2011/12/31

في البدء كانت الاساطير .. استكان شاي مع فردريك دِليتش


 اطلعت مؤخرا على مقال لـ سليم مطر يقول فيه ان منظمة سرية عالمية تتحكم بامريكا وغالبية الدول الغربية هي من دفع امريكا لاحتلال العراق ليس بسبب مواردة النفطية او بسبب موقعه الاستراتيجي في الشرق الاوسط وانما لاسباب سرية اهم ..سليم مطر الذي يورد قناعاته في هذا المقال مختفيا خلف قناع عضو في هذه المنظمة السرية يقول ان هناك "قوى جبارة خفية مجهولة اختارت الشرق الاوسط ليكون موطنها. وقد اختارت عاصمتين لها: الاولى في مصر حيث توجد حضارة روحانية أخروية جوهرها تقديس الحياة الاخرى، لهذا فأن اعظم رموزها هي (الاهرام)، وكتابها المقدس هو(كتاب الموتى). والعاصمة الثانية في العراق حيث توجد الحضارة العراقية وهي النقيض تماما للمصرية، لانها مادية دنيوية لا تؤمن بالحياة الاخرى ولا بجنة موعودة، بل غايتها الدنيا والمتعة، لهذا فأن اعظم رموزها هو (برج بابل والجنائن المعلقة) وهي رموز دنيوية غايتها العظمة والمتعة، اما كتابها المقدس فهو(قصة كلكامش)..اما لماذا قررت المنظمة السرية احتلال العراق وليس مصر فذلك لأن الحضارة المصرية حضارة مسالمة، لم تنبثق فيها دولة توسعية ولم تمارس الغزو الخارجي وهي لا تخيف ولا تنافس المنظمة السرية او الغرب.اما الحضارة العراقية فهي نارية استحواذية توسعية، لهذا كان العراق مقرا لامبراطوريات كبرى توسعية منذ البابلين والآشوريين، وصولا لأخطرها امبراطورية العباسيين فهي لذلك المنافس الاكبر للحضارة الغربية التي هي صورة محدثة عنها، أي ذرورة الحضارة المادية الدنيوية. انتهى.

لن اتطرق لكل المغالطات التي يحويها مقال سليم مطر لان ذلك سيحتاج الى اكثر من مقال .. ولكنني ساركز على الاسس التي يبني عليها حجته .. ضرب هذه الاسس كفيل بهدم خطابه الاسطوري اللاتاريخي .. اولا، سليم مطر يخلط بين الثابت الجغرافي (ارض الرافدين) والمتغير التاريخي (الانظمة السياسية والايديولوجيات التي قامت على تلك الارض) .. من هنا فالعراق والعراقي في قرأته هما ماهية ثابته غير قابلة للصرف التاريخي .. هناك روح عراقي عابر للقرون اياً كان الجسد او المكان .. كلكامش ومقتدى الصدر يمتلكان نفس الروح العراقي .. حمورابي وعبد حمود .. سيان .. ما يؤمن به سومري من اور هو نفس ما يؤمن به شروكي من مدينة الناصرية .. اسس ومعتقدات الامبراطورية الاشورية هي نفس اسس ومعتقدات الامبراطورية العباسية .. باختصار .. من نبوخذنصر الى صدام حسين: "امة عراقية" واحدة ذات رسالة خالدة !! وهذا سخف فكري يطلق عليه علماء التاريخ اسم المغالطة التاريخية .. وهو خطأ شائع في الوسط الثقافي العراقي الذي يقرصنه امثال سليم مطر.

 ثانيا، وخلافا لما يقوله سليم مطر فان مادية او روحانية حضارة ما، لا يحدده ايمانها او عدم ايمانها بالحياة الاخرى او بجنة موعودة .. فهناك ثقافات روحانية (كالبوذية مثلا) وحضارات (كالصينية) ليس فقط انها لا تؤمن بالحياة الاخرى او بجنة موعودة بل انها شيدت مفهومها الديني والاخلاقي من دون رب .. من هنا فعدم ايمان الحضارة "العراقية" القديمة بالحياة الاخرى او بجنة موعودة لا يكفي ليجعل منها حضارة مادية ودنيوية.. ثم تعال ارجوك وقل لي .. من قال ان فكرة الجنة الموعودة هي فكرة روحانية ؟؟ ان تفعل الخير في هذا العالم لكي تحصل على مكافأة في الحياة الاخرى هي فكرة في قمة النفعية وليست روحانية بالمرة .. انها مقايضة مادية مع الرب .. وهذا بالتحديد ما تعيبه الفلسفات الروحانية على الاديان التوحيدية. 

