2010/09/29

من المسؤول سياسيا الاشخاص ام الافكار؟

عندما اصدر خروشوف في عام ١٩٥٦ تقريرا يدين فيه جرائم ستالين بعد وفاة هذا الاخير.. رفض الكثير من الشيوعيين تصديق ما جاء في هذا التقرير لانه شكل صدمة لمعتقداتهم وافكارهم.. من هنا قولهم ان هذا التقرير كان تقريرا كاذبا ومفبركا من قبل وكالة المخابرات الامريكية ! علماء الاجتماع السياسي يطلقون على هذا السلوك اسم "التناشزاوالتضارب الفكري": عندما تواجه شخصا مؤدلج فكريا بحقائق تناقض معتقداته وافكاره فان اول شيء يقوم به هو انكار تلك الحقائق التي تجرح نرجسيته الفكرية.. اما عن طريق محاولة اهمال تلك الحقائق لاطول فترة ممكنة او عن طريق نقدها وتكذيب محتواها والتشنيع بقائلها.. وهذا ما يعيشه الاسلامجية الشيعة اليوم.. فمنهم من ينكر او يتجاهل الحقائق التي تؤكد فشل الاسلامجية الشيعة في السلطة.. ومنهم من يحاول ايجاد التبريرات لهم.

يوم امس نشر كاتب اسلامجي مقال يقول فيه ما معناه بان النظرة السلبية السائدة اليوم تجاه "الاسلاميين" هي "نظرة لا تخلو من التطرف او التعميم باعتبار ان الخطأ من الاسلامي يعمم على الجميع بينما اخطاء غيرنا من العلمانيين لا تنسب الا الى اصحابها .... عندما يخطأ العلماني لا نقول اخطأت العلمانية بينما لو اخطأ اسلامي فنقول اخطأ الاسلاميون ثم نرتب اثراً عملياً على فشل الاسلام السياسي بسبب استئثار المحسوبين عليه بالغنمية واغراءات السلطة وهذا ظلم فادح وتعميم باطل".

ينبغي الاشارة هنا الى ان التبريرات الشيوعية لجرائم ستالين كانت تستعين بنفس الحجة وفحواها هو ان الاخطاء التي رافقت الحكم الشيوعي سببها اخطاء شخصية وليست الايديولوجية الشيوعية.. بمعنى ان شخصية ستالين هي السبب وليس الايدولوجيا الشيوعية.. ولكن تلك التبريرات تفشل في الاجابة على سوأل: لماذا انتجت الشيوعية "جمهوريات اسلاك شائكة" في مناطق وثقافات كثيرة حول العالم؟

ثانيا.. "صاحبنا" الاسىلامجي يتسائل لماذا "عندما يخطأ العلماني لا نقول اخطأت العلمانية بينما لو اخطأ اسلامي فنقول اخطأ الاسلاميون ثم "نستنتج" فشل الاسلام السياسي".. وهو قول يحتوي على كذب فاضح.. ومراجعة سريعة للادبيات الاسلاموية ستبين ان الاسلامويين حمّلوا العلمانية مسؤولية اخطاء ارتكبها اشخاص ينتمون فكريا الى فضاءها.. ومع ذلك فتساؤل صاحبنا يحتوي على تناقض كبير يمكن فضحه عبر طرح سوأل معاكس: "لماذا عندما يُصيب اسلامجي تقولون ان الفضل للاسلام السياسي وعندما يخطئ فالسبب هم الاشخاص رغم ان الاسلام السياسي يقوم ضمنيا على فرضية تُقدم العقيدة على الاشخاص؟
ثالثا.. والتناقض هنا اكبر، اذا كانت القضية قضية اشخاص وليست قضية افكار وعقائد .. فلماذا اصدرتم قانون اجتثاث البعث؟ بتعبير اخر، لماذا عندما يخطئ بعثي تدينون الفكر البعثي، ولكن عندما يخطئ الاسلامجي فالشخص هو المسؤول وليس العقيدة.. لماذا عندما يفشل البعث في السلطة تدينون الفكر البعثي.. اما عندما يفشل الاسلام السياسي الشيعي فالاشخاص هم السبب وليست العقيدة؟ ومقارنة صاحبنا بين العلمانية والاسلام السياسي ما هي الا محاولة للتهرب من المقارنة بين عقيدتين وتجربتي حكم (البعث والاسلام السياسي الشيعي).. فالعلمانية ليست حزبا اوعقيدة لكي يتم مقارنتها بالاسلام السياسي.. العلمانية تقنية حكم تهدف الى فصل الدين عن الدولة .

