نشر باتريك سيل يوم امس مقال بعنوان "المدّ القومي العربي الجديد " يقول فيه "يبدو أنّ المنطقة تشهد لحظة عروبة جامعة جديدة. وهذه العروبة الجامعة الحديثة العهد، التي تبدو أكثر صدقاً من تلك التي روّج لها في الماضي زعماء منفردون، أمثال جمال عبد الناصر أو خصومه في حزب البعث، فهي عبارة عن اتحاد بين الشعوب، وليس اتحاد بين الزعماء . لقد مُنيت العروبة السياسية بالفشل، فهل ستنجح العروبة الشعبية أكثر منها؟" انتهى.
لا اعرف على اي اساس بنى باتريك سيل حجته من ان ما يحصل هو لحظة عروبة جديدة .. فالعروبة او الشعارات القومية لم تكن الدافع الاساس وراء التغييرات التي تحصل في البلدان العربية اليوم .. مطالب الاصلاح المحلية كانت هي الاهداف السائدة.. واذا كان هناك من مستفيد سياسيا من هذه التغييرات فهي التيارات الاسلامية .. وخطاب هولاء يتجاوز الخطاب القومي العروبي الى الاممي الاسلامي.
ثانيا .. حتى وان صحت فرضية اننا ازاء لحظة عروبة جديدة .. فان حجج باتريك سيل تبدو لي هشة وهو يقارن بين ما يسميه "العروبة السياسية" السابقة و "العروبة الشعبية" الحالية .. فهو يعتقد ان فشل العروبة السابقة ناتج عن كونها عروبة مفتعلة وغير صادقة .. لانها كانت عروبة نخبوية روج لها زعماء منفردين كعبد الناصر والبعث .. وهذا ما يميزها برأيه عن لحظة العروبة الشعبية الحالية.. وهذا كلام غير دقيق تاريخيا .. وساذج تحليليا.
اولا ..عروبة الخمسينات لم تكن عروبة نخب روج لها زعماء منفردون كما يدعي باتريك سيل .. لقد كانت حركة جماهيرية واسعة .. لا بل هي اكثر صدقا وعفوية من "العروبة" الحالية اذا ما استحظرنا الجو الايديولوجي الذي كان سائدا في المنطقة انذاك .. ولكن من قال ان عفوية او صدق حركة ما هو سبب نجاحها.. انا شخصيا اعتقد ان احد اسباب فشل العروبة السابقة يكمن في عفويتها وصدقها وخصوصا في سذاجة شعاراتها وعدم مهنية قادتها .
وما يقلقني اليوم بالتحديد .. هو ان "الثورات" العربية الحالية لا تختلف كثيرا عن الثورات التي حصلت في خمسينيات القرن الماضي ..وخصوصا عندما نستمع لسذاجة الخطابات المرافقة لها.. ولديماغوجية التيارات المرشحة للاستيلاء عليها.. فالانقيادية القطيعية للجماهير امام المغناطيسية العالية للخطاب الاسلاموي اليوم لاتختلف عن قطيعية الجماهير امام خطابات "صوت العرب" في الخمسينات .. والتفائل المفرط السائد اليوم لايختلف كثيرا عن التفائل الذي كان سائدا في ثورات الخمسينات .
عندما اسمع وائل غنيم يقول ان مصر ستصبح في المراتب الاولى بين اقتصاديات العالم في السنوات العشر القادمة .. فانني اضع يدي على قلبي !! فقول غنيم يذكرني باحد قادة دول منطقتنا عندما وعد صحفي من "الديرشبيغل" في بداية السبعينات من ان بلاده ستصبح في مستوى المانيا خلال عشر سنوات !
الطموح والتفائل هي اشياء مشروعة على شرط ان لا تشطح عاليا في الاوهام .. لان السقوط عندها سيكون مدوي .. هذا هو درس تجربة العروبة السابقة .. لا نحتاج الى عواطف صادقة .. نحتاج الى الوضوح .. وقليل من التواضع .. هناك مقولة رائعة للكاتب الفرنسي شاتوبريان تختصر هذا الدرس :
L'ambition dont on n'a pas les talents est un crime
الطموح الذي لانملك مؤهلات تحقيقه هو جريمة.
اجيال كثيرة من العرب بعثرتها مثل هكذا طموحات مجرمة .. وبعض الاوطان تموت اليوم لان قادتها كانوا طموحين اكثر من اللازم !