"انطوني شديد كعادته لا يستقي معلوماته من السياسيين او من المنطقة الخضراء عندما يكتب عن العراق.. القرى النائية هي اهداف زياراته العديدة للعراق منذ ثلاث سنوات.. الناس في اسفل السلم الاجتماعي يشكلون مصادر تحقيقاته واهتماماته.. وهو غالبا ما يخرج بتحقيقات هي اقرب للبحث السوسيولوجي منها الى الريبورتاج الصحفي"..هذه الكلمات كتبتها هنا في الدربونة قبل سنوات.
انطوني شديد توفي قبل ثلاثة ايام بازمة ربو حادة في طريق عودته من سوريا التي دخلها سرا.. كان يستطيع ان يدخل سوريا بصورة رسميه.. ولكنه كان يعرف انه لن يكون حرا مع الناس في بلد مخابراتي.. كان يريد الذهاب كعادته خارج حدود الخطاب الرسمي.. الصحافة المجترة للخطاب الرسمي ليست صحافة.. المدن السورية التي تنام وتصحو على اصوات الانفجارات كانت وجهته.. كان يريد ان يشاهد بعينه ما يجري هناك.. هذه المرة لن نقرأ مشاهدات انطوني شديد.. الموت منعه من وضع ما شاهده باسلوبه البارع المعهود.
كثيرون يعتقدون ان شديد كان صحفيا ناجحا في تغطيته لاحداث العراق لانه من اصول عربية ولانه يتكلم اللغة العربية.. وهذا اعتقاد ساذج.. فهناك الكثيرين من الصحفيين الغربيين ممن يتكلمون اللغة العربية او هم من اصول عربية ولكنهم صحفيون عاديون.. ثم ان هناك المئات من الصحفيين العرب والعراقيين ممن عملوا في العراق.. ولكنهم لم يكتبوا شيئا يرقى لما كتبه شديد.
لا شك ان خلفية شديد العربية ساعدته كثيرا في عملة في المنطقة العربية.. ولكن تميُّز شديد راجع الى فهمه الخاص للعمل الصحفي.. اضافة الى اسلوب بارع في الكتابة مرتبط ارتباط وثيق بهذا الفهم.. فشديد امام مادته الصحفية يعمل بطريقة الانثربولوجي .. فهو عين تسجل قبل كل شيء.. وافضل مقالات شديد هي تلك التي راحت فيها عينه تسجل الاشياء قبل ان تحكم عليها.. وهو في بعض هذه المقالات ترك لنا تحقيقات صحفية تقترب في عمقها من اسلوب الصحفي البولندي الساحر ريشارد كابوتشنسكي.
اما عندما نسى شديد هذه الطريقة "العينية" وراح بحكم اقامته الطويلة في العراق يُغلِب ما يقوله له "خبراء الشأن العراقي" او بعض "المثقفين" العراقيين على مشاهداته.. فهو قد جنح للاسف نحو الاحكام العامة وبالتالي الكليشات.. واحدى مقالته الاخيرة عن العراق كانت من هذا النوع وجاءت محملة بالكليشات.. ما يشفع لشديد هو انه صحفي متواضع.. ذاتٌ غالبا ما تختفي امام مادتها الصحفية.. وهو بذلك ليس كما بعض الصحفيين العراقيين الذين يخنقون مواضيعهم بذواتهم المنتفخة.
مارتن شولوف وهو احد زملاء انطوني شديد كتب مقالا في الغارديان قبل يومين عن رحيل شديد المفاجئ .. شولوف يورد ما قاله له انطوني شديد في اخر ايامه في العراق :
"I came here to comprehend this place," he told me last year, talking of his time in Iraq. "With all its richness, beauty, insanity and loss, it is the one part of the world I wanted to make sense of. I'm not sure I know anything more now than when I got here
وهي كلمات تكشف ان انطوني شديد كان في قمة التواضع.. فهو رغم انه افضل من غطى صحفيا سنوات الاحتلال الامريكي للعراق.. فانه يقر بعدم معرفته بالشأن العراقي.. وهذا الاعتراف الاخير يجعلنا نفهم الحيرة المعرفية التي وسمت مقالات شديد الاخيرة في العراق.. لقد جاء العراق لفهم البلد.. وخرج منه غير متأكد انه فهم اكثر مما كان يعرفه قبل دخوله.
العراق الذي ساهمت في قتله كليشات صحفيون سرسرية من امثال حسن العلوي.. كم يحتاج الى هذا التواضع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق