2022/11/19

عندما تمطر في طهران .. دومينو العمامات

 



أمام مشهد العمامات التي تتساقط في الشوارع الايرانية.. امام الاهانات التي يتعرض لها رجال الدين الشيعة في الشوارع منذ بدء الاحتجاجات الايرانية .. ومع اول حكم اعدام بحق متظاهر ايراني بدأت تتصاعد أصوات من داخل المنظومة الدينية في ايران تدعو لحل سياسي بدل اللجوء الى القمع .. بعض رجال الدين فهموا جيدا ان القمع سوف ينتج ردات فعل اكثر عنفا في المستقبل ضد رجال الدين.. هذه الاصوات فهمت ان العمائم التي تتساقط اليوم من على الرؤوس بسخرية.. ستستخدم (اذا ما استمر القمع مستقبلا) كحبال تلتف حول رقاب رجال الدين.. وهذا الخوف هو الذي يدفعها اليوم للمطالبة بحل سياسي للمظاهرات الحالية.


مشهد تساقط العمائم في الشوارع الايرانية اثار الرعب ايضا في نفس مقتدى الصدر .. مشهد تساقط العمائم في الشوارع الايرانية جعل مقتدى يتحسس عمامته.. مشهد تساقط العمائم في شوارع طهران ذَكّر مقتدى بصرخة الثائر النجفي ابان انتفاضة تشرين : "ما زرب بالعراق غير اهل العمايم".. لا غرابة ان مقتدى غرد مؤخرا واصفا ما يجري في ايران بانها "هجمة شرسة ضد المعممين محذّراً من انتقالها لتعمّ باقي الدول".. وهو قد انتقد المتظاهرين الايرانيين لمنعهم "المعممين من ارتداء زيهم والاعتداء عليهم على الرغم من أن بعضهم لا دخل له بالحكم أو السياسة أو الأموال الطائلة" !! .. يا بعضهم !!  


امام حدث تاريخي يمكن ان يغير خارطة الشرق الاوسط سياسيا.. امام حدث يمكن ان يضعف ايران جيوسياسيا وبالتالي يسمح للعراق بالخروج من نطاق التأثير الايراني.. مقتدى الصدر لا يرى سوى مشكلة ازياء.. وموقف مقتدى هذا اغاض بعض السذج ممن لا زالوا رغم كل "سكاكين" مقتدى السابقة يعتقدون انه وطني مقاوم لايران.. لسان حال هولاء السذج يقول : غريب.. كل وطني عراقي يتمنى نجاح المتظاهرين الايرانيين لان ضعف ايران داخليا سيقلل من تأثيرها على العراق.. كل وطني عراقي يتمنى نجاح المتظاهرين الايرانيين لان ضعف السلطة في ايران هو تقوية لموقف العراق جيوسياسيا.. فكيف لمقتدى لا يرى في كل هذا الحدث الجلل سوى مشكلة ازياء رجال الدين !!


مشكلة هولاء السذج هي انهم يستنتجون "وطنية " مقتدى من صراع مقتدى مع ذيول ايران في العراق.. بما ان مقتدى ضد "قيس الخزعلي" المدعوم من ايران .. اذا مقتدى ضد ايران وبالتالي هو وطني.. وهذا منطق اعرج .. فصراع مقتدى مع اقرانه الشيعة في العراق هو صراع على "العمامة" .. صراع على الزعامة الشيعية داخل العراق.. بمعنى ان مقتدى يعارض ايران طالما ان نفوذ ايران في العراق يتعارض مع مصالحه السياسية.. ولكن هذا لا يعني ان مقتدى معارض لايران ولاية الفقيه في كل شيء.