هاينريش هاينه احد اصدقاء كارل ماركس وخصمه فكريا كان يقول ان روبسبير كان يد جان جاك روسو.. وهو يريد ان يقول ان افكار روسو الراديكالية لعبت دورا في سلوكيات روبسبير العنيفة التي جعلت من المقصلة وسيلة الفعل السياسي الوحيدة.. بمعنى ان الافكار التي يتبناها سياسي ما لها دور مهم في سلوكه السياسي.. الاسلامجية الشيعة يرفضون قبول حقيقة ان العنف السياسي الحالي هو ايضا نتيجة للفكر الطائفي الكامن في المحكية الشيعية..لذلك تراهم يركزون على شخصنة المسؤولية.. وانكارهم لمسؤولية محكيتهم القرووسطوية في الخراب الحالي يدفعهم للهروب في تبريرات متناقضة وبعض الاحيان فنطازية.. من هنا اعتقاد بعضهم ان فشل الاسلامجية الشيعة في السلطة هي مؤامرة امريكية ضد الشيعة!! وهذا بالتحديد ما كان يقوله الشيوعيون بخصوص تقرير خورشوف: تقرير مفبرك من قبل المخابرات الامريكية ! وهذا السلوك يبين ان الاسلامجية الشيعة المتكلسين فكريا يختبرون اليوم ظاهرة التضارب الفكري.

2010/09/19

هل هناك ثورات في السياسة ؟

Une révolution est toujours inaugurée par des naïfs, poursuivie par des intrigants, consommée par des scélérats. Paul Bourget

"المستشار الثقافي" للتيار الصدري خرج علينا قبل ايام بمقال عنوانه "هل تأكل الثورة ابناها" .. يقول فيه "ان كل ثورة في الأرض يخطط لها المفكرون ، ويقوم بها المحرومون ، ويجني ثمارها الإنتهازيون" .. ثم يضيف قائلا انها مقولة "تمتلك من المصداقية ما يجعلني أطابقها على أطر الوضع الحالي في العراق ، لأجد أنها تمتلك مصداقاً وانطباقاً عجيبين على القوى السياسية" .

ساضع جانبا مسألة ان "المستشار الثقافي" يسمي عملية احتلال العراق ثورة .. وساضع جانبا، لكي لا اصاب بالغثيان، قول المستشار الثقافي "أن قائل هذه العبارة كان قد اتكأ في عبارته هذه على قول "الله سبحانه وتعالى" : فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏" .. تصورا حجم الاستخفاف بعقول الناس!

ما يستوقفني هو ان المقولة كما يوردها "المستشار" الثقافي هي مقولة مزورة ومحرّفة تعود في الاصل لكاتب فرنسي اسمه بول بورجيه، يقول فيها: "الثورة يفتتحها دائما سُذّج، ويواصلها مغامرون ، ويختتمها مجرمون" .. اذا من اين جاءنا "المستشار" بنسخته الفلمهندية ؟ قليل من الاحترام لعقول الناس لا يضر !!

المستشار يعترف بعد ذلك على مضض قائلا "أن الوضع الحالي في العراق هو أسوأ من الوضع السابق في بعض المعطيات".. والمستشار هنا يستيقض كاغلبية الشيعة من وهم المظلومية الذي استمر قرون .. ليجد نفسه امام كابوس السلطة الشيعية الفاسدة .. كيف ولماذا وما السبب ؟؟ لسؤ حظنا وحظ العراق المستشار لا يمتلك الادوات الفكرية التي تمكنه من طرح ومناقشة هذه الاسئلة الحيوية لمستقبل العراق !! لسوء حظنا وحظ العراق المستشار الثقافي لا يملك غير اقوال مجترّة .. والادهى محرّفة!

لنكن واضحين .. المستشار الثقافي عندما يطرح الازمة الشيعية الحالية من خلال مقولة الثورة تأكل ابناها.. فهو يغلب البعد الشخصي القيمي على البعد البنيوي السوسيولوجي للسلطة .. فهو يتطرق للموضوع من خلال شخصنة المسؤولية .. معتقدا ان وضع مفكر او محروم في مكان من يحكمون اليوم سيغير الامور.. في حين ان المشكلة بنيوية تتعلق بالسلطة التي تفرض على من يتصدى للسلطة ضرورات لاتصمد امامها القيم والمعتقدات الشخصية.

