مقالة سادرسان راغافان في الواشنطن بوست عن حال الفلوجة اليوم تستحق القراءة .. هي تصور الطريقة العنيفة التي تدار بها مدينة الفلوجة من قبل الزوبعي قائد شرطتها .. الصحفي يستعين بالزوبعي وهو ضابط سابق في الحرس الجمهوري ليقول لنا ما يحتاجه المجتمع العراقي الذي لايحترم الا لغة القوة ويفسر الرحمة على انها ضعف .. يقول الصحافي مستندا الى منطق مدير شرطة الفلوجة : بما ان الرجال في عراق اليوم يحرقون البشر احياء فان الاساليب العنيفة في الادارة ضرورية لحفظ النظام والامن.
أن قصة الزوبعي في الفلوجة كما يقول الصحافي تعطي فكرة عن العراق بعد خمس سنوات احتلال .. وبما ان هناك في الكوكب الامريكي من لازال يصدق المبررات الامريكية الرسمية لاحتلال العراق .. فاننا نسمع الصحافي يقول ان "المُثل" الامريكية التي كانت من ضمن مبررات غزو العراق كالديمقراطية وحقوق الانسان تترك المجال اليوم لقيم نابعة من الموروث العراقي والثقافة البدوية مثل قيم الاحترام والخوف والعنف .. خلاصة هذا الطرح الثقافوي هو رمي مسؤولية الكارثة الحالية على القيم العراقية التي تُحتم العنف كوسيلة حكم .. وبهذه الطريقة الفهلوية يستل الصحفي "الارنب" الامريكي من قبعة المسؤولية .. وهنا يتدخل الضابط الامريكي ويقول للصحفي كلمة الختام : " لايوجد هنا شخص مثل توماس جفرسون" .
مثل تلك الحجج الثقافوية فعالة فقط لانها تُغيّب المسار التاريخي لبناء الدول والمجتمعات .. نستطيع ان نذهب الى عصر توماس جفرسون ونرى مقدار العنف الامريكي انذاك على مستوى الافراد كما على مستوى "الدولة" الامريكية التي قتلت عشرين مليون هندي احمر.. ولكن بما انني اريد ان اركز على نقطة اخرى فانني اكتفي بالقول ان امريكا ايضا كانت حتى وقت قريب "ارض يحرق فيها البشر احياء" .. وهذا كان يحصل في شيكاغو العشرينات وميسيسيبي الستينات من القرن العشرين تحت ما يعرف بقوانين لينش ، اي القتل او الحرق الغوغائي للسود .. ومن يريد ان يشاهد حفلات القتل والحرق البشري االامريكية يستطيع ان يزور موقع جيمس الن المختص بالموضوع .
القتل الغوغائي لايعرف حدود ثقافية والامثلة كثيرة من فرنسا الى المانيا مرورا بجنوب افريقيا والمكسيك وانتهاء بالهند والصين .. العنف الغوغائي لغة كونية حين يهيمن الخوف ويغيب الاطار القانوني الرادع والمنظم للصراع الموجود في كل مجتمع .. وهذا ليس تبريرا للعنف الحاصل في العراق ولكن فقط لدحض تحليل الصحافي الذي يُرجع العنف الحاصل اليوم في العراق فقط الى عوامل الثقافة العراقية او قيم البداوة العربية .. كل الثقافات قتلت وتقتل تحت ظرفية ما .. والامريكي اليوم اخر من يعطي دروسا في التحضّر لأنه المسؤول الاكبر عن العنف الحاصل اليوم في العراق وهذا ما لا يقوله الصحفي .
ولكنني سأتوقف عند جملة الضابط الامريكي حين يقول "لايوجد هنا شخص مثل توماس جفرسون".. وساحاول ان اعيد تكوين الجملة : ترى ماذا لو كان توماس جفرسون في العراق اليوم .. فكرة فنطازية .. ولكن لما لا .. سادفع هذه الفكرة الفنطازية الى حدودها القصوى علها تظهر لنا ما تخفية الافكار والصور النمطية .. انا سأتخيل "الشيخ" توماس في الفلوجة حتى .. بل انني ساتخيله مرتديا الدشداشة والكوفية الحمراء !! قليل من الخيال لا يضر.
