2009/09/30

بؤس ثقافة الحكواتية .. استكان شاي مع نوربرت إلياس


يُحكى ان رجلاً من جزيرة كريت قال ذات يوم ان الكريتيين (سكان جزيرة كريت) كذابين .. ولكن بما انه هو ايضا من سكان تلك الجزيرة فهذا يعني بنفس المنطق انه هو ايضا كذاب ..وبالتالي فيجب اعتبار مقولته عن كذب الكريتيين نوع من الكذب ولا يجب الأخذ بها !! فلاسفة اليونان يستشهدون بتلك الحكاية مثالا على فخ اللغة الاطلاقية التعميمية .. استحضر تلك الحكاية وانا اطالع مقال طالب الشطري المعنون "سمات المجتمع العراقي".. حيث يقول فيه ان العراقيين كذابين لانهم بحاجة الى الكذب .. العراقيون كذابون .. لنفترض .. ولكن "اخينا بالله" هو ايضا عراقي .. مما يعني بنفس المنطق انه هو ايضا كذاب .. وبالتالي فان مقولته الاطلاقية غير مقبولة .. لانها صادرة عن كذاب .

ومثل هذا الحكواتي يسمونهم عندنا مثقفين !! ومثل هذه البهلوانيات الخطابية تسمى عندنا ثقافة !! لنستمع لبعض بهلوانيات الشطري حيث يقول :"الاعتقاد ان العنف ناتج عن المشكلة السياسية بينما الحقيقة التي اراها هو ان المشكلة السياسية سببها الحاجة الى العنف".. الشطري يريد "تفكيك" المجتمع العراقي وتحديد سماته ولكنه يستخدم درنفيسات "اراها" .. هو يعتقد انه يكفي ان يقول "اراها" لكي تتحول الخطابة الى حجة مقنعة..عندما اقرأ لهولاء الحكواتية افهم كيف ولماذا اصبح شخص كمقتدى الصدر قائدا للملايين في بلد يدّعي ابوة الحضارة وامومة الكتابة .

واحدة من مسلمات علم الانثربولوجيا هو ان الخلاف في المجتمعات البشرية ثابت تاريخي .. وان العنف يظهر فقط عندما تنعدم امكانيات حل الخلاف .. حتى الحيوانات لا تلجأ للعنف من اجل "الحاجة الى العنف" .. بل تلجأ اليه لضرورات حيوية كالغذاء او الدفاع عن حدود اراضيها .. بمعنى ان العنف ليس حاجة وانما وسيلة لاشباع حاجة او للدفاع عن حاجة .. العنف/الحرب تندلع عندما يتعذر حل خلاف ما .. من هنا قول منظّر الحرب كلاوزفيتز : ان "الحرب هي ممارسة السياسة بطرق اخرى" .. بمعنى ان الحرب هي محاولة للتأثير على طرق حل خلاف ما او من اجل خلق ارضية او علاقة قوة تهدف الى حل الخلاف لصالح طرف ما .

لقد عودتنا ثقافة الحكواتية على طُرُق لطرح الاسئلة تُغيّب معنى الاسئلة .. وعلى طُرُق لطرح المشاكل تحجب اسباب المشكل .. وهذا ما يقوم به الشطري هنا حين يقول : "سنظل بلد مسدسات وبنادق ومكاوير وجيوش جرارة من الحمايات بسبب فراغنا الروحي وحاجتنا الى مظاهر القوة".. نحن هنا امام ما يمكن تسميته بثقافة الحكواتية التي لا تملك من حجة غير حكم القيمة .. فواحدة من سِمات ثقافة الحكواتية هي انها لا تقول لنا كيف توصلت الى استنتاجاتها .. وما هي المُسَلَّمات والحجج التي مهدت الى ذلك .. في ثقافة الحكواتية يكفي ان تقدم كليشة مُريحة للرؤوس الاسفنجية لكي تُقيم حجتك .

