القرد سلطان هو "بطل" واحدة من أشهر التجارب في علم السايكولوجيا المقارنة.. وهي تجربة قام بها الباحث الألماني ولفغانغ كولر في بداية القرن الماضي ونشرها في كتابه "عقلية القِرَدَة".. كولر وضع ذات يوم مجموعة من القِرَدَة من فصيلة الشمبانزي في حجرة وقام بتعليق موزة في سقف الحجرة العالي .. أمام منظر الموزة راحت القرود تتقافز للحصول عليها.. ولكن الموزة كانت بعيدة عن متناول اليد.. لِحل هذه الاشكالية قام القرد الاذكى واسمه سلطان بسحب قرد آخر ووضعه اسفل الموزة ثم تسلق على ظهره وقفز وحصل على الموزة .. عند اعادة التجربة مرة ثانية راح كل قرد يحاول تسلق ظهر الاخر للوصول الى الموزة .. ولكن بما ان الكل يريد الموزة لنفسه ما عاد أي قرد يسمح لِقرد اخر بالصعود على ظهره لأن ذلك يعني خسارة الموزة .. لذلك ساد الصراع بين القرود.
في "جمهورية الموز" الشيعية التي نراها في العراق اليوم .. هناك ما يشبه صراع القِرَدَة هذا.. مؤخرا دعا الشمبانزي مقتدى الصدر الى "ترميم البيت الشيعي".. الشمبانزي مقتدى بهذه الدعوة يريد الصعود على ظهور باقي القردة من أجل حيازة الاغلبية في الانتخابات القادمة وبالتالي الحصول على الموز.. الفرق بين القرد سلطان والشمبانزي مقتدى هو ان الاخير "اثول" لا يمتلك نباهة القرد سلطان..فبالأمس القريب حاول الشمبانزي مقتدى الصعود على موجة المظاهرات التي خرجت ضد القرود الحرامية رافعا شعار "شلع قلع كلهم حرامية".. أما اليوم فهو يدعو نفس القردة الحرامية الى الوحدة من أجل "ترميم البيت الشيعي"!! لا غرابة ان دعوته هذه اثارت تهكم اقرانه القِرَدَة.
المضحك هو ان دعوة الشمبانزي مقتدى رافقها انشقاق اخر داخل "البيت الشيعي".. ففي بداية هذا الشهر شهدت الساحة الشيعية المكتظة بالفصائل المتصارعة على الموز ولادة فصيل جديد اسمه "حشد العتبات".. وهو بحسب التقارير الواردة من "ذاك الصوب" مكون من فرقة "الإمام" علي ولواء علي الأكبر ، وفرقة العباس، ولواء أنصار المرجعية !! لا جديد تحت الشمس.. كل من يعرف تموضعات حشد القرود يعرف التذمر والصراعات بين فصائله على الموارد والغنائم والمناصب.. وبما ان اغلب الموز ذهب الى قِرَدة الحشد المقربون من مربية القرود ايران من امثال قيس الخزعلي.. انشق قرود حشد العتبات تذمرا وغيرة.. "قائد" فرقة العباس وهي أكبر فرق "حشد العتبات" يقول مبررا انشقاقه : إن "الأسباب الرئيسية لتشكيل حشد العتبات هي خدمة الوطن وتصحيح المسير والمسار"..واوووو !!!! صيغة المبالغة في الوطنية لوحدها تدفعك لعدم تصديق هذا القرد.
مذهل بعد ذلك ان تسمع محللوا "الحشد الاعلامي" يقولون لك ان انشقاق حشد العتبات سببه "انقسام أيديولوجي حقيقي" حول الروابط مع إيران" .. بخ بخ !! اما"العرّافون" بأسرار "المرجعية" فهم يقولون ان السيستاني هو من يقف وراء فكرة "حشد العتبات" لان حشده الاول اصبح اليوم بيد إيران.. وان السيستاني يعمل باستراتيجية "النجف مقابل قم".. وهم يستشهدون بحضور ممثلين عن مرجعية النجف "للمؤتمر" الذي انبثق عنه حشد العتبات.
عجيب امر هولاء العرّافون باسرار المرجعية.. لقد حيّرونا بتحليلاتهم المتضاربة.. مرة يقولون لك بأن السيستاني لا يتدخل بالسياسة لانه لا يؤمن بولاية الفقيه .. ومرة يقولون لك ان السيستاني هو من يقف وراء "حشد العتبات" لمواجهة نفوذ ايران !! الاستحمار السياسي عند هولاء "العرافين "مذهل .. ومفهوم العمل السياسي في قاموسهم يعود للعصر البرونزي.. ما هو اكيد هو ان تضارب "عرفان" العرّافين السابق مع "كشفهم" الحالي يزيح اليوم الغشاوة عن طلاسم "جوانية" السيستاني السياسية !!
