2009/11/30

الحرية التي لم نرها في"نصب الحرية"


أجرت وكالة الصحافة الفرنسية مقابلة مع النحات محمد غني حكمت .. تقول بعض سطورها ان حكمت "ساعد في عمل "نصب الحرية" الذي كان من تصميم استاذه النحات العراقي جواد سليم الذي وافاه الاجل في سن الثانية والاربعين قبل اكتمال هذا العمل .... ورغم ان هذا النصب الذي ازيح عنه الستار في 14 تموز/يوليو 1961، قد تم انشاؤه بعد سقوط الملكية في العراق (1958) ومجيء الزعيم عبد الكريم قاسم إلى السلطة إلا ان حكمت يؤكد بأن "العراق لم يشهد استقرارا امنيا فعليا منذ ذلك الحين".

تستوقفني جملة حكمت الاخيرة .. ليس فقط لانها صادرة عمن ساهم في تنفيذ اهم رموز العهد الجمهوري وهو نصب الحرية .. ولكن لأنها تحتوي على مفارقة كبيرة تخص نصب الحرية ..عندما تقول ان العراق لم يشهد استقرارا امنيا فعليا منذ سقوط الملكية .. فهذا يعني ضمنيا ان العهد الملكي كان يتمتع باستقرار امني فعلي .. وهذا غير صحيح تاريخيا .. العهد الملكي لم يكن مستقرا امنيا وقد شهد اضطرابات سياسية كثيرة كما شهد انقلابين خطيرين .. لا بل نستطيع ان نقول ان العراق منذ منتصف الستينات وحتى بداية الثمانينات شهد "استقرار" امنيا اكبر من استقرار العهد الملكي .. من هنا فان "الاستقرار الامني" ليس هو ما يميز العهد الملكي عن العهد الجمهوري.

ما يميز العهد الملكي هو حيز الحرية .. ما يميز العهد الملكي هي الحرية النسبية التي كانت متاحة للاختلاف السياسي .. في العهد الملكي كانت امكانية التظاهر في الشوارع ضد قرارات الحكومة حقيقة قائمة .. لا بل كانت هناك حتى امكانية اسقاط حكومة من خلال مظاهرة شوارع .. وهو شيء لم يعد ممكنا بعد ذلك .. منذ سقوط الملكية اختفت تلك الحرية .. لقد جعلت الانظمة الجمهورية من السجون المكان الوحيد الذي "يظهر" فيه الاختلاف السياسي و"يغيب" للأبد !!

منذ ذلك التاريخ اصبحت المسيرات المطبلة للسلطة هي النوع الوحيد المسموح به من "المظاهرات" .. والادهى انها اصبحت "مظاهرات" اجبارية .. ليس فقط اننا لم نعد نتمتع بحق الخروج في مظاهرات ضد قرارات الحكومة .. وهو ما كان ممكنا في العهد الملكي .. ولكننا فقدنا حتى حق عدم المشاركة في مسيرة قطيعية.. ليس فقط اننا لم نعد قادرين على فعل ما نريد (الاعتراض سياسيا على قرارات الحكومة) .. ولكننا لم نعد قادرين حتى على عدم فعل ما لا نريد (المشاركة قسريا في مسيرة تطبيلية للحكومة) .. لم نفقد فقط "الحرية الايجابية" ولكننا فقدنا حتى "الحرية السلبية".

وبهذا المعنى فـ تموز 1958 هو مفترق طرق في التاريخ العراقي المعاصر .. وهو ايضا مفارقة كبيرة .. حصلنا على "الاستقلال" ولكننا فقدنا الحرية النسبية التي كانت سائدة في العهد الملكي .. حصل البلد على استقلاله .. وفقد الانسان استقلاليته .."تحرر" الوطن .. وفقد "المواطن" حريته .. فليس هناك استقلال حقيقي من دون حرية .. ذلك لأن ليس هناك وطن من دون مواطن .. وليس هناك مواطن من دون حرية.

عذرا استاذ محمد .. ما فقده العراق منذ تموز 1958 هو ليس الاستقرار الامني .. لا .. ما فقده العراق منذ ذلك الحين هو الحرية النسبية التي كانت سائدة في العهد الملكي .. وعذرا استاذ محمد على المفارقة .. ولكن ما افتقده العراق منذ "نصب الحرية" هو بالتحديد الحرية .. ففي نفس الفترة التي اقيم فيها نصب الحرية كانت الحرية تُذبح في الشوارع .. لقد "عُلقت" الحرية فنيا في عهد جمهوري "علقها" وعطل مفعولها السياسي !! منذ ذلك الحين حضرت الحرية نحتا ورسما وخطابة .. ولكنها غابت واقعا .. وحضور الشيء في الخطاب الرسمي وغيابه في الواقع له اسم في علم الاجتماع السياسي : ايديولوجيا .. منذ ذلك الحين اصبحت الحرية شعار .. شعار نراه في كل مكان .. في الكتب المدرسية .. في الصفوف .. على الجدران .. اما في الواقع فلا .. منذ ذلك الحين اصبحت الحرية شعار في "نصب الحرية".

هناك تعليقان (2):

  1. مضبوط مية بالمية
    تحليل جيد للشعارات وماهو موجود على ارض الواقع.

    شكرا للدقة العالية في التحليل.
    العبرة هي ان نفهم الماضي كي نستطيع ان نطور الحاضر لا ان نعيد الاخطاء نفسها للابد.

    اي ان نصحوا الى ان الحرية هي واقع وليس شعار وان ننظر الى واقعنا ففي نظري ان الحرية هي احدى عادات المجتمع وموجودة حتى في اول ثانية تتكلم بها مع شخص. اقصد هل تستمع له وتتبادلان الكلام ام تقاطعه وتحاول افحامه واسكاته كي تتكلم لوحدك اي ان الحرية هي جزء من عادات واخلاق الفرد ايضاً.

    البرجوازي العراقي
    http://birjwazi.blogspot.com

    ردحذف
  2. السلام عليكم .. مررت على مدونتك الجميلة و احببت التعليق ..

    اتفق معك جدا .. ان كثير امور غابت عن العراق بعد نهاية العهد الملكي و خصوصا الطريقة التاي انهي بها

    لكن خلينا نستعرض الواقع ..

    كان العهد المليك ارستقراطي و اغلب المشاركين في الحياة السياسية هم من اهالي بغداد و وجهاء المحافظات ..

    العالم كان في تغير مستمر .. و ظهر صدى الحركات السياسية اليسارية في الشرق الاوسط التي ارادات اسقاط الاقطاع نهائيا

    كان العراق امام خيارين.. لكن الوضع العام بالمنطقة هيئ الشعب نحو حركات اليسار و التحرر

    ما حدث فعلا .. هو ذهاب زمن الاغوات ز العوائل العريقة .. و مجئ زمن الحزب الواحد و التفرد بالسلطة (تفرد الحكام بالحياة السياسية)
    ومثلما اسلفت ان ها التغيير كان ماشي بالعالم ككل ..

    و اليوم مع الاسف العالم العربي اتجه للعشائريات من جديد .. زمن اليمين و التمسك بالهوية على حساب الوطن

    نأمل ان تعود الحرية للشعب من جديد بدل ان تكون شعار او منهج دراسي على الورق


    تقبل تحياتي ..

    ابو سارة

    ردحذف