2024/09/03

حدّثوا الناس بما لا يعرفون !! تنقيب عن آثار "غدير خم"

كثيرا ما تم مدح الطبري لتسجيليته الهائلة لأنه يسجل تقريبا كل ما يقع بين يديه من الروايات.. ورغم تناقضها كليا بعض الاحيان.. وهذه التسجيلية فُسرت كنوع من الحيادية.. علما ان بعض النقاد عابوا عليه بالتحديد هذه الطريقة التسجيلية "الفاهية" نقديا.. خصوصا وانه ضَمَّنَ تاريخه روايات وقصص لا يقبل بها عقل سليم.. ولهذا السبب اعتبروا الطبري كاتب حوليات وليس مؤرخا.. لان المؤرخ بنظرهم ينبغي ان يمتلك حسا نقديا يمكنه من غربلة النصوص والوثائق والروايات وبالتالي عليه ان يميز بين الغث والسمين. 

 

 ولكن عندما نقرأ تاريخ الطبري بعناية سنجد ان تسجيليته الشهيرة تختفي احيانا امام بعض الاحداث.. علي سبيل المثال لا الحصر: مشهد قتل ابن ملجم المرادي الذي قتل علي بن أبي طالب.. فالطبري هنا وعلى غير عادته لا يعطيك سوى رواية مقتضبة واحدة.. وهي ترد كالتالي: "فلما قُبض علي، بعث الحسن لابن ملجم".. وهنا يدور بينهما حوار فنطازي يطلب فيه ابن ملجم من الحسن ان يخلي سبيله ليذهب ليقتل معاوية!!!! (المستشرقون الكبار بينوا الطابع المفبرك لرواية محاولة الخوارج لاغتيال معاوية وابن العاص.. علي فقط كان هدفهم انتقاما لمذبحة النهروان) يرفض الحسن هذا العرض.." ثم قدمه فقتله، ثم اخذه الناس فأدرجوه في بواري، ثم احرقوه بالنار ".. والادهى ان الطبري يمهد لهذه الرواية بوصية لعليّ وهو على فراش الموت ينهى فيها ابنه الحسن عن المثلة: " فاني سمعت رسول الله يقول "اياكم والمثلة ولو بالكلب العقور"!!!!!  حديث "إياكم والمثلة" في هذا الإطار يستدعي مقولة "كاد المريب ان يقول خذوني"!!

 

   وانت عندما لا تكتفي برواية الطبري المقتضبة هذه وتذهب لقراءة مصادر أخرى مثل البلاذري او ابن كثير.. ستكتشف ان أولاد علي قتلوا ابن ملجم بوحشية قل نظيرها.. فالحسن ابن علي: "استحضر ابن ملجم من السجن، فاحضر الناس النفط والبواري (الحصير) ليحرقوه، فقال لهم أولاد علي: دعونا نتشفى منه، فقطعت يداه ورجلاه .... ثم كحلت عيناه (لاحظ هنا كيف يتم تورية فعل حرق العين) ... وان عينيه لتسيلان على خديه".. وابن ملجم طوال هذه الاثناء كان يقرأ القرآن.. " ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعا شديدا ... فقتل عند ذلك واحرق بالنار"!! 

 

عندما تقرأ ذلك ستعرف ان الطبري لم يستخدم فقط "مقصه الرقابي" لبتر هذا المشهد السادي.. وانما حاول تحييده بحديث "اياكم والمثلة".. لماذا قام الطبري بذلك؟؟؟؟ الإجابة على هذا السؤال نجدها عند الطبري نفسه.. فهو يقول لنا في مكان اخر من تاريخه: "ان محمد ابن ابي بكر كتب الى معاوية لما ولي، فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة".. عبارة " كرهت ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة" تزودنا بمعيار الطبري بذكر او عدم ذكر رواية ما.. بمعنى ان الطبري كان يستخدم "مقصه" الرقابي في كل مرة كان يعتقد فيها ان الرواية " لا يحتمل سماعها العامة".. كل ما "لا يحتمل سماعه العامة" يسقط من تاريخ الطبري!! وخصوصا عندما يتعلق الامر بأفعال واقوال الصحابة وأبناء الصحابة!!  ومشهد ابناء وهم يعذبون ابن ملجم بوحشية يدخل ضمن هذا الإطار. 