مقتدى انسان بدائي يحمل سايكولوجية بدائية وهو يتصرف وفقا لقاعدة "انا واخي على ابن عمي .. وانا وابن عمي على الغريب" .. وهذا سلوك يتناقض فكريا مع مفهوم الوطنية الحديث الذي يرفض كل الهويات البدائية الاولية .. بمعنى ان مقتدى قد يختلف مع ابن العم الايراني في العراق ولكنه مع ايران على الغريب.. انه مفهوم العصبية البدائي.. وموقف مقتدى من ايران ولاية الفقيه يستند للعصبية الطائفية.. في كل مرة تعرضت سلطة ولاية الفقيه لهزة سياسية (٢٠٠٩ و ٢٠١٩وقف مقتدى مع ايران ولاية الفقيه.. في كل مرة تتعرض العمامة لخطر السقوط (كما هو الحال اليوم).. يقف مقتدى مع "العمامة" على حساب مصالح العراق.. فمتى سيفهم السذج ان وطن مقتدى هي "العمامة" وليس العراق.. متى سيفهم السذج ان وطنية مقتدى هي وطنية  "نص ردن" يرتديها مقتدى وفقا للجو السياسي.. متى سيفهم السذج ان مقتدى هو عضو في جمعية "معممون بلا حدود".. وولاء اعضاء هذه الجمعية عابر للحدود.. عابر للوطن.. فمتى يتوقف السذج عن ترديد اسطوانه "وطنية مقتدى" المشروخة !!  


وعود على بدء .. إسقاط العمائم من على رؤوس رجال الدين الشيعة في الشوارع الايرانية  يعني رمزيا سقوط سلطة رجال الدين عند الجيل الجديد من الايرانيين ..الاهانات التي يتعرض لها رجال الدين في الشوارع الايرانية يعني ان نظام ولاية الفقيه فقد شرعيته عند الاجيال الجديدة .. الاجيال الايرانية الجديدة لم تعد تقرأ سخافات علي شريعتي وجلال آل احمد التي مهدت الطريق فكريا لاستحواذ خميني على السلطة.. الاجيال الايرانية الجديدة تريد تغير هذه "العقول المزنجرة" كما تقول اغنية شروين حاجي بور التي عبّرَت بذكاء عن مشاعر هذا الجيل الجديد.. الاجيال الايرانية الجديدة  مَلَت حد الاشمئزاز من "شعارات الكراهية" المفروضة على اطفال المدارس.. مَلَت من لغة الملالي الخشبية التي يسمعونها ليل نهار.


لمقتدى ان يحذر كما يريد.. قَدَر العمامات السقوط عاجلا ام اجلا.. قبل يومين احرق المتظاهرون الايرانيون المنزل الذي ولد فيه الخميني الواقع في مدينة خمين في محافظة مركزي والذي حولته السلطات الايرانية الى متحف.. والمظاهرات الحالية دخلت شهرها الثالث رغم القمع.. هذا الغضب المحبوس قدره الانفجار يوما ما.. آنذاك ستتدحرج الرؤوس في شوارع طهران .. عندها ستتساقط العمامات في شوارع النجف.. من هنا خوف مقتدى .. شيعيا  "الثورات" السياسية الكبرى كانت دائما تأتي من "خراسان".. في كل مرة "تمطر" السماء في "طهران".. يرفع  المقلدون مظلاتهم في "النجف".

2022/09/28

 السلطان والجنة لا يجتمعان .. تهافت رجال الدين الشيعة

 تعليقا على المظاهرات الحاشدة التي اجتاحت ايران في الايام الاخيرة احتجاجا على وفاة مهسا أميني الأسبوع الماضي بعد اعتقالها من قبل « شرطة الاخلاق ».. قال الرئيس الايراني إبراهيم رئيسي ان الاحتجاجات التي تشهدها ايران هي « أعمال فوضى غير مقبولة » ..ودعا قوات الامن إلى«التعامل بحزم مع المخلين بالأمن العام واستقرار البلاد».. ثم راح بعد ذلك يجتر نفس الكليشة التي يستخدمها اي نظام قمعي وهي ان هذه الاحتجاجات مؤامرة خارجية.. عبارة « الفوضى غير مقبولة » في تصريح رئيسي تستوقفني لانها ذكرتني بخطبة لرجل دين شيعي واسمه رشيد الحسيني قالها أثناء القتال الذي دار قبل شهر تقريبا بين المليشيات الشيعية في العراق .. هذا المعمم خاطب جمهوره آنذاك ومن على المنبر : « ايهما اولى العيش في الفساد ام العيش في الفوضى »  ثم قال بعد ذلك ان « العيش في الفساد افضل من العيش في الفوضى »!! 