لوكان توماس جفرسون في الفلوجة فأظن ، ولست متأكدا، انه كان سيعجب بشيئين ...اولا كان سيعجب بالتنظيم العشائري لسكان الفلوجة وهو حتما كان سيعكف على دراسة التنظيم العشائري فيها .. فتوماس جفرسون تاريخيا كان معجبا بالتنظيم العشائري للهنود الحمر وهو كان يحسدهم على سعادتهم الناتجة عن نمط حياتهم المتكافل .. ثانيا هو سيكون سعيدا في الفلوجة لانه سيجد فيها ألذ "كباب" في العراق !! فالمعروف عن جفرسون حبه الخرافي للطعام حتى ان البعض كان يؤاخذه على شراهته امام الطعام .
وبجدية اكبر .. لو كان توماس جفرسون في الفلوجة فأظن انه كان سينزعج من شيئين .. اولا كان سينزعج لان الفلوجة ليس فيها عبيد !! فبالرغم من ان هذا "الاب المؤسس" للديمقراطية الامريكية قد جعل من الحرية ام الحقوق .. ورغم انه دعى الى الغاء الرق والعبودية .. الا انه كان يستخدم حتى نهاية حياته العديد من العبيد السود في مزرعته ( مفهوم العدالة في امريكا كان دائما مفهوم نسبي عندما يتعلق الامر بالمصالح وجفرسون ليس استثناء) .. وثانيا وهنا المهم، لو كان جفرسون في الفلوجة فهو سيغضب كثيرا لان الاحتلال سوف لن يُسمح له ان يطالب بالاستقلال ويدعو للتمرد على المحتل .. كما فعل حين ساهم في كتابة "اعلان استقلال الولايات الامريكية " عن التاج البريطاني في فيلادلفيا عام 1776.
الضابط الامريكي لايرى جفرسون في العراق اليوم لانه لايعرف كيف كان البريطانيين يسمون جفرسون ورفاقه الموقعين على "اعلان الاستقلال " أبان حرب الاستقلال الامريكية .. توماس جفرسون اكتسب شهرته في التاريخ الامريكي ليس لانه "فيلسوف سياسي" او مصلح .. لا، لا.. فكل افكاره السياسية مستقاة من المفكر البريطاني جون لوك ومفكري عصر التنوير .. جفرسون شهير في امريكا لانه المساهم الاكبر في كتابة "اعلان استقلال الولايات المتحدة" الذي دعى الى استقلال امريكا عن التاج البريطاني ونص اول ما نص على حق مقاومة المحتل البريطاني .. بمعنى ان مكانته متأتية من كونه مقاوم بالدرجة الاولى وليس من كونه مفكر او مصلح .. انذاك كان البريطانيون يسمون الامريكيين الداعين للاستقلال بالمتمردين .. وهذا ما لايعرفه الضابط الامريكي .
باختصار .. لو كان جفرسون في الفلوجة اليوم .. فهو حتما سيشارك في كتابة "اعلان استقلال العراق" داعيا فيه الى حق مقاومة المحتل الامريكي .. ولكنهم سيسمونه متمردا .. واولهم هذا الضابط الامريكي .. نعم .. لو كان توماس جفرسون في العراق اليوم لسموه ارهابيا .