مشكلة "المستشار" هو انه لازال ينام في افكار "المدينة الفاضلة" الافلاطونية حيث يحكم المفكر الفيلسوف مجتمع طوباوي .. ما لا يعرفه المستشار ومعه الثقافة الشعرية السائدة في العراق هو ان تسعة من تلامذة افلاطون ومقربيه تحولوا الى حكّام دكتاتوريين ما ان استلموا السلطه .. كما يقول كارل بوبر في كتابه الرائع "المجتمع المفتوح واعدائه" .. كل القيم والاخلاق الطوباوية لاتستطيع شيئا امام اختبار السلطة .. وفرضية بوبر في كتابه هذا يمكن تلخيصها كما يلي : حيث تجد البؤس السياسي والاجتماعي ابحث عن الطرح الطوباوي فهو اصل البلاء لانه طرح محتقر للواقع ويستند فقط للافكار.
النزعة الطوباوية الاسكاتولوجية هو اهم ما يميز المنظور الشيعي للسلطة ..الغالبية من ائمة الشيعة لم يمارسوا سلطة .. لم يواجهوا اختبار السلطة.. "الامام" الوحيد الذي مارس السلطة هو علي ابن ابي طالب .. وفترة حكمة كانت من اكثر الفترات فوضى واقتتال اهلي في التاريخ الاسلامي .. وهذا الفشل التاريخي على ارض الواقع دفع الشيعة الى الهروب الى "العوالم الخلفية" .. هروب الى الفكر الطوباوي الذي يحلم ساذجا بمجتمع خال من الصراع.. وهو اعتقاد يخالف كل المعطيات التاريخية والانثروبولوجية.
خطورة الفكر الطوباوي تكمن في كونه لا يطبق افكاره هنا والان وعلى كوكب الارض .. لا .. هو يرسلنا دائما الى المستقبل .. الفكر الطوباوي هو مشروع سياسي مؤجل باستمرار .. من هنا فكرة المهدي المنقذ الذي سينشر العدل والسلام بين البشرية كما تقول لنا المحكية الشيعية الاسكاتولوجية.. المنطق التاريخي يقول لنا ان علي ابن ابي طالب وهو "الامام الاكبر" لم يستطع توفير السلم لمدينة صغيرة كالكوفة.. فكيف سيستطيع المهدي وهو الامام الاصغر نشر العدل والسلام بين البشرية !! هنا يكمن الاحتقار الشيعي للتاريخ ولتجارب التاريخ.

الشيعة اليوم يحكمون.. وهو شيء ايجابي.. لان نزول الفكر الشيعي الطوباوي الى ارض الواقع وتصديه لمهمة السلطة سيؤدي الى فضح هشاشة الاحكام القيمية المجردة عن السلطة التي ظل الشيعة يجترونها خلال قرون .. الطوباويون ينزلون اليوم الى ارض الواقع .. والواقع مقبرة للمحكيات الطوباوية .. وهذا ما يعيشه الشيعة اليوم.. ومن هنا حيرة "المستشار"!
باختصار.. ما لا يفهمة "المستشار الثقافي" ومعه الكثير من الكتاب الشيعة الذين ربتهم الافكار الطوباوية القرووسطوية هو ان جوهر السياسة ثابت تاريخيا.. سواء اكان الحاكم "اماما" او غير امام .. تلميذا لافلاطون او غبي كمقتدى الصدر .. مسلما او مسيحي .. سني او شيعي .. فسيان .. كل انسان هو مشروع تسلط ما لم يكبح بمؤسسات مؤطرة لسلطته.. تجربة المالكي في الحكم تُكذِب خطابات نهج البلاغة المفبركة والطوباوية !! 

واخيرا .. نعم "هناك ثورات سياسية، ولكن ليس هناك ثورات في السياسة" كما يقول جوليان فروند مستندا الى فكرة عالم الاجتماع الايطالي باريتو.. الذي يقول : تتغير الانظمة السياسية ولكن جوهر السياسة وهو الصراع على السلطة والنفوذ هو ثابت تاريخي.. فاهلا بكم على كوكب الارض!