لم تستهوني يوما مراسم "رفعة" العلم الا في المرحلة الابتدائية ..في تلك الايام لم يكن هناك اطلاق رصاص .. ولا وجوه اساتذة متشنجة .. ولم تكن هناك اصوات متحشرجة خارجة من "سماعات" معدنية .. مراسم رفع العلم كانت بلا مبالغات شكلية انذاك .. ثلاثة اطفال يتقدمون بخطوات "كشافة" وليس بخطوات جنود .. يفك احدهم عقدة العلم .. يرتمي العلم على الكتف .. ويبدأ بالارتفاع بصمت .. صمت اصدق الالاف المرات من ازيز الرصاص .. صمت لا يتخلله الا ترقبنا الطفولي المحب للتفاصيل ...فكثيرا ما كان العلم يسكن بلا حراك .."ماكو هواء" .. ونحن كنا نريد له ان يرفرف .. وبعد ذلك يأتي احلى ما في "رفعة العلم" .. قصيدة الزهاوي : العلم .. عامر كان المتخصص في القاء القصيدة .. كنا نضحك بصمت من طريقة إلقاءه الغير متناسبة مع عمره ..هل كنا نغار منه ؟ اظن ذلك .. عامر صوت رائع : عش هكذا في علو ايها العلم .. فاننا بك بعد الله نعتصم.
قبل ثلاثة ايام اقر برلمان المنطقة الخضراء علم جديد مؤقت لمدة سنة .. في كواليس هذا التغيير هناك من التفاصيل ما ينفع لعمل مسرح دمى هائل .. اولا التغيير حظي بموافقة 110 من بين 160 نائبا حضروا جلسة التصويت من مجموع 275 برلماني .. حتى اصغر مدرسة ابتدائية في اصغر قرية عراقية تستطيع ان تجمع عدد اكبر في "رفعة" العلم .. ثانيا التغيير مؤقت وتم على عجل من اجل انجاح احتفالية ..البرزاني يريد تنظيم مؤتمر البرلمانات العربية في برزانيستان .. اقطاعي كردي يدعو "برلمانيين" عرب .. ام المفارقات .. ثالثا .. بما ان الاكراد يرفضون رفع "علم البعث" .. وبما ان "الضيوف العرب" يهددون برفض الدعوة اذا لم يرفع العلم العراقي في كردستان .. يتم تغيير العلم العراقي .. تسقط النجوم التي ترمز لمشروع الوحدة العربية الثلاثية .. فيرضى البرلمانيون العرب ..عجبي .. فقط دولة سماسرة تغير علمها بهذه الطريقة القرقوزية .. وفقط خيوط العم سام قادرة على تحريك مثل هكذا مسرح دمى.
هناك ثابت ومتحول ومتغير في العلم الجديد "المؤقت" .. الثابت ورغم اللغة الخشبية وكليشات الصحف الغربية هو الشيء الوحيد الذي اضافه صدام حسين : الله اكبر .. المتغير يشمل فقط ارث مرحلة عارف : اسقاط النجوم ذات الرمزية العروبية .. واخيرا هناك المتحول .. وهنا انا اعتمد على الصورة المقارنة بين العلمين والتي نشرتها وكالة الانباء الفرنسية .. الـ نيويورك تايمز ايضا نشرت نفس الصورة ولكن مع عنوان غبي .. والمتحول في الصورة لا يكمن فقط في الخط الكوفي .. فاحمر العلم القديم الشفاف قد اصبح غامقا في العلم الجديد .. والالوان عموما اصبحت داكنة .. السؤال هو هل هذا التدرّج اللوني هو مجرد تلاعب طباعي انترنيتي في معاملة الصورة ؟ ام انه تحويل رسمي مقصود ضمن اطار "التقية القانونية" التي تسود في تمشية معاملات دولة الرعاع العماماتية ؟
قد لايكون للتدرج اللوني اساس الا في صورة وكالة الانباء الفرنسية .. و مع ذلك فان اختلاف الالوان في الصورة معبر .. لا بل ان هندسة اللون في العلم الجديد تعبر بشكل ادق عن المشهد العراقي الحالي .. بمعنى انها ترسم رمزيا ومن حيث لا تريد الكارثة التي حلت بالعراق .. ففي عراق عمامة بلا حدود يطغي لونان .. الاحمر والاسود .. فالاحمر في كل مكان .. وخصوصا على الرؤوس التي دنستها دريلات جبانة .. وقبح الاسود ايضا في كل مكان .. وخصوصا على الرؤوس المعممة .. وانحسار الاخضر في علم "المنطقة الخضراء".. يقابله انحسار الخضرة في "ارض السواد" .. النخل مات بالملايين حسب اخر الاحصائيات .. "سود الوقائع" و"حمر المواضي" ..عفوا حمر الدريلات !! يطغيان على خضر المرابع في ارض السواد.
هناك اليوم فهم مرحلي .. فهم لطمي .. لمعنى "ارض السواد" .. بين رعاع اليوم هناك عدد كبير ممن ردد في يوم ما وبروحية القطيع شعار "الارض لمن يزرعها" .. ويبدوا ان شعار المرحلة هو : الارض لمن يقتلها .. من "الاحمر" الى "الاسود" القطيع واحد !! كان "التغيير" .. ولا زال .. شكلي.