 

 في كل مرة تجد نفسك في التاريخ الاسلامي امام حدث مبتور او إذا لم يُبتر لشهرته، ستجده مدفون تحت اكوام من الروايات المتضاربة والمبهمة والتي تهدف الى احاطة الحدث بضوضاء لغوية وبالتالي تحييده اسلوبيا.. في كل مرة تجد نفسك امام رواية ذات لغة مبهمة او غير مترابطة منطقيا وشبيهة بالأحجية.. عليك ان تقول مع نفسك ان الامر "فيه إنَ"!!  في كل مرة تجد نفسك امام رواية تلغرافية مثل الرواية التالية من صحيح البخاري: حدثنا محمد بن بشار ....... عن عبد الله ابن بُريدة، عن أبيه قال: بعث النبي عليا إلى خالد بن الوليد (في اليمن) ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليا، فأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي ذكرت ذلك له، فقال: "يا بريدة أتبغض عليا؟" فقلت: نعم، فقال: "لا تبغضه فان له في الخمس أكثر من ذلك".. في كل مرة تجد نفسك امام مثل هكذا رواية حزورة.. عليك ان تقول مع نفسك بانها بالأصل تتضمن شيئا "لا يحتمل سماعة العامة".

 

عندها عليك ان تأخذ نفسا عميقا!! لأنك ستحتاج ان "تركض" من مؤرخ الى اخر.. ومن كتاب الى اخر لكي تحاول استكشاف الفعل الذي دفع "بُريدة" لبغض علي.. وبالتالي فهم العلاقة بين البغض والاغتسال والخُمس في هذه الرواية المبهمة.. وعليك مسبقا ان تتمتع بلياقة فكرية.. لان الروايات الإسلامية بتضاربها وتناقضها عامل مسبب للصداع الفكري.. فعامل الزمن فيها مطاطي يتسع ويضيق حسب حاجة الراوي.. والتواريخ هي من أضعف عناصرها!! اما بخصوص الجغرافيا وتحديد الأماكن فحدث ولا حرج.. وفيما يلي قراءة تفكيكية مقارنة للروايات الكبرى التي تتطرق لبعثة عليّ في اليمن من اجل فهم رواية البخاري المبهمة. 

 

ولنبدأ مع الطبري.. فهو في باب "سرية علي الى اليمن" يقول ان "النبي" بعث خالد ابن الوليد الى اليمن ليدعوهم الى الإسلام.. وبقيّ خالد فيها ستة أشهر ولم "يجيبونه الى شيء".. عندها يقوم النبي بإرسال عليّ ابن ابي طالب ليحل محل خالد.. وهنا يدخل القوم في الإسلام بمجرد وصول عليّ!! وبعد عدة صفحات وفي نفس السنة العاشرة من الهجرة تقع على رواية تقول ان النبي "بعث عليّ الى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم".. وبعد عدة أسطر تجده يقول لك: "لما اقبل عليّ من اليمن" ليلقى رسول الله في مكة (للحج) .... استخلف على جنده رجلا من أصحابه فعمد ذلك الرجل فكسا رجالا من القوم حللا من البز(القماش) الذي كان مع علي".. وهنا يعود جيش عليّ فجأة الى مكة (للحج).. فلما دنا جيشه خرج عليّ ليلقاهم "فاذا هم عليهم الحلل" .... "فانتزع الحلل منهم وردها في البز، واظهر الجيش شكاية لما صنع بهم".. وعليك ان تنتظر رواية أخرى لتقرأ: "فاشتكى الناس عليّ، فقام فينا رسول الله خطيبا، يقول "لا تشكو عليا...!! ما يهمنا في رواية الطبري هو ان أصل الخلاف وشكاية الجيش عليّ هو لبس الحلل.. وبسبب هذا "قام فينا رسول الله خطيبا". 

