خميني كان يقول ان الحجاب هو راية الجمهورية الإسلامية.. ويبدو ان راية "جمهورية الملالي" بدأت بالانحسار عن رؤوس النساء الايرانيات.. فانت عندما تشاهد اليوم شوارع طهران سترى كثير من النساء الايرانيات بلا حجاب او بنصف حجاب او ربع حجاب!! وهذا الانحسار ازداد وتيرة بعد المظاهرات التي شهدتها ايران بسبب مقتل مهسا اميني.. وهو ترجمة لانحسار سلطة الملالي السياسية في الشارع الايراني.. لهذا السبب ثارت ثائرة المتشددين في الأشهر الاخيرة وطالبوا بتشديد الرقابة من اجل تثبيت "راية الجمهورية الإسلامية" من جديد على رؤوس النساء الايرانيات.. ومن هنا القانون الصارم الذي صاغة المتشددون في البرلمان الإيراني قبل اشهر تحت مسمى " الحجاب والعفة".. والذي يتضمن ٧٤ فقرة صارمة تتفاوت عقوباتها بين الجلد والغرامات والسجن.. لمن تترك خصلات شعرها خارج إطار "الساتر الامامي للجمهورية الإسلامية"!!
هذا القانون الجديد لم تتمكن حكومة الرئيس بزشكيان من تطبيقه لأسباب كثيرة.. اولا.. لأنه واجه معارضة وانتقادات كثيرة في الشارع الإيراني المتذمر من الأوضاع الاقتصادية المزرية وانهيار التومان الإيراني المستمر.. وثانيا.. لان الضربة الإسرائيلية المذلة اضعفت هيبة حكومة الملالي في الشارع الإيراني.. الضربة الإسرائيلية أظهرت للإيرانيين ان "الملا عاري".. وثالثا.. لان مصداقية نظام الملالي الذي يدعو للعفة.. تعرض لضربة رمزية موجعة مؤخرا.. بعد تسريب فيديو حفلة زفاف ابنة علي شمخاني.. وفيه تظهر "بيبي" شمخاني يدا بيد والدها مستشار الولي الفقيه.. شبه عارية الصدر بفستان زفاف فاحش الثراء.. وهذا الفيديو اثار جدلا حادا في إيران.. واصاب "حسين هذا الزمان" في مقتل.. لسان حال الشعب الإيراني بعد هذا الفيديو الذي عرى ازدواجية نظام الملالي يقول: بالوجه تقاة وبالقفى عراة!!
ما يستوقفني في الجدل الإيراني حول قانون الحجاب الجديد.. هو حوار تلفزيوني دار مؤخرا بخصوص هذا القانون.. بين الصحفي الإيراني محمد مهاجري وأبو الفضل اقبالي (واحد ممن صاغوا قانون الحجاب).. وكان حوار حامي الوطيس.. مهاجري قال لـ اقبالي: ان نزع النساء الايرانيات للحجاب هو رسالة احتجاج سياسي.. اقبالي أجاب: " فقط ٢٪ او ٣٪ من مجموع النساء الايرانيات يعتبرن التخلي عن الحجاب فعل سياسي، اما بقية الايرانيات فلا يعترضن على الحجاب".. وهنا سأله مهاجري بسخرية لاذعة: "من اين اتيت بهذه الأرقام.. هل هو نفس المصدر الذي يقول لنا ان التضخم الاقتصادي في السوق الايراني هو 20٪ فقط"!! المعنى المتضمن في رد مهاجري الساخر.. هو ان الحكومة التي تقول ان التضخم الاقتصادي في السوق الايراني هو 20٪ فقط.. في حين ان حتى ابسط حمّال في البازار الإيراني يعرف ان التضخم زاد على ٤٠٪ خصوصا بعد ان بلغ سعر صرف التومان في البازار الإيراني ١١٢ الف تومان مقابل الدولار الواحد (قمة تاريخية أخرى في مسار انهيار التومان).. وبالتالي فان مثل هكذا حكومة مستهترة بعقول الناس.. فقدت مصداقيتها.. وارقامها لا يصدقها أحد.
عبارة "من اين اتيت بهذه الأرقام" اللاذعة.. يمكن استخدامها لمشاغبة ارقام مفوضية الانتخابات التي أعلنت عن نسبة ٥٦٪ مشاركة في الانتخابات الاخيرة.. أرقام المفوضية المنفوخة.. اثارت الجدل في "الشارع العراقي".. لان هذه الأرقام هي حصيلة "حِسبة" ضمت فقط اعداد من جددوا بطاقاتهم الانتخابية.. وليس العدد الكلي لمن يحق لهم الانتخاب.. وبالتالي فان ملايين من المقاطعين سقطوا من هذه "الحِسبة"!! وارتفعت "بقدرة الزهرة" نسبة المشاركة!! تشكيك الشارع العراقي بأرقام مفوضية الانتخابات "المستقلة عن القانون" والجدل الذي دار حولها.. ان دل على شيء فهو يدل على انعدام الثقة ليس فقط بـمصدر هذه الأرقام (وهي مفوضية الانتخابات " الغير مستقلة").. وانما يدل أيضا على انعدام الثقة بأرقام "ديمقراطية اتباع اهل البيت".. كيف تثق بحرامي فاسد.. وبالتالي كيف تثق بأرقام حرامية.