ثالثا، سليم مطر يقول ان حضارة ما بين النهرين هي مادية ودنيوية لان اعظم رموزها (برج بابل) هو رمز دنيوي غايته العظمة والمتعة.. وهذا استهتار بحقائق التاريخ .. فبرج بابل بحسب علماء الاثار هو زقورة .. والزقورة في حضارة ما بين النهرين هو معبد لخدمة الرب .. وبهذا المعنى فـان "برج بابل" هو رمز ديني وليس رمزا دنيويا كما يعتقد سليم مطر ..سليم مطر يرتكب هذا الخطأ التاريخي لانه يعتمد على اسطورة "برج بابل" التي اشاعتها المحكية التوراتية الضدية ومفادها ان بابل هي مدينة دنيوية ولا اخلاقية وان "برج بابل" ذو الارتفاع الشاهق كان نوع من التطاول على الاله .. في حين ان البابليون شيدوا هذ البرج الزقورة اجلالا وتقربا للاله مردوخ ..لان بابل كانت تعتبر نفسها "المدينة المقدسة" التي يقيم فيها الاله..من هنا تسمية "بابل" التي تعني بالاكادية "بوابة الاله". 

وكل هلوسات سليم مطر في مقاله تستند في الواقع الى هذه الاسطورة وبالتالي الى فهم مغلوط للمعتقدات الدينية لحضارة ما بين النهرين.. فالعقيدة الدينية الاولى لحضارة ما بين النهرين تنص على ان الالهة خلقت البشر لكي يقوموا بخدمتها.. لقد كان الناس انذاك يعتقدون ان كل ما يجري في هذا العالم صادر عن ارادة الهية.. وان كل خطأ مهما كان حجمه هو تمرد ضد الالهة وهو ما يستدعي عقوبة الهية .. ويمكن الرجوع في هذا الموضوع الى كتاب " في البدء كانت الالهة" لـ جان بوتيرو .. وهو من افضل المختصين في حضارة ما بين النهرين.. بوتيرو يلخص عقيدة الرافديني القديم كالتالي : " اذا كنت اعاني، فهذا يعني انني معاقب من قبل الالهة، وبما ان الالهة  قد عاقبتني فهذا يعني انني ارتكبت خطيئة بحقها".. باختصار.. حضارة ما بين الرافدين لا تؤمن بالحياة الاخرى ولا بجنة موعودة لانها كانت تعتقد ان العقوبة الالهية تنزل على البشر في حياتهم وليس بعد مماتهم .. والرافديني القديم الذي كان يعتقد ان ظواهر طبيعية كالبرق اوالفيضان هما عقوبات الهية كان يلجأ للصلوات والنذور خوفا من غضب الالهة او انتظارا لغفرانها .. وطبقة رجال الدين (كما هو دورها في كل زمان ومكان) كانت تسهر على افزاع الناس من اجل سرقة نذورهم .. وسليم مطر يقول لنا ان حضارة ما بين الرافدين كانت مادية غايتها الدنيا والمتعة!!  

