2021/07/31

تراجيديا اصبع بنفسجي .. استكان شاي مع ارسطو

كنت في اسطنبول مؤخرا .. وهناك التقيت صدفة بمغترب عراقي .. أثناء حديثه معي عن الوضع المزري في العراق قال لي ان والدته الكبيرة في السن والمتدينة بالفطرة اخبرته بأنها ستنتخب ملحداً في الانتخابات القادمة حنقا ونكاية بالاحزاب الاسلامية الشيعية .. الطريقة التي قلد فيها الابن "الطفرة الجينية" في مزاج "الحجية" السياسي اضحكتني كثيرا

 ولكن عندما نخرج من المجال الشخصي ونتمعن في سلوك الحجية من منظور اجتماعي عام ونحلل دوافعه السايكولوجية سنجد فيه بُعْداً مأساوياً.. فموقف "الحجية" هو موقف ضدي بحت.. ما تريده الحجية هو ليس الالحاد لذاته.. هي حتى لاتفهم مفهوم الالحاد .. ما تريده الحجية هو النقيض المطلق للاسلامجية.. والنقيض المطلق للاسلامجي هو الملحد.. من هو هذا الملحد ؟ ما هي مؤهلاته و خبراته ؟ ما هو برنامجه السياسي ؟ كل هذه الاسئلة ليس لها اهمية في نظر الحجية.. الحجية لا تنتخب وفقا لبرنامج المرشح السياسي او برنامجه الاقتصادي او مؤهلاته او خبراته.. لا .. الانتخاب في نظر الحجية هو تنفيس للغضب.. تخريج للحنق.. وهي بهذا المعنى لا تنتخب .. انفعالاتها هي التي تنتخب بدلا عنها


لا اعرف الكثير عن الحجية .. كل ما اعرفه عنها (استنتاجا من كلام ابنها) هو عمرها بشكل تقريبي .. مكان اقامتها .. ومذهبها .. وهي معلومات كافية لرسم بورتريه سايكولوجي للحجية .. فهذه ليست المرة الاولى التي تنتخب فيها الحجية بهذه الانفعالية المتهورة.. فالحجية وذات انفعالات طائفية "غَمَّسَت" اصبعها في الحبر البنفسجي وانتخبت اسلامجي شيعي حنقا ونكاية "بالحاكم السني".. الحجية انتخبت آنذاك اسلامجي شيعي معتقدة ان السماء ستمطر مصلحين.. ولكن السماء أمطرت سرسرية !! خيبة أمل الحجية كبيرة وحنقها اكبر.. عندما نفهم هذا المسار الانتخابي .. سنفهم بشكل افضل سلوك الحجية .. ففي غضب وحنق الحجية من الاسلامجية الشيعة ما يشبه الحنق الذي نجده في العلاقات الغرامية.. هناك في غضب وحنق الحجية ما يشبه حنق زوجة تكتشف ان زوجها يخونها.. وهذا الحنق يدفعها الى الحدود القصوى من الكراهية.. يدفعها الى منطق "الفجور في الخصومة".. يدفعها الى الارتماء في احضان اي عابر سبيل.. ليس "حبا" وانما فقط لاغاظة زوجها.


والحجية اليوم تنوي "الارتماء" في احضان ملحد.. ليس حبا بالملحد وانما نكاية بالاسلامجي الشيعي.. وهذا السلوك الضدي المازوخي عاقر سياسيا.. انتخاب شخص استنادا فقط الى شعاراته الايديولوجية من دون ان تعرف برنامجه السياسي او حتى مؤهلاته هو شيء قامت به الحجية سابقا وبالنتيجة الكارثية التي نعرف.. ولكن الحجية تستمر بنفس السلوك الضدي لانها اسيرة انفعالاتها.. تخبط الحجية.. نزقها المستهتر بكل منطق سياسي.. اصرارها على السلوك الضدي المازوخي.. معاناتها المستديمة.. كل ذلك يذكرنا بشخصيات التراجيديا اليونانية.


فشخصيات التراجيديا اليونانية تعيش في عالم انفعالات دراماتيكية.. عالم عواطف جياشة تحول البشر الى دمى.. عالم تسكنه سايكولوجيات نزقة ومتهورة .. عالم يتخبط فيه البشر بفواجع متتالية .. عالم معاناة لا تنتهي.. اوديب الذي يقتل والده ويتزوج امه بلا دراية هو النموذج الأشهر للاقدار العمياء التي تحكم التراجيديا اليونانية.. الافعال في التراجيديا اليونانية تؤدي دائما الى نتائج معاكسة للنيات.. الاخطاء البسيطة تتحول الى خطايا.. لان عالم التراجيديا اليونانية هو عالم انفعالات خالٍ من العقلانية كعالم الحجية.


ارسطو وفي كتابه "فن الشعر" يدلنا على السبب الذي يجعلنا نتعاطف مع شخصيات التراجيديا اليونانية.. فهم بحسب ارسطو اشخاص لا يستحقون ما يحصل لهم من فواجع ومصائب.. ونحن نشعر بالشفقة او التعاطف فقط مع شخص لا يستحق ما يحصل له من مصائب.. ملاحظة ارسطو هذه جعلتني افهم بشكل ادق لماذا لا اتعاطف مع شخصية مثل شخصية الحجية رغم تراجيديتها.. والسبب هو لأن الحجية (باعتبارها عينة للملايين من الاصابع البنفسجية) تستحق ما يحصل لها.. فالحجية ومعها الملايين من الاصابع البنفسجية ليسوا شخصيات مسرحية حبسها المؤلف ابديا وفقا لحبكة مسبقة .. هم بشر يعيشون في القرن الواحد والعشرين .. بشر يعيشون في عالم ما بعد ماكيافيلي وجون ستيوارت مِل .. بشر امامهم قرون من الخبرات والتجارب والمكتسبات البشرية في السياسة والاقتصاد وهندسة وادارة المجتمعات.. ولكن هولاء البشر اختاروا منظورا "طفيليا" للسياسة.. بشر ما زالوا حبيسوا سايكولوجيا بدائية لا تترك لهم سوى منطق "الفجور في الخصومة".. بشر يحتقرون العقلانية ويعشقون الانفعالات .. بشر "ينتخبون" بضاعتهم السياسية الفاسدة من دون قراءة "تاريخ الصلاحية".. وهم بذلك مسؤولون عن "تسمم" حياتهم.. امام هكذا استغفال متتالي للذات .. وبمرور الوقت .. يهرب التعاطف .. ويحل محله شعور بالاشمئزاز.. فالتعاطف  كما يقول ارسطو هو فقط لشخص لا يستحق ما يحصل له من مصائب.

 

Pity is for someone who is unfortunate but does not deserve to be