لو كان الفراغ الروحي كما يقول الشطري هو المسؤول عن تحول بلد ما الى " بلد مسدسات وبنادق" لكانت البلدان الاسكندنافية اليوم في فوضى عارمة .. ولو كانت الروحانيات هي المعيار لكانت سويسرا اليوم كـ قندهار طالبان .. فرنسا القرن الخامس عشر كانت اغنى "روحيا" من فرنسا اليوم .. اثر الدين المسيحي كان قويا في نفوس الناس.. ولكنهم كانوا يعيشون في حرب دائمة وفي خوف وتربص دائم .. وغياب الامن هذا هو ما كان يُجبر الناس على حمل أسلحتهم أينما ذهبوا.. بمعنى ان غياب الامن هذا هو ما جعل فرنسا انذاك "بلد مسدسات وبنادق" .. المقاطعات الفرنسية كانت تقاتل بعضها بعضا .. المدن الفرنسية كانت في خصومة دائمة وعراك دائم .. احياء المدينة الواحدة كانت تتقاتل فيما بينها .. وتفاصيل ذلك التاريخ نجدها في كتاب نوربرت الياس "مسار الحضارة".

السؤال الان هو : اذا كان الدين المسيحي وروحانياته غير كافية لخلق "غنى روحي" وبالتالي سلم مدني في فرنسا ذلك الزمان .. فما الذي ساعد اذا على تكوين هذا السلم .. كيف حصل ان فرنسا التي كانت تستمتع بحفلات حرق القطط وقطع الانوف هي فرنسا اليوم .. وبلغة الشطري، ما الذي حصل لكي تتغير فرنسا تدريجيا من "بلد مسدسات وبنادق" الى فرنسا اليوم ؟ طرح السؤال بهذه الطريقة يوجه الاجابة الى افاق اخرى تغيبها اسئلة الحكواتية.

نوربرت إلياس وهو عالم الاجتماع الأشهر في القرن العشرين يقول ان فرنسا كانت تعيش آنذاك في فوضى "لانه لم يكن هناك قوة رادعة قادرة على فرض الاعتدال والنظام بين الناس. وعندما ظهرت سلطة مركزية قوية في بعض المناطق، وبدأت بإجبار الناس على ترك العنف، بدأت فرنسا تشهد تغييراً تدريجيا في سلوكيات الناس وقيمهم".. وبحسب نظرية إلياس فان السلوكيات المتحضرة هي مسار تدريجي وتراكمي نتج عن نشؤ الدولة وتحكمها "بوسائل العنف المشروع" .. هكذا تكلمت السوسيولوجيا التاريخية.

باختصار .. وخلافا لما تقوله اللغة التحقيرية لحكواتية فاشلين فكريا .. العنف ظاهرة كونية ..وهو ليس حصرا على ثقافة بدوية او عراقية او عربية كما تردد الاسطوانة التحقيرية التي اشاعها امثال علي الوردي بين انصاف المتعلمين .. والدولة القوية القادرة على فرض سلطتها هي شرط اختفاء العنف الاجتماعي .. وليس الروحانيات والخزعبلات .. نحن"بلد مسدسات وبنادق" ليس لاننا نعاني "فراغ روحي".. اخر ما نحتاجه هي الروحانيات .. ماذا اعطتنا قرون من قراءة نهج البلاغة ؟ .. رجال دين يسرقون، يغتصبون الاطفال، ويتحرشون جنسيا بـ "الزايرات" !!

لا،لا.. لسنا بحاجة الى روحانيات .. نحن بحاجة الى قوانين ودولة قادرة على فرض هذه القوانين ..نحن بحاجة الى قيم اجتماعية تنظم شؤون الارض التي نعيش عليها .. وليس الى روحانيات وغيبيات.. فارض الرافدين تموت اليوم قحطا بسبب سموم "الروحانيات" .. ما نحن بحاجة اليه هو انسان يحترم القواعد الاجتماعية ولا يسرق او يحرق ممتلكات المجتمع .. وقرون من روحانيتكم فشلت في انتاج مثل هكذا انسان .. فروحانيات مبدأ الشفاعة لم ولا ولن تخلق غير رعاع معاقين اخلاقيا .. لذلك ومن اجل خلق انسان لا يسرق .. يجب ان يفهم الافراد ان كل تجاوز على المجتمع وقواعد المجتمع وممتلكات المجتمع سَيُحاسب ويُعاقب من قبل سلطة رادعة هنا وألان وعلى كوكب الارض .. وليس في يوم القيامة وبحضور محامي دفاع من "آل البيت".