لقد عانت بابل خلال قرون من المحكية الاسطورية التي اشاعتها التوراة .. وظلت هذه  المحكية الاسطورية سائدة حتى الثلث الاخير من القرن التاسع عشر ..حين تمكّن البريطاني جورج سميث في عام ١٨٧٢ من اكتشاف وقراءة لوح طيني يسجل قصة الطوفان التي ترد في التوراة .. ثم تبين له تدريجيا ان الالواح الطينية البابلية تحتوي على قصص اخرى موجودة في التوراة .. مما دفعه للاستنتاج بان التوراة قد استعارت الكثير من معتقداتها من البابليين.. وقد قام سميث بنشر هذه الاستنتاجات في كتاب عام ١٨٧٥.. وبالرغم من هذا الاكتشاف الاركيولوجي الهائل استمرت المؤسسة الدينية المسيحية بالترويج لفكرة التفوق الروحي والاخلاقي للتوراة مقارنة بالعقائد البابلية.. وقد جاء الرد على هذا الادعاء من البروفيسور الالماني فردريك دِليتش في محاضراته الشهيرة "بابل والتوراة" .. لقد قام البروفيسور دِليتش بتحليل ومقارنة قصة الطوفان في النسختين البابلبة والتوراتية وبرهن ان البعد الاخلاقي والروحي في القصة البابلية هو اكثر انسانية مما هو موجود في القصة التوراتية .. ليس هذا وحسب بل انه بيّن ان البابليين كانوا في طريقهم نحو فكرة الاله الواحد وبهذا المعنى فان فكرة التوحيد هي فكرة بابلية وليست يهودية .. لقد كان لاراء البروفيسور دِليتش وقع العاصفة الفكرية في المانيا واوربا.. مما دفع احد رجال الدين بالكتابة للقيصر مشتكيا :" ان حديث الشارع الالماني هو ان الكتاب المقدس لم يعد له قيمة".. لقد كانت محاضرات البروفيسور دِليتش المسمار الاخير في نعش الاسطورة التوراتية.. منذ ذلك الوقت اصبح معروفا ومقبولا في الاوساط العلمية ان الديانات التوحيدية هي في الحقيقة مسار نشأ وتطور في البقعة التي تسمى اليوم بالمشرق العربي .. والاستعارات والنسخ فيما بينها هو امر لايخفى على عاقل.. كل دين جديد يظهر كان ينتقد السابق بحجة انه حاد عن الطريق القويم .. وهذا بالتحديد ما فعلته التوراة مع الديانة البابلية حين اشاعت اسطورة ان بابل هي مدينة دنيوية غايتها الدنيا والمتعة لذلك دمرها الاله.. وهذا ما يروج له سليم مطر اليوم. 

باختصار.. سليم مطر الذي يعتقد ان منظمة سرية دفعت امريكا لاحتلال العراق لان حضارته دنيوية من صنع "قوى جبارة خفية مجهولة، لغتها الرموز الكونية وابراج النجوم".. هو عندي لا يختلف عن الدجال محمد صادق الصدر الذي يقول في هذا الفيديو ان "امريكا  اسست قوات التدخل السريع وافتعلت حرب الخليح لاجل ان تملىء الخليج بالبوارج الحربية تحسبا لظهور المهدي .. وان للمهدي ملف كامل في البنتاغون ولكنهم لايملكون الصورة الشخصية له"!! فكلاهما يروج لمنطق غيبي اسطوري .. وهذا المنطق الغيبي الاسطوري هو بالتحديد سبب خراب العراق ..فالعراق وصل الى ما وصل اليه لان فيه قادة اغبياء اعتقدوا كما سليم مطر انهم ورثة نبوخذنصر فارتكبوا الحماقة السياسية تلو الحماقة.. والعراق وصل الى ما وصل اليه بعد ذلك لان فيه شعب متناحر لا زال يستنشق غبار معارك الجمل ..شعب "زقورات" واضرحة يغتصبه فكريا رجال الدين والفهلوية .. شعب يسمي امثال سليم مطر مثقفين وامثال مقتدى الصدر قادة !!

2011/12/21

العالم بالمقلوب .. محاكمات قاسم عطا !!


قرأت مؤخرا كتاب"النفس المبتورة" للكاتب الايراني داريوش شايغان .. وهو كتاب نقدي للتشوهات التي تعاني منها المجتمعات الاسلامية نتيجة موقفها المزدوج من الحضارة الغربية .. فهي تستعير كل منتجات الغرب ولكنها تحتفظ بعقلية القرون الوسطى .. شايغان  يكرس جزء كبير من كتابه لايران ما بعد الثورة الايرانية .. لم يعجبني الجزء النظري في كتابه (ربما بسبب الترجمة الرديئة) .. ولكن تحليله للتغيير المجتمعي الذي حصل في ايران بعد مجيء الملالي، وخصوصا وصفه لشخوص هذا التغيير اعجبني كثيرا..هناك في الكتاب بعض المقاطع المكتوبة بتسجيلية رائعة .. ساضع هنا نكتة طريفة شاعت بعد الثورة الايرانية .. يوردها شايغان ليدلل على انقلاب المفاهيم في المجتمع الايراني ما بعد الثورة .. حيث اصبح العالم يعمل بالمقلوب .. النكتة تقول:

" يروى ان رجل مغترب عاد للبلد بعد غياب عدة سنوات. وما ان وصل الى مطار طهران، حتى اخذ سيارة تاكسي لتقله الى بيته. في منتصف الطريق، طلب الرجل من سائق التاكسي التوقف امام بائع سجائر. فسأله سائق التاكسي :
ـ لماذا التوقف يا سيدي؟
ـ لاجل شراء السجائر.
ـ السجائر!!! السجائر تباع في الجامع.
ـ لكن الجامع بيت الله ويُذهب اليه للصلاة.
ـ خطأ !!!  للصلاة، يا سيدي، يجب الذهاب للجامعة. 
ـ  واين تجري الدراسات اذا؟
ـ يا سيدي الكريم، الدراسات تجري في السجن.
ـ ولكن السجن هو المكان الذي يُوضع فيه المجرمين.
ـ خطأ !!! المجرمون، يا سيدي الكريم ، يوضعون في الحكومة."

شايغان يعلق على هذه النكتة المفعمة بالرمزية فيقول :" جميع الوظائف تبدلت في هذه النكتة .. فالدين تحول الى تجارة رابحة ، والجامعة الى حسينيات والسجن ملاذا لاساتذة الجامعات والحكومة للمجرمين".

هذه النكتة تصف ايضا حال العراق بعد مجيء المليشيات الشيعوية للسلطة .. ربما الاختلاف الوحيد في العراق هو ان اساتذه الجامعة والعلماء قد جرى تصفيتهم او تشريدهم .. لذلك فان "الدراسات" لاتجري في السجن كما هو الحال في الحالة الايرانية وانما في "القبر" او في المهجر!! فالحكومات في عراق ما بعد الدبابة الامريكية هي عبارة عن شلة مجرمين .. مَن لم يقتل او ساهم في سياسة القتل او التهجير الطائفي فهو قد سرق او ساهم في سرقة الملايين .. وكلاهما مجرم .. اما بخصوص حال الجامعات، فانت عندما تشاهد اليوم صور الجامعة المستنصرية ذات المعمار الرائع .. ستعتقد انك في حسينية من كثرة السواد الذي يغطي جدرانها .. جمال مطلق تحوّل الى قبح مطلق .. اما عن تحول الدين الى تجارة رابحة فحدث ولا حرج. 

ما جرى في العراق في الايام الاخيرة يؤكد ايضا ان الحكومة في العراق العماماتي هي مافيا .. والدليل هو قيام "محكمة قاسم عطا" (التي بزت محاكم ستالين في سرعة انتزاعها للاعترافات التلفزيونية ) باتهام طارق الهاشمي باعطاء اوامر لحمايته بارتكاب اعمال ارهابية .. ليس من المفيد التذكير هنا بأن اسلوب الاعترافات التلفزيونية هو اسلوب مرفوض حسب المعايير القانونية الدولية .. وليس من المفيد التذكير ايضا بأن لا احد في العالم باستثناء مشاهدي قناة العراقية صدّق هذه الاتهامات ذات الدوافع الطائفية.

لا ولن ادافع عن طارق الهاشمي .. خصوصا وهو قد شارك في المشروع الامريكي الذي وضع في العراق برميل بارود طائفي وسماه ديمقراطية !! ولكنني اعتقد ان اتهام نائب رئيس جمهورية المنطقة الخضراء هو مناسبة جيدة لفتح تحقيقات ولو نظريا مع كل المجرميين الذين وضعتهم امريكا في السلطة واجراء محاكمات لهم .. اقول محاكمات وليس محاكم تفتيش على شاكلة محاكم قاسم عطا.. تصورا عندها حجم التهم التي ستوجه الى حكومة ضمت وتضم بين صفوفها مجرمين من مثل صولاغ او هادي العامري .. او عادل عبد المهدي الذي سرقت حمايته مصرف الزوية .. ولما لا مقتدى الصدر قائد "جيش الضال" الذي قام بأكبر مذبحة جماعية في تاريخ العراق .. عندها لتكن المقولة التي تُنسب للمسيح مدافعا عن امرأة اتهمها الناس بالزنى هي المعيار : "من لم يزنِ منكم فليرمها بحجر".