اذا ما هو قاتل مليشيا جيش المهدي المتنفذة امنيا .. البعض تحدث عن عصيان عسكري داخل الجيش .. المصادر الحكومية تكلمت عن الف جندي وضابط رفضوا القتال او سلموا اسلحتهم لميليشيا الصدر .. من يصدق ارقام الحكومة ؟؟ الواشنطن بوست ذكرت ان مسؤول كبير في وزارة الدفاع العراقية لم تكشف عن اسمة قال لها ان ثلاثين بالمئة من القوات العراقية قد فر من المعركة .. اما شبكة الـ "ان بي سي " الامريكية فقد قالت ان نصف عدد القوات العراقية قد فر .

فقط عندما نعرف تلك الارقام نفهم الحالة العصبية المهتزة التي ظهر فيها المالكي وعكستها هستيرية تصريحاته وتناقض قراراته .. وفقط عندما نعي خطورة تلك الفوضى التي ضربت الجيش نفهم عرض الهدنة الاول لثلاثة ايام .. ثم تمديدها بعرض هدنة اطول .. كل تلك الخطوات كانت من اجل كسب الوقت وللتغطية على التشرذم الذي ضرب الجيش .. وفقط النفوذ الايراني وقدرته على جمع خيوط الاطراف الشيعية المتصارعة كان قادرا على تدارك هذا الفشل الكارثي وانقاذ ماء الوجه .. فليس من مصلحة ايران ان يظهر شيعة السلطة بهذا المظهر القرقوزي .. الطريقة التي جمع بها ممثل خامنئي الاطراف الشيعية المتقاتلة في قم وحل الازمة خلال ساعات تنم عن قدرة هائلة في تحكم "الملا" الايراني ببيادقه .. الطريقة التي تم بها "الاتفاق" وسرعة اتمامه تبين ان مصطلح "الاحتلال الايراني" ليس تعبيرا مبالغا فيه .

فشل "صولة الفرسان" في البصرة وامام مليشيا سرقة نفط أدت الى تطور مهم في الجنوب : الحكومة اضطرت الى الاستعانة ببنادق العشائر.. وهنا نحن امام اهم مخلفات "الصولة" ميدانيا .. اغلب الاطراف في "الائتلاف" الشيعي كانت ترفض دورا امنيا للعشائر .. هم يعرفون ان اعطاء العشائر دورا امنيا سيعني اعطاء الشيخ على المدى البعيد دورا سياسيا قد ينافس العمامة .. لذلك هم رفضوا خيار الصحوات قبل هذا التاريخ .. ولكن فشل الاجهزة الامنية في البصرة قد ترك الحكومة بلا بنادق .. "الملك عاري" .. المالكي بعد عرض التشرذم الاخير لم يعد يملك اوراق كثيرة يناور بها امام مخطط الامريكي "حلول عراقية لمشاكل عراقية" الرامي الى الاعتماد على بنادق العشائر في فرض الامن .. الامريكي يريد تغير اللاعبين من اجل تغير اتجاه اللعبة .. موسم هجرة الصحوات الى الجنوب قد حل .

يبقى السؤال الاشكالية الذي سيفرض نفسه بعد اليوم بقوة : اذا كان الجيش، وهو المؤسسة التي يفترض بها ان تكون الاكثر التزاما بالنظام، على هذا المستوى من الفوضى .. واذا كان ولاء هذا الجيش ليس للحكومة وانما للميليشيات .. فأين اذا ستجد الحكومة الطاعة والولاء .. هنا نحن امام المعطى السياسي الاهم لـ "صولة الفرسان".. الضعف البنيوي للجيش قد كشف عن الخواء "المعنوي" لحكومة الاحتلال .. "صولة الفرسان" كشفت عن مرض نقص المناعة الذي يصيب عادة حكومات الاحتلال .. نقص الشرعية يؤدي الى نقص "معنوي" .. والنقص المعنوي بدوره يسبب نقص في الولاء الوطنى .. وبلا ولاء وطني، تتحول البندقية الى كتلة حديد ترمى في اول اشتباك حار .. وحكومة بلا بنادق .. هي حكومة من ورق
.