"شبه الدولة" هو مصطلح استخدمه لأول مرة الباحث روبرت جاكسون في بداية التسعينات من القرن الماضي.. لوصف الكثير من دول "العالم الثالث" التي حصلت على "استقلالها" بعد تفتت الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية.. عدد كبير من "المستعمرات" السابقة حصلت على وضع الدولة من الناحية القانونية وعضوية الأمم المتحدة من دون ان تمتلك شروط الدولة ومقوماتها.. وظلت لهذا السبب دول فاشلة لانها لاتمتلك الامكانيات المادية والتنظيمية لِلعب دور الدولة على الساحة الدولية التي يحكمها قانون القوة.. والنتيجة هي عشرات من الدول الفاشلة التي تتخبط في دوامة الانقلابات والحروب الممولة من الخارج وبالتالي الفساد السياسي والفقر.. باختصار.. أشباه الدول بحسب روبرت جاكسون هي "دول" تمتلك سيادة شكلية (سيادة سلبية كما يسميها ) ولكنها دول لاتمتلك شروط السيادة الفعلية ( السيادة الايجابية) بما يمكنها من تنظيم نفسها داخليا والدفاع عن نفسها خارجيا ضمن قانون "الغاب" .. قانون القوة السائد في العلاقات الدولية.
روبرت جاكسون كان "يعتقد" مع ذلك ان بعض الدول التي "تحررت" من الاستعمار مثل الهند والعراق يمكن لها بما تمتلكه من إمكانيات بشرية ومادية وجغرافية ان تنجح في بناء دول ناجحة قياسا بدول مثل لبنان وتشاد التي لاتمتلك اغلب شروط الدولة .. ولكن جاكسون نشر كتابه في بداية التسعينات .. آنذاك كانت الدولة العراقية تمتلك تراكم سبعين عاما على المستوى المادي والتنظيمي.. آنذاك كان العراق دولة شيدت واحد من اكثر الانظمة التعليمية طموحا في المنطقة.. دولة بنت المصانع والجامعات وشيدت السدود ونظمت الري ودعمت الزراعة .. دولة لم تكن تستورد الطماطة.. باختصار .. دولة قوية كان هدفها اللحاق بالدول المتقدمة.
ولكن العراق ومنذ الاحتلال الامروايراني اصبح بلد بلا سيادة فعلية.. بلد ضعيف تحول تدريجيا الى "شبه دولة".. "شبه دولة" وظيفة رئيسها تقتصر على إصدار بيانات يدعو فيها دول الجوار لاحترام سيادة العراق (كما جاء في بيان الرئاسة العراقية الأسبوع الماضي).. كما لو ان دول الجوار هي جمعيات خيرية لتوزيع الحامض حلو !! العراق اليوم "شبه دولة" يمتلك السفير الايراني فيها سلطة اكبر من سلطة رئيس وزرائها.. "شبه دولة" يمتلك فيها "ربع الله" سلطة اكبر من قواتها الامنية.. "شبه دولة" لان رئيس الوزراء فيها يندد ويشجب وكأنه موظف في جمعية الامم المتحدة "لتوزيع البطانيات على اللاجئين".. باختصار.. في شبه دولة العراق "سيادة الرئيس" بلا سيادة .. و"دولة رئيس الوزراء" بلا دولة.. لانهما "يقيمان" في " دولة" بلا سيادة فعلية.
تعال الان واستمع الى كلمة الكاظمي المتلفزة قبل ثلاثة ايام.. الأمر لا يتعلق بمخارج كلماته المتلعثمة وكأنه تلميذ في الخامس الابتدائي .. لا .. في كلمة الكاظمي المتلفزة هناك ما هو اخطر لهيبة "دولة رئيس الوزراء".. فالكاظمي يقول فيها حرفيا الجملة التالية: "أقول للجميع لا تكسروا هيبة الدولة".. ناسيا او متناسيا انه اول من كسر هيبة الدولة حين تعهد عند تسلمه لمنصبة بالعمل وفقا لتوجيهات المرجعية.. فعندما يتعهد رئيس وزراء دولة بالعمل وفقا لتوجيهات مرجعية دينية !! تسقط سيادة الدولة .. تنكسر هيبة الدولة .. وهذا ما لا يفهمه "دولة رئيس الوزراء".. ونحن هنا في صميم الازمة العراقية الحالية.. بالاحرى في صميم العطب السياسي الشيعي.. وهذا العطب هو نتيجة "فيوز" فكري خالط بين مفهوم الدولة الذي يقتضي السيادة الغير منقوصة.. وبين مفهوم المرجعية باعتبارها سلطة فوق الدولة تقتضي و تشرعن ولاء عابر لحدود الدولة.. وهذا نفي لمفهوم الدولة وسيادتها.
السيادة هو مفهوم قانوني ولد في اوربا وخصوصا في انكلترا وفرنسا مع بدايات نشوء الدولة الحديثة.. وهو مصطلح ظهر لشرعنة ومواكبة خطوات ملوك انكلترا وفرنسا الرافضة لسلطة البابا داخل دولهم .. الرافضة "لمرجعية" الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تمتلك سلطة عابرة للحدود وتقتضي ولاء عابر للحدود.. فالدولة والمرجعية الدينية العابرة للحدود لا يجتمعان.. لأنهما نقيضي أضداد فكريا وعمليا.. هذا هو المسار التاريخي لمفهوم السيادة السائد اليوم في القانون الدولي .. باعتبارها صلاحية عليا ومطلقة لا تجاورها او تتجاوزها سلطة اخرى ضمن اطار الدولة المعنية.
وهذا ما لم يفهمه "دولة رئيس الوزراء" عندما تعهد عند تسلمه لمنصبة بالعمل وفقا لتوجيهات المرجعية.. وهو بذلك وضع سلطة المرجعية فوق سلطة الدولة.. تنازل عن سيادة الدولة باعتبارها سلطة عليا ومطلقة لا تجاورها او تتجاوزها سلطة اخرى .. من هنا فالعراق سيظل شبه دولة طالما ان سلطة المرجعية الشيعية فوق سلطة الدولة.. ورئيس وزراء "شبه الدولة" سيظل يندد ويشجب مثل موظف في منظمة الامم المتحدة .. سيظل يتوسل ويطالب باستعادة هيبة الدولة عبر التلفاز وخلف جدران المنطقة الخضراء.. طالما انه قَبِل ان يكون موظفا يعمل بتوجيهات المرجعية.. موظف صغير تحت امرة "اية الله".. فلماذا يحترم "ربع الله" موظف صغير ؟؟