نشر عبد الاله الصائغ يوم امس مقال عن "ثورة/ انقلاب" ١٤ تموز ١٩٥٨ ..المختصون بالتاريخ يميزون بين مفهومي الانقلاب والثورة وفقا لمعايير محددة .. كالطريقة التي يتم فيها التغيير السياسي، موقع القائمين بـ "الانقلاب" في حقل الصراع الاجتماعي او العدد المشارك في التغيير او حجم التغييرالذي يحدثه النظام الجديد.. مثلا، بعض المؤرخين يعتبرون الانقلاب ثورة اذا ما احدث تغييرا جوهريا في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي .. ولكن الصائغ في مقاله غير معني بهذه الامور.. فحُكمه قيمّي قائم على معيار الخير والشر المسترخي على ثنائية ملائكة وشياطين ..لذلك نستطيع ان نقول ان قراءته هي قراءة "شعرية" للتاريخ (بالمعنى الشخابيطي لمفردة شعرية).. وبهذا المعنى فان مقال الصائغ ليس له قيمة من زاوية النظر الاكاديمية.
اضافة الى هذا الغياب الاصطلاحي التام ، فمقال الصائغ يحوي من الاسقاطات والمغالطات التاريخية ومن الثقافوية التحقيرية ما ينفع لعمل بحث كامل عن ضحالة المستوى الفكري السائد في وسط "المثقفين المرتزقة".. وفيه بعد ذلك من الانتقائية والدسية ما يكفي لتغذية الرؤوس الاسفنجية لعقود معارك جمل قادمة.. لماذا التوقف اذا امام هكذا مقال ضحل.. اعتقد ان "قيمته" تأتي من كونه يمثل اسلوب شائع ومقرؤ جدا من قبل الرؤوس الاسفنجية.. فنحن هنا امام نموذج للاستخدام "الكيفماشائي" للماضي.. والتوقف عنده ليس مضيعة للوقت.
فحوى مقال الصائغ الكيفماشائي يمكن تلخيصها بجمل بسيطة: ان انقلاب/ ثورة تموز والغوغائية التي صاحبتها ادت الى "عسكرة الوعي الجمعي العراقي".. وتلك العسكرة قد مهدت لكل الكوارث السياسية اللاحقة.. ساترك جانبا عبارة " عسكرة الوعي الجمعي العراقي".. وسأكتفي بسؤال اطرحه وعيني على الواقع ماضيا وحاضرا: هل هناك وعي جمعي عراقي ؟؟ الطامة الكبرى في هذا المقال تكمن في مكان اخر.. فالصائغ يدين هوسة "ماركس ابو دشداشة" الغوغائية "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة".. ولكنه بنفس الوقت يستعين بالجواهري كمعين في قراءة تاريخ تلك الفترة !! وهنا نحن امام مفارقة هائلة.
فالجواهري في قراءة الصائغ يلعب دور الحكيم والحكم ويقول ما معناه بان انحراف الثورة وغرقها في مستنقع الدم ناتج عن اعتماد عبد الكريم قاسم "على اناس غير مؤهلين".. والجواهري يقول لنا بانه عندما سمع اسماء هولاء في بداية الثورة، "قرأ الفاتحة على الجمهورية".. السؤال الان : اذا كان اولئك "الساسة" غير مؤهلين، فهل كان الجواهري "مؤهلا" انذاك !! والسؤال المكمل للسؤال الاول هو: الم يقرأ الجواهري آنذاك اشياء اخرى غير سورة الفاتحة !! قصيدة "تحرك اللحد"مثلا .. التي منها الابيات التالية :
فضيق الحبل واشدد من خناقهم فربما كان في ارخائه ضرر
أقدِمْ فأنتَ على الإقدامِ مُنطَبِعٌ وأبطُشْ فأنت على التنكيل مُقتدر
هذه هي "مؤهلات" الجواهري آنذاك.. الجواهري كان "حبل ثقافي" يدعو للبطش والتنكيل بخصومه السياسيين.. اتعلم ام انت لا تعلم بان "حِبال" الضحايا فم !! قصيدة "تحرك اللحد" هذه تقول لنا ان لثقافة الحبال فم .. والجواهري كان هذا الفم .. ومن هنا فهو اخر من يحق له الحديث عن "المؤهلات".
"هل يعلم الصائغ ام هو لا يعلم" بان قصيدة الجواهري" تحرك اللحد" كانت في الاصل مدحا لمن قاموا بانقلاب ١٩٣٦ وهو الانقلاب الاول ليس فقط في العراق ولكن ايضا في كل منطقتنا.. وهل يعلم الصائغ ام هو لايعلم بان الجواهري اطلق في عام ١٩٣٦ اسم "الانقلاب" على جريدته تيمنا بـ "ام الانقلابات".. وهل يعلم الصائغ ام هو لايعلم بان الجواهري اعاد صياغة قصيدة" تحرك اللحد" في نهاية ١٩٥٩ بعد محاولة اغتيال قاسم لكي تتناسب مع اسم "الانقلابي" الجديد.. اي بعد اكثر من سنة على قيام "ثورة" ١٩٥٨.. فمتى قرأ الجواهري اذا سورة الفاتحة على "الجمهورية" ؟؟ التاريخ لا يرحم .. فالتاريخ ليس حقل مبالغات مفتوح كالقصيدة كما يعتقد الجواهري.. ولا يمكن اعادة صياغته بحسب مزاج الشاعر كلما استجد حدث!
اذا كان الصائغ يعرف تلك التفاصيل ويعمل بمبدأ الانتقائية فتلك مصيبة.. واذا كان لا يعرفها فالمصيبة اعظم .. باختصار.. قصة قصيدة الجواهري هذه تُبيّن ضحالة وحدود القراءة "الشعرية" للتاريخ.. وهي وبخلاف ما يقوله الصائغ، تُبيّن ان مسار ثقافة الحبال والسحل والقتل والتصفيات الدموية لم يبدأ في تموز ١٩٥٨.. انقلاب ١٩٣٦ هو اسبق في تأسيس مسار"عسكرة الوعي الجمعي العراقي".. اذا جاز استخدام تلك العبارة الاخيرة.
ولكي نبقى في الاهم.. قصيدة "تحرك اللحد" يمكن تسميتها "تحرك الحبل".. لانها قصيدة مؤسسة لثقافة الحبال والسحل والتصفيات الدموية التي لم يخرج منها العراق بعد.. وهي تقول لنا ان الجواهري كان من نفس طينة "ماركس ابو دشداشة" وهوسته السيئة الصيت .. وهي تقول لنا اخيراً شيئا مهما غالبا ما يتناساه "المثقفون".. نعم، ثقافة الحبال لها ساستها وغوغاءها.. ولكن ثقافة الحبال والسحل والقتل لها ايضا شعراءها ومثقفيها وخصوصا انصاف متعلميها.
باختصار .. قراءة الصائغ "الشعرية" للتاريخ تستدعي مقولة شكسبير المأثورة : "التاريخ" هو حكايات مجانيين تروى لاغبياء !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق