قرأت مؤخرا مقال لكاتب عراقي يقول فيه متبخترا ان الحزب الشيوعي العراقي هو الحزب العراقي الوحيد الذي لم ينتج طاغية يرتكب الجرائم بحق الناس والوطن
الحزب الشيوعي العراقي لم يستلم السلطة في العراق .. لم يمارس السلطة في العراق.. شيء طبيعي انه لم ينتج طاغية.. ما هذه "العبقرية" في الاستنتاج .. كيف تريد لحزب لم يصل للسلطة.. كيف تريد لمثل هكذا "بطالة سياسية" ان تنتج طاغية.. نحن هنا امام "لامنطق".. ولكن هذا اللامنطق عندما يمر بموشور الشعبوية الشيوعي يتحول الى بديهية.. والادهى من ذلك هو انه يتحول بفعل "قيَّمية" الحرمان الفلمهندية الى ميدالية شرف.. مجرد ان الحزب الشيوعي لم يصل الى السلطة يتحول الى شهادة حسن سلوك سياسي.
تريد ان تُقيّم أداء الحزب الشيوعي العراقي؟؟ اذا عليك بتقييم تجربته الفعلية.. وليس من خلال منصب لم يتسلمه.. وعندما نقوم بتقييم اداء الحزب الشيوعي العراقي وفقا لتجربته الفعلية تاريخيا.. سنجد "استثنائية" الحزب الشيوعي العراقي الوحيدة.. سنجد ان الحزب الشيوعي العراقي هو الحزب الوحيد في العالم الذي ارتكب مذابح من دون ان يصل للسلطة .. كما حصل في كركوك والموصل حيث طبقوا عمليا شعارهم الشهير "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" شنقا وسحلا لخصومهم القوميين.. و"ديالكتيك الحبال" هذا هو الذي انتج الانتقام البعثي في عام ١٩٦٣.. فعل ورد فعل .. هذا هو معنى الديالكتيك في اللغة اليونانية .. وهذا لا يعني تبريرا للعنف البعثي.. ولكنه تذكير لشيوعيي العراق بحقيقة تاريخية يحاولون دائما "تنغيلها" خطابيا عبر حكاية "ليلى الشيوعية والذئب البعثي"!!
الاحزاب الشيوعية غطت ذات يوم نصف الكرة الأرضية .. وكلها بلا استثناء انتجت "جمهوريات اسلاك شائكة" حين وصلت للسلطة .. كلها بلا استثناء سجنت وعذبت وقتلت خصومها.. كلها بلا استثناء فرضت نظام عبادة الشخصية للقادة الطغاة.. ولكن "ماركس ابو دشداشة" لازال يعتقد باستثنائية الحزب الشيوعي العراقي.. هو لازال يعتقد ان الشيوعيين العراقيين القادمين سوسيولوجيا وسايكولوجيا من حواضن الحرمان والضغينة كانوا سينتجون طيور كناري وديعة عند وصولهم للسلطة !!
الحزب الشيوعي العراقي كان حزبا عقائديا ثوريا ككل الاحزاب الشيوعية آنذاك.. والعنف عند الاحزاب الثورية هو شيء مشروع من اجل الوصل الى السلطة والاحتفاظ بها.."اية الشيوعيين العظمى" لينين كان يقول : "كيف يمكننا القيام بثورة من دون فصيل اعدام" !! وكوادر الحزب الشيوعي العراقي نموا و"تورموا" فكريا ضمن هذا المفهوم "اللينيني" للسلطة !! وحزبهم تصارع على السلطة في عراق الخمسينات والستينات.. وهو اثناء هذا الصراع الدموي على السلطة مارس التنكيل والتعذيب والسحل والقتل بحق خصومه.. ولكنه فشل في نهاية هذا الصراع الدموي في الاستحواذ على السلطة.. ماذا يفعل أمام هذا الفشل السياسي ؟؟؟؟ اللجوء الى خطاب الضغينة "المُنغّل" للاحداث التاريخية وللقيم.
خطاب الضغينة هو "افيون" الفاشلين.. محاولة الحصول على شيء ثم الفشل في الحصول على هذا الشيء يولد شعور حرمان مؤلم للذات .. كيف السبيل الى مداواة هذا الشعور الجارح للانا ؟؟ الإجابة بسيطة : الحط من قيمة الشيء البعيد المنال (السلطة) عبر خطاب قاسر للأحداث و ومُحَوّر للقيّم.. ما هو صراع على السلطة يتحول "بقدرة مهزوم" الى صراع مبادئ وقيم !! ما هي ضرورة تاريخية (الهزيمة على أرض الواقع) تتحول الى تَمَنُّع وخيار اخلاقي.. ونحن هنا امام نفس المناورة "التنغيلية" التي يقوم بها الشخص الذي "ما ينوش العنب ويقول عنه حامض".. لتبرير فشله المؤلم يقوم هذا القزم الفاشل بتحوير قيم الاشياء.. العنب الحلو يتحول الى حامض.. الفشل في الحصول على الشيء المرغوب يتحول الى تمنّع ذاتي وانَفَة مداعبة للذات المندحرة.
