نعم اختفاء الروابط الاولية والعصبيات هو شرط ضروري لقيام صيغ دولة عقلانية ولكنه ليس شرطا كافيا .. هناك شروط اهم ولها الاسبقية في مسار بناء الدول اولا .. ومراكمة "صيغ عقلانية للدولة" ثانيا .. فالح عبد الجبار يناقش موضوع الدولة من دون حتى طرح ظروف تكوينها و شروط نجاحها تاريخيا .. كيف تم بناء صيغ دولة عقلانية في اوربا ؟ وما هي شروط نجاحها ؟؟ اوربا لم تخلوا من روابط اولية وحروب دينية وانقلابات وفوضى .. ولكن الروابط الاولية في اوربا اختفت تدريجيا مع قيام مركز قوي بنيت على اساسه الدولة .. المركز القوي هو شرط اختفاء الفوضى او ما يسميه توماس هوبز " حرب الجميع ضد الجميع" او "حكم الغاب" .. الجذر الفكري لمفهوم الدولة الاوربية الحديثة نجده عند هوبز في كتابه "ليفياثان .. وفلسفتة السياسية هذه هي نتاج ظروف الحرب الاهلية الانكليزية التي عاصرها .
الدولة الاوربية لم تبدأ "بصيغ عقلانية" .. لقد قامت على العنف .. ومسار بناءها داخليا وخارجيا قد استمر عنيفا ما يقارب الاربعة قرون .. تم خلاله تدجين تنظيمات القرابة الاولية .. والدولة ذات الصيغ العقلانية ليست سوى المحطة الاخيرة في هذا المسار الطويل .. اوربا عصر التنوير رغم كل ثقافتها ظلت في فوضى عارمة .. لماذا ؟ ليس لان مجتمعاتها كانت " ترفل في دفء تنظيمات القرابة الاولية، العائلة والقبيلة، ثم الطائفة والجماعة الدينية" .. كلا .. بل لانها كانت ضمن منظومة جيوسياسية هشة استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
الدولة الاوربية لم تصبح "عقلانية" الا خلال الخمسين سنة الاخيرة .. بعد ان خرجت من اكبر مذبحة في تاريخ البشرية .. واستقرارها الذي مهد "لصيغ عقلانية" قد نجح لا بفضل ثقافة اوربا .. وانما قبل كل شيء بفضل مظلة امريكية صمدت امام الجيش الاحمر السوفيتي .. هل كان باستطاعة اوربا التمتع بـ "صيغ عقلانية للدولة" من دون تدخل الامبراطورية الامريكية واتفاقها مع الاتحاد السوفيتي على تقاسم النفوذ فيها .. قطعا لا .. بمعنى ان العامل الخارجي كان ولا يزال وراء هذا السلام الاوربي وبالتالي "الصيغ العقلانية" للدولة .. اذا فالعامل الثقافي ليس كافيا من دون عامل الاستقرار الخارجي المؤهل لخلق استقرار داخلي وبالتالي صيغ عقلانية للدولة.
كيف لمجتمعات " استقلت" قبل ثمانين عام ان تقيم "صيغ عقلانية للدولة" ؟ كيف لمجتمعات تعيش زلزال سياسي كل عشرين عام ومنذ "استقلالها" ان تراكم مثل تلك الصيغ ؟ كيف لمجتمعات تهاجر نخبها تبعا لمواسم هذه الزلازل السياسية ان تراكم صيغ عقلانية للدولة ؟ حتى وان وضعنا ملائكة بدل سكان المشرق العربي فسوف لن يكون هناك سلم ولاتراكم ولا دول حتى .. لان منطقتنا تخضع لقوانين " اللعبة الكبرى" التي تتلاعب من خلالها الدول الكبرى بمصائر شعوب المنطقة طبقا لمصالحها.
هل هناك في طرح فالح عبد الجبار ربط بين سقوط تياراتنا الليبرالية على يد العسكر وبين قيام اوربا بزرع اسرائيل في منطقتنا لكي تتخلص من مشكلتها اليهودية .. هل هناك ذكر لاستنزاف الموارد الهائل الذي تبع ذلك .. هل يذكر لنا فالح عبد الجبار ان ثلث سكان بغداد كانوا من اليهود يعيشون بسلام فيها محاطين "ببدو متخلفين تحكمهم روابط اولية" في نفس الفترة التي كان فيها يهود برلين وباريس وبراغ يحرقون في افران المانيا التي كانت قمة اوربا ثقافيا .. بالطبع لا.. الخطاب الثقافوي التحقيري يكفي .. التطبير الفكري وجلد الذات يروق لانصاف المتعلمين.
عندما نعرف ان فالح عبد الجبار يتعاون مع "معهد السلام الامريكي" ( تسمية لطيفة لمعهد يعد خطط ما بعد حروب الامبراطورية ) .. وهو قد شارك في "المشغل" الذي نظمته وزارة الخارجية الامريكية قبيل احتلال العراق من اجل وضع تصورات ما بعد احتلال العراق .. اقول عندما نعرف ذلك نفهم دوافع هذا الطرح الثقافوي التحقيري .. اننا امام " خبير اخر في الشان العراقي" يشاهد تبعات تحليلاته تدمر العراق .. و لابد من تبرير .. ويأتي التبرير محتقرا : "فئران المختبر" فشلت في الاختبار الديمقراطي لانها ذات بنى ثقافية متحجرة.
نعم زمن الفوضى هو ايضا زمن كليشات بامتياز.. انا شخصيا لن استغرب اذا ما سمعت في الاشهر القادمة عن صدور كتاب : " دور "الشكرلمه" في انهيار الدولة العراقية !!