قرون من الثورات والقلاقل والفتن الشيعية كانت تبرر سابقا تحت شعار لا طاعة لحاكم فاسد حتى وان تطلب ذلك تدمير بلدان وإشاعة الفوضى.. اما اليوم وبما ان الحاكم الفاسد شيعي.. يصبح الفساد افضل من الفوضى.. قرون من القلاقل والفتن التي منعت التراكم المادي وبالتالي الحضاري لمنطقتنا ثم يخرجون علينا اليوم و يقولون « العيش في الفساد افضل من العيش في الفوضى ».. قرون من الهامشية السياسية كان رجال الدين الشيعة خلالها يعيبون على رجال الدين السنة مداهنتهم للسلطة .. لماذا ؟ لان قرون من الفوضى السياسية دفعت رجال الدين السنة الى تحريم الثورة على الحاكم تجنبا للفوضى !! وها هم عباقرة  « الحيض والنفاس وجماع الدبر » يفيقون اليوم على واقع السلطة المعقد ليستخدموا حجة كانوا يعيبونها على غيرهم.


 شيء من التاريخ .. الصراع والاقتتال على السلطة كان ثابت سياسي في التاريخ الاسلامي منذ القرن الهجري الاول.. وهذا الاقتتال سبب الكثير من الحروب الاهلية والفوضى.. امام الانفصال المزمن بين نظرية الحكم الاسلامي الطوباوية وبين واقع الاقتتال والفوضى شاعت في الادبيات الاسلامية تدريجيا مقولات تقر بطريقة مستحية بالتناقض بين المثل الاسلامية للسلطة وبين واقع الفوضى الدائم.. واحدة من هذه المقولات هي الحديث المفبرك « الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها ».. وهي اليوم متداولة بنسخة اكثر سلاسة « لعن الله الفتنة من أيقظها».. في هذه المقولة نجد قلق واستحياء الجيل الاول من المسلمين امام الفتنة والفوضى.. نجد فيها اسلوب الكناية الممل.. اسلوب عدم تسمية الاشياء باسمائها.. فهي مقولة تترك سامعها في حيص بيص فكري لا يعرف ماهية الفتنة ولا سببها.. « شنو الصار متعرف »!! هي فقط هجاء لغوي للفتنة.. وهذه المقولة لازالت تجتر حتى يومنا هذا وكأنها فتح فكري.. المهم فيها من منظور التحليل التاريخي هي انها تسجل واقع الفتنة المستديم .. الفتنة نائمة هناك تنتظر الفرصة المناسبة للاستيقاظ


مع مرور الوقت .. ومع اجيال اخرى عاشت ويلات الاقتتال على السلطة والفوضى.. ظهرت مقولات اخرى واحاديث  اخرى .. اهم هذه المقولات هي مقولةسلطان عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم ».. وهي اليوم متداولة بنسخة مختصرة «سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم »  وهي مقولة تنسب لعمرو ابن العاص.. وهي وان كانت مفبركة كاغلب الاحاديث والروايات ولكنها تشرح لنا رؤية الاجيال اللاحقة لمفهوم السلطة والصراع .. ما يجعل هذه المقولة اهم من المقولة الاولى هو واقعيتها .. ففي هذه المقولة نزول متدحرج من غيوم المُثل الاسلامية الطوباوية الى الواقع .. هناك تنازل فكري صريح عن السلطان العادل والاعتراف بالسلطان الغشوم الظلوم لانه افضل من الفتنة والفوضى.. واسلوبها السجعي هو فقط للتخفيف موسيقيا من وطئ هذا التنازل .. نحن هنا امام قبول مستحي بواقع السلطة الذي يتأرجح بين خيارين احلاهما مر (الحاكم الفاسد او الفوضى).. نحن هنا أمام بذرات واقعية سياسية تقر بحياء بانفصال النظرية الاسلامية الطوباوية للسلطة عن واقع السلطة.. لا غرابة بعد ذلك انها تُنسب لعمرو ابن العاص لأنه « ماكيافيلي » العرب .. « داهية العرب » كما تسميه السرديات الاسلامية باعجاب خجول لأنه رجل دولة ساهم في بناء امبراطورية وهو نقيض لمُثل السلطة الطوباوية التي لم تنتج سوى فوضى مستديمة.. علي ابن ابي طالب لم يستطع حكم مدينة صغيرة كالكوفة.. وابنه الحسن لم يستطع المحافظة حتى على ثيابه!! 