 

اما ابن سعد وفي كتاب "الطبقات" فهو يذكر: "سرية خالد ابن الوليد الى بني عبد المَدَان بـِ نجران".. وبعدها مباشرة يذكر "سرية عليّ الى اليمن" وكانت: "اول خيل دخلت تلك البلاد، وهي بلاد مذحج. ففَرّقَ (عليّ) أصحابه فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال"، "ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا بالنبل والحجارة" (وهنا نحن امام رواية مناقضة لرواية الطبري التي تقول ان القوم دخلوا الاسلام بمجرد وصول عليّ بديلا لـِ خالد).. ثم "حمل عليهم عليّ بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا فتفرقوا وانهزموا". " وجمع عليّ الغنائم فجزاها على خمسة أجزاء ..... الخ".. ما يهمنا في رواية ابن سعد هو ان القوم دخلوا الاسلام بعد هزيمة عسكرية وكان هناك سبي وغنائم.

 

بعد ذلك نذهب للبلاذري (انساب الاشراف) فتجد ان خالد ابن الوليد قاد سرية الى بني الحارث بـِ نجران (هنا تناقض مع رواية ابن سعد في وجهة خالد الجغرافية) و"وجهه رسول الله إليهم يدعوهم الى الإسلام. فاسلموا..... وقاتله قوم من مذحج (هنا تناقض مع ابن سعد الذي يقول ان عليّ هو من ذهب لبلاد مذحج)، فظفر بهم وسبى منهم واستاق مواشيهم فخمسها ".. اما عليّ عند البلاذري فقد اُرْسِل "الى اليمن لقبض الصدقة" فقط ولم يشارك في القتال.. بعد ذلك تذهب لابن الاثير (الكامل) وتجد رواية تقول ان النبي "بعث عليّ الى نجران (تناقض مع البلاذري وتوافق مع الطبري) لجمع صدقاتهم وجزيتهم ويعود، ففعل وعاد ولقي رسول الله بمكة في حجة الوداع".. ما يهمنا في روايتيّ البلاذري وابن الاثير هو اننا نكتشف ان مهمة عليّ في اليمن كانت فقط لجمع الخمس وليس للقتال وعند ابن الاثير انه عاد الى مكة في حجة الوداع.

 

ثم نذهب الى ابن الخراط (الأحكام الشرعية الصغرى).. فنجد نسخة أوضح قليلا من رواية البخاري: "أنَّ رسولُ اللَّهِ بَعَثَ عليًّا إلى خالدِ ليقسِمَ بينهُمُ الخمسَ فاصطفَى عليٌّ منها سبيَّةٌ فأصبحَ يقطُرُ رأسُهُ قال فقال خالدٌ لبريدةَ: ألا ترى إلى ما صنعَ هذا الرَّجُلُ؟ قال بُرَيدَةُ: وَكنتُ أبغَضُ عليًّا فأتَيتُ النَّبيَّ فَلمَّا أَخبرتُه قال: أتَبغَضُ عليًّا؟ قلتُ: نعَم قال: فأَحِبَّهُ فإنَّ لهُ في الخمُسِ أَكثرَ مِن ذلِكَ".. هنا خالد هو من يشتكي لبريده سلوك عليّ.. والاهم هنا ظهور معلومة جديدة وهي اصطفاء عليّ لسبية من الخمس. 

 

اما عند البيهقي (دلائل النبوة) فنعثر على رواية البخاري بنسخة ابن الخراط مع تغير بعض المفردات:" بعث رسول الله عليا الى خالد ليقبض الخمس فاخذ منه جارية، فأصبح ورأسه يقطر، فقال خالد لبريدة.... الخ".. ولكننا نعثر عند البيهقي على نفس رواية الطبري ولكن مع سبب اخر للخلاف وللبغض: " فلما أخذ (عليّ) من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا وكنا قد رأينا في إبلنا خللا فأبى علينا وقال: إنما لكم فيها سهم كما للمسلمين".. وهنا يعود علي الى مكة ليدرك الحج.. ويسافر بعد ذلك الى اليمن بعد ان "قضى حجته" (عند الطبري الجيش هو من يعود للقاء علي في مكة !!).. وتستمر رواية البيهقي تشرح ما حصل اثناء غياب علي: "وقد كنا سألنا (القائد) الذي استخلفه ما كان عليّ منعنا إياه ففعل، فلما عرف (علي) في إبل الصدقة أنها قد ركبت، ورأى أثر الركب قدم الذي أمره ولامه"!! باختصار.. ما يهمنا في رواية البيهقي هو ان سبب الخلاف والشكوى هو "ركوب إبل الصدقة".. وليس لبس "الحلل" كما عند الطبري!! وتناقض الروايات في مثل هذه الاحوال هو دائما دليل فبركة غير ناجحة.

