"كاتب جيد، يستحق القراءة" .. قال لي " ش" عندما ناولني الصفحة الثقافية لجريدة عراقية .. كنت طالبا في الإعدادية آنذاك .. وكنت أثق بذوق "ش" .. بعد ذلك تابعت مقالات مدني صالح في الصحافة .. لغة بارعة تليق بأستاذ الفلسفة في جامعة بغداد .. وأسلوب يخرج عن مألوف الحشو الذي كان سائدا في "الوسط الثقافي" آنذاك .. قلة كانوا بمستوى مدني صالح .. لغة وموقف .. كان يصرخ بما استطاع في حين كان الآخرون يطبّلون .. كثيرون ممن كانوا يسودون الجرائد بلغة التملق آنذاك ، "يلطمون" اليوم في الجرائد .."الوسط الثقافي" العراقي ارتزاق .. و"مثقفيه" بالنتيجة مرتزقة .. من هنا التفافات وانقلابات الأقلام .. ومن هنا الضحالة.
مدني صالح توفي في الأسبوع الماضي في عراق يموت كل يوم .. رحيل مدني صالح ذكرني بقوة بـ "ش" .. كان يدرس المسرح في أكاديمية الفنون الجميلة .. بضعة مرات رافقته لحضور عروض مسرحية هناك .. اغلب مسرحياتهم تنتمي للمسرح التجريبي .. تلك كانت أول علاقتي بهذا النوع من المسرح ولم يكن سهلا تذوقه في ذلك العمر .. العروض "المسائية" في أكاديمية الفنون الجميلة كانت متعة من طراز خاص .. ليس بفضل المسرحيات .. ولكن بفضل "ديكور" تلك الأمسيات .. حديقة الأكاديمية في النهار رائعة .. ولكنها بقعة ساحرة في المساء .. إضاءة خافتة .. تماثيل نحتية تبدو أكثر حضورا رغم عتمة تفاصيلها .. أشجار الرارنج "نائمة" في هدوء المساء .. وشوارع الوزيرية في الليل خرافة .. كثيرا ما كان طريق العودة على الأقدام .. شوارع بلا نهاية .. ونقاشات طويلة.
أرى الآن هيئة "ش" .. أناقة بلا تكلف .. غالبا ما كان يأتي متأبطا كتاب او مجلة نشرت له تخطيطا او ضحكة .. علبة اقلام "الروترنك" لاتفارقه .. ما كان يميزه هو سخريته الهادئة .. ترى هل لهذا السبب أحبَ أسلوب مدني صالح ؟ اعتقد .. مدني كان يتكلم بالنيابة عن تلك الأرواح العراقية الرائعة التي راكمتها عقود الخير .. سنابل تقدس الأرض ، تعشق النهر و تحترم النواعير .. مدني صالح كان ناعورا عراقيا .