اقرأ مقال جون بارنز في " النيويورك تايمز" لهذا اليوم .. بارنز قضى وقتا طويلا كمراسل في العراق .. وهو يلوم نفسه وزملائه الصحفيين على عدم فهمهم للثقافة العراقية وللتاريخ العراقي .. جون بارنز يعترف بسذاجته امام كثير من الاحداث التي كان يغطيها من دون ان يفهمها .. ويعطي مثالا الانتخابات التي صوت فيها "الشيعة" بطريقة قطيعية .. اراد بارنز لمقالته المعنونة "خمس سنوات" ان تكون مراجعة لما لم يفهمه في السابق .. ولكنك تتقدم في قراءة المقال وتجد نفسك امام جملة : "الاقلية السنية حكمت العراق لقرون" .. خمس سنوات قتلت فيها الاكاذيب والكليشات مئات الالوف وهجرت الملايين .. وفي مقالة يراد لها ان تكون مراجعة نقدية .. ولازال الصحافي الامريكي يستخدم الكليشة وعلى صفحات الجريدة الاكبر في العالم .. وهنا تبدأ بطرح الاسئلة عن جدية تلك المراجعة !!
لطالما سألت نفسي : كيف حصل ان الحقل الاكاديمي الامريكي انتج افضل الدراسات عن العراق والصحفيين الامريكيين على هذا المستوى من عدم الفهم للمجتمع العراقي .. لو قرأ بارنز مثلا كتاب اسحاق نقاش " شيعة العراق" لعرف ان "الاغلبية" الشيعية الحالية في العراق هي نتيجة مسار تشيّع لعشائر الجنوب العراقية بلغ قمته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .. وبهذا المعنى فأن جملة "الاقلية السنية حكمت العراق لقرون" التي يستخدم هنا ليس لها معنى تاريخيا .. لان السنة لم يكونوا اقلية قبل ذلك التاريخ.
مراجعة بارنز ذكرتني بمراجعة ناقصة اخرى قام بها "فارس" من الفرسان الذين حملوا لواء المظلومية الشيعية .. وهو حسن العلوي .. ومراجعة العلوي مهمة لان كلماته ربت الكثير من اصحاب الرؤوس الاسفنجية .. وهنا مقتطفات مما قاله حسن العلوي في حوار معه نشرته جريدة الراية القطرية قبل فترة :
أنا أعتقد أن التجربة الإسلامية للحكم، أي الحكم الحالي، ممثلاً بالشيعة الإسلاميين غير مشجعة علي الإطلاق. ففي عهدها أحرقت ثلث جوامع بغداد السنية ونصف حسينيات بغداد الشيعية وعدد كبير من الكنائس.. وبالعودة علي الماضي القريب نجد أن ثمانين عاماً من الحكم العلماني لم ينكسر خلالها زجاج لنافذة ضمن جامع أو حسينية أو كنيسة" ..."هذه الحكومة فقدت صفتها فهي حكومة شيعية كردية، والشيعة في السلطة لا يمثلون إلا أنفسهم, الأكراد يمثلون الشعب الكردي بينما الشيعة لا يمثلون الشعب الشيعي" ..."وأنا عندما أتكلم عن الشيعة لا أقصد شيعة العراق.. فأنا أفرق بين شيعة العراق وشيعة السلطة، رجاء أيها القارئ الكريم أفهم ما أقصد، حين ترد كلمة الشيعة في هذا الحديث فهي شيعة السلطة وليست شيعة العراق، مثل سنة السلطة في الأنظمة السابقة، لم يكن أبو حنيفة حاكماً ولا ابن حنبل ولا الإمام مالك أو الشافعي، لا في زمن صدام حسين ولا في زمن نوري السعيد ولا عبد الكريم قاسم، ولا أحمد حسن البكر.. وجميعهم سنة. هؤلاء كانوا سنة سلطة، أما سنة العراق فهم شيء آخر، والآن أيضاَ لدينا نفس الإشكال فهناك شيعة السلطة وهناك شيعة العراق. أنا أنتمي إلي شيعة العراق وليس إلي شيعة السلطة".. انتهى
حسن العلوي معروف باستداراته .. زلزال الثورة الايرانية جعله يقفز من سفينة البعث.. وزلزال العراق اليوم جعله يقفز من سفينة المظلومية .. ساترك جانبا جملة :"حرق ثلث مساجد السنة ونصف حسينيات الشيعة" ..فعدم الدقة هي اولى ضحايا اسلوب العلوي القائم على الاثارة .. ولا تستغرب حين تجده يستخدم في نفس الحوار تعبير "شعب شيعي".. فواحدة من صفات "فكر" العلوي هو ضعفه الاصطلاحي .. وفضفاضية المفردات هذه هي من تسمح للعلوي في نفس الحوار باستخدام تعبيرات : "ارض شيعية" و"ارض سنية".. ولا تطرح سؤال : ترى منذ متى اصبحت البصرة ارض شيعية .. فضوضاء "الفكر"العلوي لا تختلف كثيرا عن ضوضاء الدريل .. كلاهما يريد فرض حقيقته من خلال الثقوب!!