 

ثم نذهب اخيرا الى ابن كثير (البداية والنهاية) وهنا نجد رواية فريدة لا نجد لها أثر عند المؤرخين الكبار.. وهي من مسند ابن حنبل.. وهي الوحيدة التي تعطيك مفاتيح رواية البخاري المبهمة: ورواية ابن حنبل تقول: "عن بُريدة قال: فأصبنا سبيا، قال: فكتب (خالد) إلى رسول الله أبعث إلينا من يخمسه، قال: فبعث إلينا عليا، وفي السبي وصيفة من أفضل السبي. قال: فخمس، وقسم، فخرج ورأسه يقطر".. فقلنا: أبا الحسن ما هذا؟ فقال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي فإني قسمت وخمست فصارت في الخمس، ثم صارت في اهل بيت النبي، ثم صارت في آل علي ووقعت بها".

 

 هل ترون ما أرى ؟؟؟ لا !!! إذا تعالوا لنقوم بملء فراغات رواية البخاري المبهمة بما بين سطور الروايات الأخرى و بتفاصيل رواية ابن حنبل.. وإذا ما قمنا بهذه العملية التفكيكية.. ثم قمنا بعد ذلك بترتيب منطقي لأجزائها المتناثرة سنحصل على خبر مثير فحواه: ان النبي أرسل عليّ ابن ابي طالب الى سرية خالد ابن الوليد في مكان ما من اليمن.. وكانت مهمته فقط لجمع الخمس.. وهو اثناء عملية تقسيم الخمس استحوذ على أجمل امرأة في السبي.. والادهى "وقع" فيها (ضاجعها).. وهنا سنفهم التورية النائمة في عبارات "خرج ورأسه يقطر" و"أصبح وقد اغتسل".. عندها سنفهم ان أصل الخلاف والبغض والشكاية ليس "لبِس الحلل" ولا " ركوب إبل الصدقة"!! وانما له علاقة بـِ"وقوع" عليّ بإمرأة سبية!!  

 

 عندها سنكتشف ان رواية البخاري التلغرافية هي "كولاج" فاشل لهذا الحدث الفاضح.. فهو وخلافا لأبسط مسلمات المنطق يضع عبارة " وكنت أبغض عليا" مباشرة بعد حدث وصول عليّ وبدون ذكر سبب البغض.. وهو بذلك يعطي انطباعا للقارئ بان بُريدة يبغض عليّ هكذا بدون سبب.. وهو بعد ذلك يبتر سبب البغض بأسلوب التورية والابهام المتعمد.. لماذا؟؟ لأنه مما لا يحتمل سماعه العامة!! والادهى من ذلك هو ان البخاري ينهي الرواية بمنطق طفل في الصف الخامس ابتدائي.. لأنه ينسب للنبي جملتيّ: "يا بريدة أتبغض عليا؟" فقلت: نعم، فقال: "لا تبغضه فان له في الخمس أكثر من ذلك"!!!! كما لو ان الخلاف يتعلق بحصة عليّ بالخمس وليس بموضوع "وقوع" عليّ بـِ امرأة سبية!!! وهذا دليل ان البخاري هنا "يُرسل بالحديث".. البخاري هنا تنطبق عليه مقولة ابي عاصم النبيل وهو أحد رواة الحديث: "ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث"!! 

