2012/02/29

ازبال التاريخ العراقي المعاصر


نشرت صحيفة هاريتز الاسرائيلية في طبعتها الانكليزية مؤخرا مقال  لـِ اماتزيا برام تناول فيه بعض اسرار الارشيف العراقي الذي استولت عليه الولايات المتحدة بعد غزوها للعراق عام ٢٠٠٣ .. اماتزيا برام لمن لا يعرفه هو "اكاديمي" اسرائيلي متخصص في الشؤون العراقية وله بحوث كثيرة في موضوع الهوية العراقية .. وهو واحد من الباحثين الذين سمحت لهم الولايات المتحدة بالاطلاع على هذا الارشيف بسبب قربه من دوائر القرار الامريكي.. يستوقفني في مقال اماتزيا برام قول لـ طارق عزيز في احد اجتماعات القيادة في التسعينات.. طارق عزيز يقول "ان البحوث التي تقوم بها الجامعة الاسرائيلية عن العرب وعن العراق مذهلة. وان الاسرائليين يستخدمون هذه الابحاث الاكاديمية (التي تركز على الخلافات المذهبية والعرقية )لاثارة هذه الخلافات بين العرب من اجل اضعافهم وتجزئتهم". 

لا اعرف النتاجات الاكاديمية الاسرائيلية عن المجتمعات العربية .. ولكنني قرأت بعض النتاجات الاكاديمية الاسرائيلية المترجمة للانكليزية عن المجتمع العراقي.. وهي فعلا تركز بمرضية عن موضوع انعدام الهوية بين مكونات المجتمع العراقي.. واماتزيا برام هو اكثر من ركز على هذا الموضوع ولهذا السبب استعانت به دوائر القرار الامريكي قبل احتلالها للعراق.. ولكن يجب القول ايضا ان البحوث الاكاديمية الاسرائيلية معمولة بشكل جيد ووفقا لمنهجية البحث العلمي.. وثراء معلوماتها عن تاريخ "المجتمع" العراقي مذهل.    

ما لا يقوله طارق عزيز النائم في دفء نظرية المؤامرة هو ان البحوث الاكاديمية الاسرائيلية تتطرق ايضا لحالة التشظي السائدة في المجتمع الاسرائيلي.. وكل من اطلع على هذه البحوث يعرف ان المجتمع الاسرائيلي تنخره صراعات حادة بين مكوناته .. بين اليهود الارثودوكس وبين العلمانيين.. وبين الاشكناز(اليهود من اصول اوربية) والسفاراد (اليهود من اصول شرقية).. ناهيك عن الصراع بين اليهود وعرب ٤٨.. انا شخصيا قمت قبل سنوات بدراسة النظام السياسي الاسرائيلي الذي يمتلك اعقد نظام برلماني في العالم بسبب حالة التشظي المجتمعي في اسرائيل.. ووجدت مثلا ان كليشة :"عراقيان ثلاثة احزاب" التي سادت في خمسينيات وستينيات العراق والتي وضعها حنا بطاطو للاسف عنوانا لاحد فصول كتابه.. هي في الاصل مقولة يهودية : "يهوديان ثلاثة اراء".. وهي مقولة كانت تطلق وصفا لحالة التشرذم التي كانت سائدة داخل الوكالة اليهودية في بداية القرن العشرين.. وانا اعتقد انها انتقلت للعراق عبر يهود العراق.. وهي مقولة لا زالت سائدة اليوم في اسرائيل لانها تصف حالة التشظي داخل المجتمع اليهودي. 

نعم لقد نجح الحقل الاكاديمي الاسرائيلي بفرض رؤية ثقافوية عن الصراع داخل مجتمعنا.. لانه ينطلق من معطيات واقعية (التشظي الاجتماعي عندنا حقيقة قائمة على ارض الواقع).. ونجح في تعميم هذه الرؤية لانه اتبع منهجية بحثية رصينة رغم انها لا تخلوا من اسقاطات ايديولوجية.. والاهم هو انه نجح لاننا تركناه وحيدا في هذا الاطار.. امام حقيقة تشظي مجتمعنا اتبعنا ولا زلنا نتبع سياسة النعامة.. امام واقع مجتمعنا المتشظي اكتفينا بمحكية اسطورية عن العراق الذي عمره سبعة الاف عام.. امام بحوث تعتمد على حقائق تاريخية، فضلنا الشعارات ونظرية المؤامرة.