مفهوم الديمقراطية الكلاسيكي القديم هو "حكم الشعب من قبل الشعب".. اما في العصر الحديث فقد طور العم "أبو ناجي" هذا المفهوم المباشر للفعل السياسي الى مفهوم "تمثيلي" غير مباشر.. يقوم فيه الشعب بانتخاب ممثلين ليقوم هؤلاء بـدورهم بإدارة شؤون "الشعب".. ولكن للانتخاب وظيفة اخرى كامنة وهي منح شرعية للنظام السياسي.. ونسبة المشاركة في هذا الإطار هي معيار تقييم هذه الشرعية.. لان نسبة مقاطعة كبيرة تعني ان "النظام" السياسي المعني لا يحظى بتأييد الشعب وبالتالي يفقد مصداقيته داخليا وخارجيا.. من هنا الأهمية التي تأخذها عملية نفخ الأرقام في الأنظمة الدكتاتورية التي تُنظّم دوريا انتخابات صورية ويفوز بها الزعيم دائما بنسبة ٩٦٪.. والهدف من هذه الأرقام المنفوخة هو اظهار ان السلطة تحظى بتأييد الأغلبية الساحقة من الشعب.
بمعنى اخر.. الأرقام في "جمهوريات الموز" هي أداة ليست محايدة.. ويمكنك ان تفعل ما تشاء مع الأرقام.. تستطيع خفض نسبة التضخم اعتباطيا كما تفعل حكومة الملالي في إيران.. كما تستطيع رفع نسبة المشاركة في الانتخابات كما تفعل "ديمقراطية ما ننطيها".. تستطيع احتقار قوانيين اللوجستيك الزمكانية وتقول ان عدد المشاركين في الزيارة الحسينية بلغ ٣٠ مليون.. كما يمكنك "لوي عنق" قواعد الانتخاب وتغيرها حسب الظرفية والطلب: دوائر مغلقة مرة ودوائر مفتوحة ثانية و"سان ليغو" اخيرا.. لكي تحصل على الأرقام التي تريد والوجوه التي تريد.. باختصار.. الأرقام في "الديمقراطيات" الشكلية التي لا تمتلك التراكم الثقافي والحضاري والمؤسساتي الضروري لممارسة الديمقراطية.. الأرقام في "الديمقراطيات" التي يشترى بها الصوت بـ٢٠٠ دولار.. الارقام في مثل هذه المواخير السياسية تصبح وسيلة لِفرض منطق: "تريد ارنب اخذ ارنب، تريد غزال، اخذ ارنب!!
من هنا.. فان "سؤال" انتخابات الذيول التي جرت مؤخرا هو ليس: هل تم تزوير الانتخابات ام لا؟؟ وهل الأرقام دقيقة ام منفوخة بفيتامين "فاء" الفساد؟؟ لا أحد ينتظر من حرامي ان يكون نزيها.. ولا أحد كان يتوقع من "ديمقراطية ما ننطيها" ان "تنطيها"!! فقط ساذج يمكن ان يتوقع من اتباع مفهوم "اهل البيت" الوراثي ان يطبقوا مفهوم الديمقراطية المعادي لفكرة الوراثة.. نحن هنا امام "عركة" مفاهيم سياسية.. ومثل هكذا "هوسة" ثقافية وسياسية لم ولا ولن تنتج انتخابات عادلة.. لكل شيء شروط امكانية.. وشروط الديمقراطية في "ديمقراطية ما ننطيها" غائبة كغياب "المهدي".