 

ولكن ما الذي فعله عليّ بالتحديد ليستحق "بغض بريدة (او خالد) و"شكاية الجيش" وبالتالي قيام النبي خطيبا في الناس؟؟؟؟ فالسبي ووطء السبايا في الإسلام ليس من الممنوعات.. هنا نحن امام "الحلقة" المبتورة في كل الروايات.. وهنا عليك ان تقوم بجولة أخرى في الكتب الفقهية لتستوضح مفهوم السبي في الإسلام.. عند ذاك ستكتشف ان السبي في الاسلام مؤطر بشروط .. واهم شروط السبي الاسلامي هو "استبراء المرأة السبية".. بمعنى انتظار حيضها.. و"إذا كانت حامل يحرم وطئها حتى تلد"!!!!! وهنا فقط سنفهم ان ما قام به "أبو الحسن" في اليمن هو انه لم يتمالك نفسه.. و"وقع" بهذه المرأة المسكينة بعجالة وبدون استبراءها.. راميا عرض الحائط بكل ضوابط السبي الإسلامية!!   

 

ولكي نُحَدّث الناس بما لا يعرفون!!! عليّ بن ابي طالب "وقع" بـ ِسبية اليمن "وقوع" "داعش" باليزيديات في سنجار!! لا غرابة ان "داعش" وبعد الضجة التي اثارها سبيهم لليزيديات.. أصدروا كتيبا عنوانه "السبي: احكام ومسائل".. وهم في هذا الكتيب يبررون "وقوعهم" باليزيديات وفقا "للكتاب والسنة والاجماع" بحسب تعبير الكتيب.. وفيه يستشهدون من بين امثلة كثيرة بسلوك عليّ ابن ابي طالب في "الوقوع" بسبية اليمن.. وهم يذكرون حديث البخاري الانف الذكر مع استخدام لِلون الأسود الغامق فقط لإبراز الجملتين التي ينسبها البخاري للنبي: "يا بريدة أتبغض عليا؟" "فقال: "لا تبغضه فان له في الخمس أكثر من ذلك".. وهم من وراء هذه التأكيد اللوني يريدون ان يقولوا للقارئ ان النبي الذي حلل لعلي ما قام به في اليمن يحلل ايضا لداعش ما قامت في سنجار!! ولكن بما انهم يعرفون ان فعلة علي في اليمن تناقض قاعدة الاستبراء التي شرحوها في باب اسبق من كتيبهم.. لذلك هم يقولون لك في النهاية: "فهذه الجارية اما ان تكون بكرا فلم ير عليّ وجوب استبراءها، واما ان تكون في اخر حيضها، فاكتفى بالحيضة قبل تملكه لها"!!! ثم يضيفون "وبكل حال، فلا بد ان يكون تحقق براءة رحمها بحيث اغناه عن الاستبراء!!!! عليّ في تفسير داعش هو طبيب نسائية!!!!  

 

  ما هو اكيد هو ان حدث "وقوع" عليّ بن ابي طالب بهذه الاسيرة المسكينة بعجالة وحتما بغلظة ومن دون الالتزام بمبدأ الاستبراء اثار استياء من شهدوا الحادثة.. بمعنى انهم اعتبروه نوعا من الاغتصاب.. وفقط عندما نفهم ذلك سنفهم استهجان القوم لسلوك عليّ هذا وشكايتهم.. وسنفهم الضجة التي اثارها هذا السلوك آنذاك.. وخصوصا بعد ان عاد "جيش" اليمن الى مكة للحج.. و"لما كثر القيل والقال من ذلك الجيش" "واشتهر الكلام فيه في الحجيج" (وانا هنا استخدم عبارات ابن كثير نصاََ).. قام النبي في الناس خطيبا في غدير خم (بعد انتهاء الحج): "فبرّأ ساحة عليّ وليزيل ما وقر في نفوس كثير من الناس".