العراق عندما تخلى عن "خزعبلات الملا" انجز وخلال عقود ما انجزته دول اخرى خلال قرون .. ولكن الاسلامجية الشيعة خرجوا علينا يكفرون الدولة العراقية لانشغالها بالماديات واهمالها روحانيات الشعب وحقوقه في اللطم والتطبير .. وهاهم قد غلبّوا "روحانياتهم" وخزعبلاتهم فماذا كانت النتيجة : حرامية مصارف وعلاسة وسرسرية .. آن الأوان للحكواتية الذين ساروا ذات يوم في مواكب ثقافة اللطم وصرخوا بهوسة دولة "آل البيت" الشيعية في الجنوب ..آن الاوان لهولاء لكي يفهموا ان دولة تُديرها ثقافة مفاتيح الجنة لن تنتج غير الحرامية والعلاسة.. وان "روحانيات" صكوك الغفران لن تنتج غير الارواح الميتة والسرسرية.

2009/09/16

لماذا لم يتوقف ماكيافلي في سوق السراي ؟

فترة الازمات كانت دائما فترة الاسئلة والتأملات الكبيرة في تاريخ البشرية .. كتب افلاطون وارسطو في السياسة كانت نتيجة الازمة التي ضربت المجتمع الاثيني .. كتب ماكيافلي  "الامير" وخصوصا "تاريخ فلورنسا" و"تيتو ليفيو" كانت نتيجة للحروب الاهلية الايطالية .. ماكيافلي كان يبحث عن "امير" ينقذ ايطاليا من الفوضى .. كتاب ليفياثون لتوماس هوبز كان ايضا نتيجة للحرب الاهلية الانكليزية .. السلطة القوية هي اولوية الاولويات كما يقول توماس هوبز.. وبلا سلطة قوية فقانون الغاب هو المصير.. في زمن الازمات تظهر الاولويات السياسية بشكل اوضح .

اليوم وقد اكتملت حلقة كاملة في تاريخ العراق المعاصر .. اليوم وقد وصل الاسلامجية الشيعة الى الحكم نكون قد جربنا في العراق كل التيارات السياسية .. بدءً من التيار الليبرالي في العهد الملكي ومرورا بالتيار الشيوعي والقومي في العهد الجمهوري وانتهاءً بالتيار الاسلاموي الشيعي في "العهد الامريكي" .. واذا كان ممكنا في السابق الحكم على التيارات الأنفة الذكر.. فالحكم على التيار الاسلاموي الشيعي لم يكن ممكنا وذلك لأنهم لم يمارسوا سلطة .. كيف تواجه اناس محملين فقط بشعارات .. حرب خاسرة ان تواجه شعار.. ولكن ستة سنوات من حكم الاسلامجية الشيعة منحتنا من المعطيات ما يمكننا من الحكم على شعاراتهم .. ستة سنوات هي فترة كافية للحكم على شعار.

الاسلامجية الشيعة .. والاهم .. محكيتهم اللطمية هي اليوم امام محكمة الواقع .. وليس هناك اعدل من محكمة الواقع .. كل يوم في السلطة سيفضح اكثر فاكثر تلك المحكية التي قامت على الاكاذيب والمبالغات والنفخ على جمرالاحقاد القرووسطوية .. واذا كان هناك من "ايجابي" في كل الخراب الحالي فهو يكمن هنا .. فوجودهم في السلطة ، ممارساتهم، فسادهم الذي بزوا فيه كل من جاء قبلهم .. كل ذلك سيعيد الى التاريخ العراقي المعاصر ابعاد غيبتها اكاذيب ومبالغات المحكية الشيعية .. فالخراب الحالي في جزءه الاكبر هو نتاج محكية المظلومية الشيعية التي سخرها الامريكي لتنفيذ اغراضه.. ولن يكون هناك عراق ما لم تفكك تلك المحكية الضدية وترمى الى مزبلة التاريخ .

اقول محكية لان الموضة اليوم عند ديكة ثقافة اللطم او عند "تاركي" سفينتها الغارقة هو شخصنة المشكلة من خلال شخصنة المسؤولية .. اي تحميل اشخاص معينين مسؤولية الكارثة .. من هنا اسطوانة "خدعونا".. يقصدون رجال الدين ومن لف لفهم .. وهم بذلك يحاولون التملص من مواجهة مسؤوليتهم .. فخلف اسطوانة "خدعونا" هناك محاولة لعدم الاقرار بشيء في غاية الاهمية .. وهو ان الكارثة الحالية هي نتاج ثقافة وليست نتاج اشخاص .. الكارثة الحالية هي نتاج ثقافة لطمية قرووسطوية .. خلف الكارثة الحالية تقف محكية ضدية تُحتم الاصطدام بالاخر .. وهي محكية مزروعة في ارواح واجساد الكثيرين .. بمعنى ان المسؤولية اكبر من مسؤولية اشخاص .