العلوي يقول انه يفرق بين شيعة العراق وبين شيعة السلطة .. وهذا اهم ما في كلماته .. ولكن العلوي هنا يهدم من دون ان يعترف .. وربما حتى من دون ان يعرف .. الاساس الذي شيد عليه كتابه "الشيعة والدولة القومية" .. فكل فرضية العلوي في كتابه هذا بُنيت على استخدام فضفاض لمفردتي "سنة" و"شيعة" .. وعلى خلط قسري بين سنة السلطة وبين سنة العراق .. لذلك فهو قد اعتبر ضمنيا ومن دون تحديد لمصطلحاته ان عبد الرحمن الكيلاني و عبد المحسن السعدون ممثلين للسنة .. فاذا كان هولاء لايمثلون السنة استنتاجا مما يقوله اليوم فلماذا كان الحديث في الماضي القريب عن طائفة سنية حاكمة وطائفة شيعية محكومة ؟ واذا صدقنا ان العلوي في الماضي كان يناضل من اجل حقوق مدنية للشيعة كما يقول اليوم مبررا لطميات "الشيعة والدولة القومية" .. فلماذا لم يناضل من اجل حقوق مدنية لجميع العراقيين سنة وشيعة .. طالما ان السلطة لاتمثلهم ؟
لو كان حسن العلوي يملك قليل من الامانة الفكرية لعمل اولا على تحديد وشرح مصطلحات "الشيعة والدولة القومية".. وهذا لا يتطلب فكرا خارقا ..فهنا واحدة من قواعد البحث العلمي وهي الدرس الاول الذي يتعلمه دارس علم الاجتماع السياسي : الكلمات لاتحمل مضامينها وخصوصا عندما يستخدمها الساسة .. فما بالك بمفردات هي في جوهر الصراع على السلطة .. وهي اليوم وبعد ان استخدمت من قبل "شيعة السلطة" قد دمرت وطن .. وفخخت شعب.
مراجعة العلوي ناقصة لانها تتغاضى عن الاسباب التي انتجت قراءته اللطمية المبتسرة للتاريخ العراقي .. العلوي لم يحدد مصطلحاته لانه كان قلما في معركة سياسية .. والاقلام المتخندقة لا تبحث عن مصطلحات دقيقة تمكنها من معرفة عميقة وفهم دقيق .. لا .. المعركة السياسية تقتضي استخدام الشعارات والكليشات ضمن طرح ضدي و منهج انتقائي للاحداث يُسخر لخدمة المعركة .. الكليشة كانت سلاح في المعركة .. والعلوي عندما كان جنديا في خندق المظلومية لم ينبه "القارئء الكريم" من ان "سنة" السلطة لايمثلون السنة .. كما يفعل اليوم حين يقول ان "شيعة" السلطة لايمثلون الشيعة .. تجحفل الخندق لم يكن يسمح بذلك .. وخصوصا عندما كان العلوي رئيس تحرير صحيفة المؤتمر الجلبية التي كانت تقبض من المخابرات الامريكية .. احمد الجلبي كان من "نخب" الشيعة انذاك .. وهو من كان يوزع الاوراق الخضراء .