 

 وهنا فقط نفهم السبب الحقيقي وراء خطبة غدير خم.. هنا نحن امام سبب منطقي وخطير لقيام النبي خطيبا للدفاع عن عليّ.. وفقط ساذج يمكن ان يصدق ان النبي "قام في الناس خطيبا في غدير خم "فبرّأ ساحة عليّ" من اجل " لبس الحلل" او "ركوب إبل الصدقة" كما يقول ابن كثير!! فـ عليّ في روايات الحلل وابل الصدقة "يثخن في سبيل الله"!! عليّ في هذه الروايات يتصرف وفقا لمبدأ تأدية الامانات الإسلامي ولا يحتاج في هذه الحالة لا لتبرئة "ولا هم يحزنون".. لا بل ان موقفه هنا يستحق "نوط شجاعة" لو كان صحيحاََ!! وليس تبرئة.. فالتبرئة في اللغة هي جعل الشخص بريء.. بمعنى تطهير سمعته من جرم او جريمة.. وفقط جرم "اثخان" عليّ بالمرأة السبية المسكينة يعطي لفعل التبرئة هنا معناه المنطقي.. كلنا نعرف ان للشهرة ضريبتها.. وسلوك ابن عم النبي هذا السلوك هو الذي أنتج "القيل والقال" و"اشتهار الكلام فيه في الحجيج".. وعندما نستذكر ان بث خبر في مناسبة الحج في تلك الايام هو مثل بث خبر عبر "قناة الجزيرة" في أيامنا هذه!! سنفهم الأهمية التي أعطاها النبي لهذا "القيل والقال".. وسنفهم لماذا قام في الناس خطيبا في غدير خم "فبرّأ ساحة عليّ وليزيل ما وقر في نفوس كثير من الناس".. قل انما انا بشر مثلكم!!!!  

 

 وهنا يسقط على رؤوسنا سؤال مدمر.. كيف تحولت خطبة لتبرئة "أبو الحسن" من جرم اغتصاب الى حديث "ولاية" وموالاة و "وال من ولاه وعاد من عاداه"؟؟؟ فهذا التحوّل في المعنى مذهل في راديكاليته.. وللجواب على هذا السؤال عليك برؤية هذا الحدث من منظور السوسيولوجيا التاريخية.. وعليك عندها استحضار عدة عوامل اجتماعية وتاريخية: أولها.. ان عليّ يمتلك "رأسمال" اجتماعي لا يمتلكه غيره.. فهو ابن عم النبي وزوج ابنته.. فكيف تقول للناس البسطاء من المسلمين ان ابن عم النبي اغتصب امرأة؟؟ ويحك يا هذا!! لهذا السبب لم يجرؤ أي مؤرخ إسلامي على ذكر ذلك بصراحة لأنه "مما لا يحتمل سماعة العامة" لكي نستخدم لغة الطبري.. ثم عليك ثانيا الاستعانة بقانون التآكل والاندثار الفيزيائي وتطبيقه على هذا الحدث التاريخي.. بمعنى معاملته معاملة اي منتج بشري يتلاشى بفعل عوامل الزمن والظروف المناخية والاستخدام.. السيف يصدأ ويختفي معدنه.. الديار تمحى ولا يبقى منها سوى الاطلال.. الحصون تندثر تحت الرمال.. الزقّورات تتحطم وتتحول الى ركام الخ.. وخطبة غدير خم والتي انتقلت من فم الى اخر.. ومن يد الى أخرى.. ومن جيل الى اخر.. ومن عصر سياسي الى اخر.. كل فم ويد وجيل وعصر لمسها ترك عليها "بصماته".. وتراكم البصمات أدى الى اختفاء تفاصيل الحدث الأصلي واندثاره تحت اكوام من الأحاديث المفبركة والروايات المبهمة.

 