باختصار .. سبعة عشر عاما والمرجعيات والاحزاب والفصائل الشيعية تتقافز في صراعها على موز السلطة.. ما ان يصعد اشطرهم على ظهور الآخرين للسلطة ويتمتع بموز اكثر من البقية.. حتى ينشطر تحالف القردة الى احزاب جديدة وفصائل جديدة ومسميات جديدة.. قرد ينافس قرد.. قرد يتهجم على قرد.. قرد ينفصل عن قرد.. انفصال حشد العتبات اغاض كثيرا الشمبانزي قيس الخزعلي مما دفعه للتهجُّم على فرق حشد العتبات واتهمهم بأنهم صناعة أمريكا وإسرائيل !! المضحك هنا هو ان مقتدى الصدر استخدم نفس لغة التخوين هذه ضد قيس الخزعلي عندما انشق عنه هذا الاخير قبل عدة سنوات.. وتهمة العمالة آنذاك كانت اشارة الى "التفاهمات" الجانبية التي قام بها قيس مع الامريكان اثناء "ضيافته" داخل سجن امريكي !!
انه قانون الموز .. وقانون الموز يحتم التنافس بين القردة.. في "حقل الموز" كل قرد صغير ينفصل عن قرد كبير هو قرد خائن .. وبالتالي عميل .. عميل لأمريكا ام لأيران .. سيان .. عميل للحرس الثوري ام لـ"أطلاعات" .. سيان .. عميل لمرجعية النجف ام لمرجعية قُم.. سيان.. المسميات والأشخاص ليست مهمة.. المهم هي ميكانزمات الصراع على الوجاهة او السلطة.. منذ قرون وهذا الصراع قائم داخل "حقل الموز" الشيعي.. حيث "افترقت الزيدية فرقا والإمامية فرقا والغلاة فرقا .. كل فرقة منها تكفر سائرها" كما يقول عبد القاهر البغدادي قبل ألف عام تقريبا في كتابه "الفَرْق بين الفِرَق".. ونستطيع أن نغمض اعيننا ونُحَوّر جملة عبد القادر البغدادي هذه كما نشاء ونقول : لقد افترقت المرجعيات فرقا (النجف مقابل قم والاخباريون مقابل الأصوليون).. وافترق الصدريون فرقا.. وحزب الدعوة فرقا.. والمجلس الاعلى فرقا و الحشد فرقا.. كل فرقة منها تخون سائرها!
حقل السلطة الشيعي هو "مواقع" واشخاص يتصارعون على هذه المواقع .. وجاهة واشخاص يتصارعون على الوجاهة.. سلطة واشخاص يتصارعون على السلطة .. مُقلدون ومراجع "دينية" تتصارع على المقلدين .. خُمْسْ واشخاص يتصارعون على الخمس .. باختصار.. موز وقردة تتصارع على الموز.
لمقتدى الصدر أن يدعو ويدعو لترميم "الخرابة" الشيعية.. له ان يبتهل من اجل ذلك في النجف او "يعتكف" في قم .. له ان يجلس باكيا تحت اقدام خامنئي او يضرب رأسه بشباك ضريح "حسنة ملص".. له ان يتقافز كما يشاء.. ولكن البيت الشيعي لن يرمم ولن تقوم له قائمة حتى لو ظهر "المهدي" متحايلا على فيزياء نيوتن ونسبية اينشتاين.. لماذا ؟ لأنك عندما تضع مجموعة قردة امام سلة موز .. فان التقافز والصراع بينهم هو حتمية فسلجية.. قد يحصل و تُشيد هذه القردة اضرحة وعتبات.. قد تؤسس مرجعيات وحوزات.. قد تؤلف كتب و"أمهات" كتب .. قد تسافر في رحلة استجمام أسكاتولوجي في "نظرية" الإمامة.. او تمارس "اليوغا" في بهلوانيات نهج البلاغة الخطابية.. ولكنها على ارض الواقع ستبقى مجرد قرود تتصارع داخل "حقل الموز".. قرد يهاجم قرد.. قرد ينفصل عن قرد .. قرد يُخَوّنْ قرد.. و"لكل قرد يومه".. تحويرا للمثل القائل "لكل كلب يومه".