 باختصار شديد.. الادبيات الاسلامية قبلت مبكرا حقيقة التناقض بين المُثل الاسلامية للحكم وبين تطبيقاته العملية على ارض الواقع .. قرون من ممارسة السلطة.. قرون من الصراعات السياسية والفوضى دفعتها الى التهادن المستحي مع « الحاكم الفاسد » تجنبا للفوضى.. من هنا مقولات من مثل مقولة « السلطان والجنة لا يجتمعان ».. ومقولات اخرى كثيرة تحرم الثورة على الحاكم حتى وان كان جائرا.. والسبب وراء ذلك كان لتجنب الفوضى .. والغزالي كان اول من نَظّرَ بصراحة فقهية لهذه الواقعية السياسية وفقا للقاعدة الفقهية « الضرورات تبيح المحظورات ».. ففي كتابه « الاقتصاد في الاعتقاد » يطالب الغزالي بطاعة الامام/الحاكم حتى لو لم تتوفر فيه صفة العدالة اذا خشيت الفتن والحروب.. وعبارة « حتى لم تتوفر فيه صفة العدالة » هي كالعادة تورية مستحية للحاكم الفاسد.


ما ينبغي ذكره (وهنا المهم) هو ان الغزالي طَوّرَ حجته هذه في زمن المستظهر بالله.. وهي فترة  شهدت اضطرابات وفوضى سياسية ساهمت فيها حركة الباطنية الشيعية المدعومة من قبل الدولة الفاطمية التي كانت تريد زعزعة حكم المستظهر بالله في بغداد .. بمعنى ان حجة الغزالي (بطاعة الحاكم حتى لو لم تتوفر فيه صفة العدالة) كانت موجهة ضد حركة الباطنية الشيعية التي كانت ترفع شعار لا طاعة لحاكم فاسد.. دارت الدوائر .. ودالت الدول .. وها هم رجال الدين الشيعة وبعد قرون من الاستحلام الفكري والتنظير الطوباوي ضد السلطة الفاسدة.. هاهم اليوم وامام اول تجربة حكم وارتطام بواقع السلطة .. يقولون لك « العيش في الفساد افضل من العيش في الفوضى ».. لسان حال الغزالي امام هذه الاستدارة الفقهية يقول « بضاعتنا رُدت إلينا »!!  


خلاصة القول .. ما بدأ صراعا على الورث.. صراعا على واحة فدك .. ثم تطور صراعا على الخلافة والسلطة .. ثم تحول ذات هزيمة سياسية الى صراع مبادئ وقيم بفعل مشاعر الحرمان والضغينة .. يظهر اليوم كما بدأ بالامس : صراع على السلطة والاحتفاظ بالسلطة.. السلطة والمسافة من السلطة هي معيار الحكم على الاشياء.. والافكار ما هي الا مجرد مطية في الصراع السياسي.. عندما كانوا على هامش السلطة كانت الاحتجاجات انتفاضات وثورات يحتفون بها ويتغنون بأبطالها.. أما وانهم اليوم في السلطة فالاحتجاجات تصبح غير مقبولة ويجب التعامل معها بحزم.. الاحتجاج ضد الحاكم السني واجب ديني.. اما الاحتجاج على الحاكم الشيعي فهي اعمال شغب تؤدي الى الفوضى والعيش في الفساد افضل من العيش في الفوضى.


قرون وهم يعارضون السلطة بالاحاديث والروايات المفبركة عن العدل والعصمة .. وها هي نظريتهم الطوباوية تصطدم بالواقع وتنتج واحد من افسد الانظمة السياسية على كوكب الارض.. المقولات البليغة التي كانت تتغنى بالثورة على الحاكم الفاسد تتحول اليوم الى لغة خشبية تُدين المحتجيّن وتتهمهم بالعمالة للخارج.. مقولة « ان دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز » (والتي فبركتها عهود الحرمان والهزيمة كتعويض نفسي) تتحول بفعل مليارات النفط المهرب والمخدرات الايرانية الى مقولة « ما ننطيها ».. وداعا للخطب البليغة التي فبركها احفاد الموالي في خلوات السراديب الهادئة .. مرحبا بكم في سوقيّة بائعي « السبح والمحابس » الذين حملتهم الدبابات الامريكية من ارصفة  الشوارع الى كراسي السلطة.. وداعا لاسطورة الحسين الثائر ضد الحاكم الفاسد.. مرحبا بكم على كوكب الارض.. مرحبا بكم في جمهورية « الحاكم الفاسد افضل من الفوضى».