 عليك دائما وانت تقرأ التاريخ الإسلامي الذي وصلنا اليوم ان تفهم ان احداث صدر الاسلام تناقلها الرواة والُقصاص شفهيا خلال أكثر من قرن قبل ان تُسطر على الورق: قال فلان "حدثني ابي" او "عن ابيه، عن جده، قال".. ثم تجد ان بين هذا الفلان والمؤرخ (الذي سطّر الرواية التي وصلتنا) هناك خمسة رواة.. وعندما تفهم سوسيولوجيا ما يعنيه ذلك.. بمعنى ان هؤلاء بشر لهم اهوائهم وأراءهم وافكارهم وظروف "مناخهم" الاجتماعي والسياسي وتقلباتهما.. وبالتالي مقصاتهم حالهم في ذلك حال الطبري.. منهم من يبتر.. منهم من يضيف.. منهم من "يرسل بالحديث".. منهم "يحدث بالحديث المعاني".. منهم من يؤلف "اخبار موضوعة".. وما كان "حديث ضعيف يستأنس به" ضمن إطار مبدأ "المسامحة".. يتحول بمرور الزمن والاجيال الى "صحيح".. عندها ستفهم نسبية حقائق "الكولاج" الذي بين أيدينا اليوم.. وما ينطبق على التاريخ الإسلامي.. ينطبق ايضا على كل تواريخ الأمم الأخرى: الصينية والهندية واليونانية والرومانية.. وانت إذا ما فهمت كل ذلك.. ستفهم عندها مقولة فولتير عن التاريخ البشري: "أساس كل تاريخ هي قصص الإباء للأبناء والتي تنتقل بعد ذلك من جيل لأخر، ما كان منها محتمل في الأصل، يفقد مع كل جيل جزء من هذه الاحتمالية. ومع مرور الوقت تنتفخ الأسطورة وتختفي الحقيقة".

 

ثالثا.. عليك باستحضار شيء يعرفه كل المختصون بالتاريخ.. وهو ان كل تاريخ هو تاريخ العصر الذي كُتب فيه.. بمعنى انه تاريخ يحمل اسقاطات العصر الذي كتب فيه.. ولتبسيط هذه الملاحظة "التجريدية".. تَصَوَّر مؤرخ شيعي اليوم يكتب تاريخ البعث في العراق!! وداعا للموضوعية!!! والتاريخ الاسلامي الذي وصلنا هو تاريخ كُتب داخل المناخ الفكري للعصر العباسي.. وهو بهذا المعنى يحمل اسقاطات العصر العباسي الفكرية والسياسية.. من هنا الصورة القرقوزية السيئة للأمويين في هذا التاريخ.. ومن هنا أيضا الصورة التقديسية لعليّ والتي كانت مفيدة سياسيا للعباسيين في مسار الصراع على الخلافة.. لا غرابة ان معاوية وهو أعظم سياسي انتجه العرب تم تصويره بطريقة كاريكاتورية تهكمية في هذا التاريخ.. بهدف تسخيفه.. لماذا؟؟ لأنه عدو عليّ.. معاوية في هذا التاريخ (على سبيل المثال لا الحصر) هو رجل نهم "واسع البلعوم كثير الطعم".. اما عليّ فهو زاهد متقشف "لا يزيد على ثلاث لقم"!!!!

 

علي الذي كان "ضخم البطن" في روايات صدر الإسلام يتحول في روايات العصر العباسي الى زاهد متقشف "لا يزيد على ثلاث لقم".. علي الذي كان يقتني السبايا الجواري في روايات صدر الإسلام.. يتحول في العصر العباسي الى ناسك.. الدنيا عنده أتفه من عفطة عنز!!!! علي "المحدود" في روايات صدر الإسلام ("لا رأي له" بحسب تعبير عامله في مصر قيس ابن سعد) يتحول في العصر العباسي الى "باب مدينة العلم"!! ومثل هذا التحول السحري في الروايات يدلنا على مسار تحول عليّ التاريخي الى أسطورة.. ولهذا السبب اختفى تدريجيا حادث "وقوع" باب مدينة العلم على "راس" السبية المسكينة!! ولهذا السبب تم انتاج روايات "الحلل" وركوب "إبل الصدقة".. لأنها ورغم سذاجتها وتناقضها الفاضح.. تبقى مطابقة لما ينبغي ان تكون عليه صورة ابن عم النبي عند عامة الناس.. "حدثوا الناس بما يعرفون" تقول المقولة التي تُنسب لـ ِعليّ!!  بمعنى التحدث معهم كقاصرين فكريا.. "خذوهم على قدر عقولهم" !! لأنهم غير قادرين على فهم المعقد.. وقرون من هذه المعاملة الأستحمارية للعامة اعطتنا البؤس الأخلاقي والسياسي السائد اليوم.