خطورة هذا الموقف الشعاراتي يكمن في انه منع موقف اخر اكثر صحة تجاه تشظي المجتمع العراقي.. كان بالامكان طرح "الهوية" العراقية كواقع معقد.. كمشكل.. وبالتالي كسؤال ومحاولة اجابة عن هذا السؤال من خلال عرضه ومناقشته اكاديميا وربما ايجاد حلول له.. وهذه المواجهة مع الذات كان سيكون لها فوائد على المجتمع من منظور سايكولوجي.. فمناقشة مشاكلنا "بصوت عالي" هي طريقة علاجية ناجحة.. ونحن قد فضلنا دفن مشاكلنا تحت اكوام من الشعارات.. والمجتمع الاسرائيلي متفوق علينا سياسيا لهذا السبب.. فهو لايخاف من التطرق لمشاكله علنا.. ومراكز البحوث الاسرائيلية  تنشر احصاءات سنوية عن مكونات المجتمع الاسرائيلي (من عرق وديانة ولغة الخ) مدعومة بالارقام.. اما عندنا فقد رفضت السلطات العراقية درج المذهب في تعداد السكان تحت شعار الهوية العراقية فوق الانتماءات الاولية.. والنتيجة هو ان الاكاذيب حلت محل الحقيقة.. فنسبة الشيعة التي قدرتها احصائيات الخمسينات بـ ٥١ ٪  من السكان.. تحولت الى ٧٠٪ في دفاتر المعارضة الشيعية.. ومثل هذه الاكاذيب والمبالغات التي سخرتها امريكا في مشروعها هي من قتلت العراق في السنوات الاخيرة.

ما لا يقوله طارق عزيز ايضا هو ان الحقل الاكاديمي العراقي الذي انتج دراسات رائعة في الخمسينات والستينات تحول تدريجيا وبسبب انعدام الحرية الى دكاكين حزبية.. وشاعت نتيجة لذلك دراسات متحزبة تفتقد لابسط قواعد البحث العلمي.. وقد كان لذلك نتائج كارثية على تاريخ العراق المعاصر ونحن اليوم ندفع ايضا ثمن ذلك.. فغياب حقل اكاديمي عراقي رصين ومستقل يلعب دور الحكم في البحوث والدراسات التي تتطرق لتاريخ العراق المعاصر.. اضافة الى غياب الحرية.. جعلا التطرق للتاريخ العراقي المعاصر حكرا على الاقلام الموجودة خارج العراق.. والادهى ان اغلبيتها هي اقلام معارضة.. والنتيجة هو ان تَحزُّب المحكيات الرسمية في الداخل قابله تحزّب المحكيات المعارضة في الخارج.. وفي هذه المواجهة المتحزبة كانت الحقيقة التاريخية هي الضحية.

حاول ان تقارن مثلا بين ما يقوله طالب شبيب مع ما يقوله هاني الفكيكي عن حدث عايشه الاثنان سويا (وكلاهما من قيادات البعث في الستينات).. ستجد ان ما يقوله طالب شبيب يناقض ما يقوله الفكيكي إن لم يُكذّبه.. فما بالك بحجم الهوة بين المحكية الشيوعية والبعثية.. او بين المحكية البعثية والشيعوية.. وهذا يعطينا فكرة بسيطة عن الالغام التي يحفل التاريخ العراقي المعاصر.. وكل هذا بسبب غياب حقل اكاديمي متخصص ومستقل.. لقد قتلت جمهوريات الاسلاك الشائكة الحرية الفكرية.. وجعلت الخطاب الرسمي هو الحقيقة الوحيدة المسموح بها.. وفي هذه الصحراء الفكرية اصبح كل ما يخالف خطاب السلطة مرغوب.. لان كل ما هو ممنوع مرغوب.. وبالتالي تحولت اكاذيب وكليشات كتاب معارضين الى حقائق تاريخية.. واصبح بامكان اي كويتب ان يرمي زبالته الحزبية او الطائفية امام بوابة التاريخ العراقي المعاصر.. والعراق يموت اليوم بسبب تراكم هذه الازبال.