هذه ليست المرة الاولى التي نُحمّل فيها الساسة مسؤولية كوارثنا .. الم نُحمّل في السابق "الملك"، "الوصي"، "الزعيم"، "الدكتاتور" مسؤولية مشاكلنا ؟ كما لو انهم ليسوا "منا وبينا ومن عدنا" !! من هنا فهذه ليست المرة الاولى التي نسمع فيها اسطوانة "خدعونا" .. انها اسطوانة قديمة قدم اوهامنا الايديولجية .. قديمة قدم سذاجتنا السياسية .. قديمة قدم النظرة الشعرية القيمية السائدة في الثقافة العراقية .. وقد حان الوقت لتوسيع نطاق المسؤوليات .. ثقافة تُحمّل سياسي ما المسؤولية اليوم بعد ان كانت تصفق له فيما مضى هي ثقافة غير جديرة بالاحترام .. خدعونا .. ربما .. ولكن لأننا كنا مهيئين للخديعة وبهذا المعنى فنحن ايضا نتحمل المسؤولية .. لم اعد اذكر من القائل ما معناه : في السياسة عندما تخدع في المرة الاولى فهو دليل عاطفة صادقة او حماس متسرع يحسب لك .. ولكن عندما تخدع في المرة الثانية فانت مذنب وبالتالي مسؤول .

سادتي المخدوعين .. حان الوقت لنظرة واقعية للسياسة .. فكل هذا الخراب يضعنا امام شيء مهم لا مفر من مواجهته .. وهو اننا بحاجة الى قراءة "دار دور" السياسة .. ابجدية السياسة .. آن الاوان لترك سراديب الدجالين ودكاكين الفهلوية المجترين للخطب الاخلاقوية الكاذبة .. حان وقت الجلوس في صف الاستاذ ماكيافلي .. فـ "دار دور" السياسة هي ماكيافلي .. والوعي بالعالم "كما هو" لا كما تقدمة لنا الايديولوجيات هو ماكيافلي .. وطريق الخروج من العقلية الاسطورية القرووسطوية يمر بـ ماكيافلي .. وشرط الدخول الى الحداثة السياسية هو مواجهة الحقائق المرة التي يقدمها لنا ماكيافلي عن البشر والسياسة .. وقد حان الوقت للخروج من مرحلة المراهقة السياسية التي تحكمها النظرة القيمية للعالم .

سادتي "شاربي الشاي" .. آن الاوان لنفهم ان كوكب الارض لا تسكنه الملائكة .. على كوكب الارض هناك بشر فقط .. وعلى كوكب الارض لن ياتي لزيارتكم لا "مهدي" ولا "غودو" .. وطالما انكم بانتظار "غودو" فالخراب هو "المنتظر" الوحيد .. سادتي المخدوعين .. السياسة ليست معركة اسكاتولوجية بين الخير والشر .. السياسة هي الاختيار بين نظام سيء ونظام اسوء .. وبهذا المعنى فان السياسة هي فن الممكن .. وليست فضاء للمطلقات .. وعلينا ان نتذكر ان محكيات الوهم التي ارادت خلق الجنة على الارض انتهت بتحويل الارض الى جحيم .. آه كم كان العراق سيكون مختلفا اليوم لو فهم "ماركس ابو دشداشة" ذلك في الخمسينات .

سادتي المخدوعين .. الاستمرار في الخوض في تجاذبات صريفة بني ساعدة هو استمرار في النظر للعالم من خلال العقلية القرووسطوية .. والنظر للعالم بعقلية قرووسطوية هو استمرار في قتل العالم .. وعليكم ان تختاروا .. اما كهرباء وماء لبيوتكم واطفالكم ..او ظلام دامس للبيوت وللارواح .. وعليكم ان تعرفوا، سادتي المخدوعين، ان ظلمة البيوت هي من ظلمة الارواح التي انتجتها "فيوزات" صريفة بني ساعدة .


كلمة اخيرة .. سادتي المخدوعين .. حيث تغيب "السياسة" (كدراسة ومعرفة للواقع) يظهر الدجل .. وحيث يظهر الدجل يظهر "مقتدى الصدر" .. وحيث يظهر مقتدى الصدر تختفي الحضارة .