نشرت صحيفة هاريتز الاسرائيلية في طبعتها الانكليزية مؤخرا مقال لـِ اماتزيا برام تناول فيه بعض اسرار الارشيف العراقي الذي استولت عليه الولايات المتحدة بعد غزوها للعراق عام ٢٠٠٣ .. اماتزيا برام لمن لا يعرفه هو "اكاديمي" اسرائيلي متخصص في الشؤون العراقية وله بحوث كثيرة في موضوع الهوية العراقية .. وهو واحد من الباحثين الذين سمحت لهم الولايات المتحدة بالاطلاع على هذا الارشيف بسبب قربه من دوائر القرار الامريكي.. يستوقفني في مقال اماتزيا برام قول لـ طارق عزيز في احد اجتماعات القيادة في التسعينات.. طارق عزيز يقول "ان البحوث التي تقوم بها الجامعة الاسرائيلية عن العرب وعن العراق مذهلة. وان الاسرائليين يستخدمون هذه الابحاث الاكاديمية (التي تركز على الخلافات المذهبية والعرقية )لاثارة هذه الخلافات بين العرب من اجل اضعافهم وتجزئتهم".
لا اعرف النتاجات الاكاديمية الاسرائيلية عن المجتمعات العربية .. ولكنني قرأت بعض النتاجات الاكاديمية الاسرائيلية المترجمة للانكليزية عن المجتمع العراقي.. وهي فعلا تركز بمرضية عن موضوع انعدام الهوية بين مكونات المجتمع العراقي.. واماتزيا برام هو اكثر من ركز على هذا الموضوع ولهذا السبب استعانت به دوائر القرار الامريكي قبل احتلالها للعراق.. ولكن يجب القول ايضا ان البحوث الاكاديمية الاسرائيلية معمولة بشكل جيد ووفقا لمنهجية البحث العلمي.. وثراء معلوماتها عن تاريخ "المجتمع" العراقي مذهل.
ما لا يقوله طارق عزيز النائم في دفء نظرية المؤامرة هو ان البحوث الاكاديمية الاسرائيلية تتطرق ايضا لحالة التشظي السائدة في المجتمع الاسرائيلي.. وكل من اطلع على هذه البحوث يعرف ان المجتمع الاسرائيلي تنخره صراعات حادة بين مكوناته .. بين اليهود الارثودوكس وبين العلمانيين.. وبين الاشكناز(اليهود من اصول اوربية) والسفاراد (اليهود من اصول شرقية).. ناهيك عن الصراع بين اليهود وعرب ٤٨.. انا شخصيا قمت قبل سنوات بدراسة النظام السياسي الاسرائيلي الذي يمتلك اعقد نظام برلماني في العالم بسبب حالة التشظي المجتمعي في اسرائيل.. ووجدت مثلا ان كليشة :"عراقيان ثلاثة احزاب" التي سادت في خمسينيات وستينيات العراق والتي وضعها حنا بطاطو للاسف عنوانا لاحد فصول كتابه.. هي في الاصل مقولة يهودية : "يهوديان ثلاثة اراء".. وهي مقولة كانت تطلق وصفا لحالة التشرذم التي كانت سائدة داخل الوكالة اليهودية في بداية القرن العشرين.. وانا اعتقد انها انتقلت للعراق عبر يهود العراق.. وهي مقولة لا زالت سائدة اليوم في اسرائيل لانها تصف حالة التشظي داخل المجتمع اليهودي.
نعم لقد نجح الحقل الاكاديمي الاسرائيلي بفرض رؤية ثقافوية عن الصراع داخل مجتمعنا.. لانه ينطلق من معطيات واقعية (التشظي الاجتماعي عندنا حقيقة قائمة على ارض الواقع).. ونجح في تعميم هذه الرؤية لانه اتبع منهجية بحثية رصينة رغم انها لا تخلوا من اسقاطات ايديولوجية.. والاهم هو انه نجح لاننا تركناه وحيدا في هذا الاطار.. امام حقيقة تشظي مجتمعنا اتبعنا ولا زلنا نتبع سياسة النعامة.. امام واقع مجتمعنا المتشظي اكتفينا بمحكية اسطورية عن العراق الذي عمره سبعة الاف عام.. امام بحوث تعتمد على حقائق تاريخية، فضلنا الشعارات ونظرية المؤامرة.