2012/02/19

في وداع قلم انيق


"انطوني شديد كعادته لا يستقي معلوماته من السياسيين او من المنطقة الخضراء عندما يكتب عن العراق.. القرى النائية هي اهداف زياراته العديدة للعراق منذ ثلاث سنوات.. الناس في اسفل السلم الاجتماعي يشكلون مصادر تحقيقاته واهتماماته.. وهو غالبا ما يخرج بتحقيقات هي اقرب للبحث السوسيولوجي منها الى الريبورتاج الصحفي"..هذه الكلمات كتبتها هنا في الدربونة قبل سنوات.

انطوني شديد توفي قبل ثلاثة ايام بازمة ربو حادة في طريق عودته من سوريا التي دخلها سرا.. كان يستطيع ان يدخل سوريا بصورة رسميه.. ولكنه كان يعرف انه لن يكون حرا مع الناس في بلد مخابراتي.. كان يريد الذهاب كعادته خارج حدود الخطاب الرسمي.. الصحافة المجترة للخطاب الرسمي ليست صحافة.. المدن السورية التي تنام وتصحو على اصوات الانفجارات كانت وجهته.. كان يريد ان يشاهد بعينه ما يجري هناك.. هذه المرة لن نقرأ مشاهدات انطوني شديد.. الموت منعه من وضع ما شاهده باسلوبه البارع المعهود.

كثيرون يعتقدون ان شديد كان صحفيا ناجحا في تغطيته لاحداث العراق لانه من اصول عربية ولانه يتكلم اللغة العربية.. وهذا اعتقاد ساذج.. فهناك الكثيرين من الصحفيين الغربيين ممن يتكلمون اللغة العربية او هم من اصول عربية ولكنهم صحفيون عاديون.. ثم ان هناك المئات من الصحفيين العرب والعراقيين ممن عملوا في العراق.. ولكنهم لم يكتبوا شيئا يرقى لما كتبه شديد. 

لا شك ان خلفية شديد العربية ساعدته كثيرا في عملة في المنطقة العربية.. ولكن تميُّز شديد راجع الى فهمه الخاص للعمل الصحفي.. اضافة الى اسلوب بارع في الكتابة مرتبط ارتباط وثيق بهذا الفهم.. فشديد امام مادته الصحفية يعمل بطريقة الانثربولوجي .. فهو عين تسجل قبل كل شيء.. وافضل مقالات شديد هي تلك التي راحت فيها عينه تسجل الاشياء قبل ان تحكم عليها.. وهو في بعض هذه المقالات ترك لنا تحقيقات صحفية تقترب في عمقها من اسلوب الصحفي البولندي الساحر ريشارد كابوتشنسكي.

 اما عندما نسى شديد هذه الطريقة "العينية" وراح بحكم اقامته الطويلة في العراق يُغلِب ما يقوله له "خبراء الشأن العراقي" او بعض "المثقفين" العراقيين على مشاهداته.. فهو قد جنح للاسف نحو الاحكام العامة وبالتالي الكليشات.. واحدى مقالته الاخيرة عن العراق كانت من هذا النوع وجاءت محملة بالكليشات.. ما يشفع لشديد هو انه صحفي متواضع.. ذاتٌ غالبا ما تختفي امام مادتها الصحفية.. وهو بذلك ليس كما بعض الصحفيين العراقيين الذين يخنقون مواضيعهم بذواتهم المنتفخة.

مارتن شولوف وهو احد زملاء انطوني شديد كتب مقالا في الغارديان قبل يومين عن رحيل شديد المفاجئ .. شولوف يورد ما قاله له انطوني شديد في اخر ايامه في العراق :

"I came here to comprehend this place," he told me last year, talking of his time in Iraq. "With all its richness, beauty, insanity and loss, it is the one part of the world I wanted to make sense of. I'm not sure I know anything more now than when I got here 

وهي كلمات تكشف ان انطوني شديد كان في قمة التواضع.. فهو رغم انه افضل من غطى صحفيا سنوات الاحتلال الامريكي للعراق.. فانه يقر بعدم معرفته بالشأن العراقي.. وهذا الاعتراف الاخير يجعلنا نفهم الحيرة المعرفية التي وسمت مقالات شديد الاخيرة في العراق.. لقد جاء العراق لفهم البلد.. وخرج منه غير متأكد انه فهم اكثر مما كان يعرفه قبل دخوله. 

العراق الذي ساهمت في قتله كليشات صحفيون سرسرية من امثال حسن العلوي.. كم يحتاج الى هذا التواضع.