أحد علماء الانثروبولوجيا كان يقول ساخرا من منطق الأرقام الذي استفحل في العلوم الاجتماعية في العقود الاخيرة: "الإحصاءات والأرقام هي مثل الـ بيكيني (لباس السباحة النسائي)، تعطيك الانطباع بإظهار كل شيء، ولكنها تخفي دائما ما هو جوهري"!!ّ! ويمكننا النظر للانتخابات الاخيرة بنفس المنظار.. بمعنى ان المهم فيها هو ليس الأرقام وانما ما تخفيه هذه الأرقام.. ما تعنيه رمزيا هذه الأرقام المنفوخة.. لماذا قامت ديمقراطية "اتباع اهل البيت" بنفخ أرقام نسبة المشاركة في الدورة الانتخابية الحالية؟؟؟ ولم تقم بنفس الشيء في الدورة السابقة.. الم يقل لنا واحد من ابواقهم ابان الانتخابات السابقة والتي شهدت نسبة مشاركة هزيلة: "حتى لو كانت نسبة المشاركة ١٠٪ في الانتخابات فان شرعيتها ستبقى قائمة".. اذا لماذا لم يكتفِ "اتباع اهل البيت" في هذه الدورة بنسبة ٢٠٪ او ٣٠٪ وهي النسبة الأقرب للواقع؟؟ لماذا ارادوا نسبة ٥٦٪ ؟؟
الاجابة على هذا السؤال نجدها في الظرفية.. نجدها في الظرف الحرج الذي يمر به "اتباع اهل البيت" إقليميا ودوليا.. فموازين القوى تغيرت كثيرا منذ الانتخابات السابقة.. ففي الانتخابات السابقة كانت ايران تسيطر على اربع عواصم عربية.. و"اتباع اهل البيت" كانوا آنذاك مسترخين في "ظل" اسراب الطائرات الامريكية الروسية.. حشيش أفغاني في طهران وكبتاغون في "السيدة" زينب.. والتحشيش الاستراتيجي آنذاك وصل حد ان التاجر الإيراني كان يرى بلدان المشرق العربي مجرد بضاعة قابلة للمقايضة مع العم سام .. باختصار.. "اتباع اهل البيت" كانوا يعيشون نشوة "الانتصار" آنذاك.. ولهذا السبب لم تكن نسبة المشاركة في الانتخابات مهمة.. من يسيطر على نصف الشرق الأوسط لا يبالي بنسبة المقاعد في برلمان "لا يحل ولا يربط" جيوسياسيا.
اما اليوم فان "الفلك" الإقليمي دار دورة هائلة.. و"الهلال الشيعي" منذ سنة تقريبا دخل مرحلة الخسوف.. النظام العلوي في دمشق اختفى في ليلة ظلماء مثل كوكب ابتلعه ثقب اسود.. اما حزب الكبتاغون فقد بعثرته بيجرات قادمة تكنولوجيا من كوكب اخر.. حزب الكبتاغون اليوم لا يجرؤ حتى على إطلاق العاب نارية على إسرائيل التي تمارس لعبة "قنص الحمام" يوميا في لبنان!! اما نظام الملالي الذي تعرض لضربة إسرائيلية مذلة فلم يعد قادر اليوم حتى على تثبيت "راية الجمهورية الإسلامية" على رؤوس الايرانيات!! طهران تقف اليوم على حافة الجفاف المائي.. والاقتصاد الايراني على حافة الانهيار.
ضمن اطار هذه الهزيمة الاستراتيجية النكراء للهلال الشيعي.. يجب فهم عملية نفخ الأرقام في انتخابات اخر "معاقل" ايران في المنطقة.. أولا من اجل نفخ الذات ورفع معنويات القطيع داخليا.. وثانيا من اجل منح مهلة صلاحية اكبر لـ"بضاعة" ايران الفاسدة في العراق.. نفخ الأرقام في الانتخابات الاخيرة هي محاولة من التاجر الإيراني ليقول للأمريكي: "ما زلت امتلك "بضاعة" ثمينة في العراق.. ويمكننا لعب لعبة المقايضة كما في السابق"..ولكن لاعب البوكر الأمريكي يعرف ان "بضاعة" التاجر الايراني في العراق فاسدة.. مصير العراق سيحدده رد فعل لاعب البوكر الامريكي امام الثمن الذي سيقدمه تاجر السجاد الإيراني لإرضائه.. تصريحات المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية قبل يومين بخصوص التخلي عن التخصيب تبدو كـ بالون اختبار.
التاجر الإيراني الذي كان يتباهى في السابق بانه "اخترع الشطرنج" ويعرف اللعب على عامل الوقت.. يجد نفسه للمرة الأولى امام "لاعب بوكر" امريكي مجنون وذو مزاج زئبقي لا يمكن التنبؤ بحركاته.. طائرات الشبح التي زارت ايران في وقت متأخر من الليل مرت من هنا!! ونظام الملالي لن يتحمل جولة أخرى من القصف الشديد.. وهذا يثقل على أعصاب الإيراني الذي فقد "قلعته" السورية و"حصانه" اللبناني الثمين.. اما ما تبقى له من بيادق وذيول في العراق.. فهو يعرف تماما المعرفة بأنهم "حالة غازية" قابلة للتبخر عند ارتفاع درجة حرارة الإقليم (كما حصل اثناء الضربة الاسرائيلية الأخيرة).. وبالتالي فلا يمكن التعويل عليهم متى ما جد الجد.. اللاعب الايراني خسر الكثير مؤخرا.. وعامل الوقت ليس من مصلحة الخاسر في لعبة الشطرنج.. تِك تاك.. تِك تاك.. تِك تاك.. وفي مثل هذه الأحوال تكون الاعصاب متوترة.. مما يزيد من فرص الخطأ القاتل.. وكل ما نحتاجه في لعبة الشطرنج الإقليمية الحالية.. هي حركة خاطئة واحدة.. خطأ بسيط.. لنحصل على الـ كش مات!!