خطورة هذا الموقف الشعاراتي يكمن في انه منع موقف اخر اكثر صحة تجاه تشظي المجتمع العراقي.. كان بالامكان طرح "الهوية" العراقية كواقع معقد.. كمشكل.. وبالتالي كسؤال ومحاولة اجابة عن هذا السؤال من خلال عرضه ومناقشته اكاديميا وربما ايجاد حلول له.. وهذه المواجهة مع الذات كان سيكون لها فوائد على المجتمع من منظور سايكولوجي.. فمناقشة مشاكلنا "بصوت عالي" هي طريقة علاجية ناجحة.. ونحن قد فضلنا دفن مشاكلنا تحت اكوام من الشعارات.. والمجتمع الاسرائيلي متفوق علينا سياسيا لهذا السبب.. فهو لايخاف من التطرق لمشاكله علنا.. ومراكز البحوث الاسرائيلية تنشر احصاءات سنوية عن مكونات المجتمع الاسرائيلي (من عرق وديانة ولغة الخ) مدعومة بالارقام.. اما عندنا فقد رفضت السلطات العراقية درج المذهب في تعداد السكان تحت شعار الهوية العراقية فوق الانتماءات الاولية.. والنتيجة هو ان الاكاذيب حلت محل الحقيقة.. فنسبة الشيعة التي قدرتها احصائيات الخمسينات بـ ٥١ ٪ من السكان.. تحولت الى ٧٠٪ في دفاتر المعارضة الشيعية.. ومثل هذه الاكاذيب والمبالغات التي سخرتها امريكا في مشروعها هي من قتلت العراق في السنوات الاخيرة.
ما لا يقوله طارق عزيز ايضا هو ان الحقل الاكاديمي العراقي الذي انتج دراسات رائعة في الخمسينات والستينات تحول تدريجيا وبسبب انعدام الحرية الى دكاكين حزبية.. وشاعت نتيجة لذلك دراسات متحزبة تفتقد لابسط قواعد البحث العلمي.. وقد كان لذلك نتائج كارثية على تاريخ العراق المعاصر ونحن اليوم ندفع ايضا ثمن ذلك.. فغياب حقل اكاديمي عراقي رصين ومستقل يلعب دور الحكم في البحوث والدراسات التي تتطرق لتاريخ العراق المعاصر.. اضافة الى غياب الحرية.. جعلا التطرق للتاريخ العراقي المعاصر حكرا على الاقلام الموجودة خارج العراق.. والادهى ان اغلبيتها هي اقلام معارضة.. والنتيجة هو ان تَحزُّب المحكيات الرسمية في الداخل قابله تحزّب المحكيات المعارضة في الخارج.. وفي هذه المواجهة المتحزبة كانت الحقيقة التاريخية هي الضحية.
حاول ان تقارن مثلا بين ما يقوله طالب شبيب مع ما يقوله هاني الفكيكي عن حدث عايشه الاثنان سويا (وكلاهما من قيادات البعث في الستينات).. ستجد ان ما يقوله طالب شبيب يناقض ما يقوله الفكيكي إن لم يُكذّبه.. فما بالك بحجم الهوة بين المحكية الشيوعية والبعثية.. او بين المحكية البعثية والشيعوية.. وهذا يعطينا فكرة بسيطة عن الالغام التي يحفل التاريخ العراقي المعاصر.. وكل هذا بسبب غياب حقل اكاديمي متخصص ومستقل.. لقد قتلت جمهوريات الاسلاك الشائكة الحرية الفكرية.. وجعلت الخطاب الرسمي هو الحقيقة الوحيدة المسموح بها.. وفي هذه الصحراء الفكرية اصبح كل ما يخالف خطاب السلطة مرغوب.. لان كل ما هو ممنوع مرغوب.. وبالتالي تحولت اكاذيب وكليشات كتاب معارضين الى حقائق تاريخية.. واصبح بامكان اي كويتب ان يرمي زبالته الحزبية او الطائفية امام بوابة التاريخ العراقي المعاصر.. والعراق يموت اليوم بسبب تراكم هذه الازبال.