"ماركس ابو دشداشة" تصارع على السلطة في عراق الخمسينات والستينات.. وهو قد رفع في "حضرتها" الحبال والمشانق.. وسكب في محرابها الدماء وارتكب الجرائم .. ولكنه فشل في الاستحواذ على السلطة .."ما العمل" ؟؟ : "تنغيل" الاحداث قيميا ومنحها معنى آخر.. ما هي ضرورة قسرية (الفشل في الحصول على السلطة) تتحول إلى فضيلة (الحزب الشيوعي لم ينتج طاغية).. ما يدخل ضمن نطاق "مجبر اخاك لا بطل" يتحول الى شهادة حُسن سلوك سياسي.. ما كان صراعا دمويا على السلطة استُخدِمت فيه الحبال والمشانق يتحول الى صراع مبادئ وقيم بين "ليلى الشيوعية البريئة والذئب البعثي"!! كل سردية الحزب الشيوعي العراقي المنغّلة للقيم يمكن تحليلها عبر مفهوم الضغينة هذا.
الاسوأ من العمى التاريخي في مقولة صاحبنا هي الشعبوية الشيوعية المبتذلة والمنتجة لعقلية الضحية.. فصاحبنا في مقولته اعلاه يريد ان يقنعنا بأن الاجرام بحق الناس والوطن محصور بالطاغية فقط.. وهذا استحمار فكري لا ينطلي الا على قراء "طريق الشعب".. ارتكاب الجرائم بحق الناس والوطن ليس حكرا على الطاغية او الرئيس.. ارتكاب جرائم بحق الناس والوطن ليس محصورا فقط في نطاق السلطة.. الشخص الذي يرمي زبالته على الرصيف هو مجرم بحق الناس والوطن.. الموظف الذي لا يؤدي معاملات الناس إلا بعد استلام رشوة هو مجرم بحق الناس والوطن.. الاصبع البنفسجي الذي انتخب أشخاص لا يعرفون غير اللطم ثم يتباكى بعد ذلك على انعدام الكهرباء هو مجرم بحق الناس والوطن.. سكاكين مقتدى القذر التي خاضت في اجساد المتظاهرين في ساحة التحرير هي سكاكين مجرمة بحق الناس والوطن.. عميل المخابرات الذي عمل في اجهزة مخابرات نظام البعث ثم بعد ذلك تعاون مع المخابرات الامريكية ثم اخيرا تعاون مع المخابرات الايرانية (كما كشفت وثائق انترسِبت) هو ايضا مجرم بحق الناس والوطن .
وهنا نأتي "لرباط سالفتنا".. الشيوعي الذي رفع بعد انقلاب تموز ١٩٥٨ شعار"ماكو زعيم الا كريم" وهو اول شعار دكتاتوري في تاريخ العراق المعاصر.. هذا الشيوعي هو ليس كناري وديع كما يعتقد "اخينا بالله"..لا.. لا.. هذا الشيوعي هو مجرم بحق الناس والوطن.. الشيوعي الذي ردد شقاواتيا شعار "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة" وراح يقتل ويسحل خصومة القوميين في كركوك والموصل في "مذابح لم يرتكب مثلها حتى هولاكو" بتعبير عبد الكريم قاسم.. هذا الشيوعي ليس ضحية كما تحاول تصويره سردية "ليلى الشيوعية والذئب البعثي".. لا.. لا .. مثل هكذا "حبل" هو مجرم بحق الناس والوطن .. الشيوعي الذي إنْظّم الى حركة "الانصار" الشيوعية في كردستان في بداية الحرب العراقية الايرانية والتي مولها وسلحها جلال الطالباني بأموال المخابرات الايرانية.. هذا الشيوعي الداعم لايران بطريقة غير مباشرة هو ايضا مجرم بحق الناس وخائئئئئئئئن للوطن.. واخيراً وليس اخراً .. الشيوعي الذي هرول خلف دبابات الاحتلال الأمريكي وشارك في مجلس الحكم البريمري الذي فكك العراق طائفيا.. هذا "البسطال الاحمر" هو ايضا مجرم بحق الناس والوطن.. واخيرا وختام التجربة الشيوعية العراقية "مسك" !! الشيوعي الذي انضم الى تحالف "سائرون الى الوراء" بقيادة السكين المتعفنة في خصر العراق مقتدى القذر.. مثل هكذا "عبقرية" سياسية هي ايضا اجرام بحق الناس والوطن.
باختصار.. الاجرام بحق الوطن ليس محصورا بالطاغية كما تعتقد الشعبوية الشيوعية المبتذلة.. ليس بالطاغية فقط تُقتل الاوطان!! زمن الخطابات الشعبوية المستجدية للعواطف الفلمهندية الرخيصة انتهى.. وحان الوقت للشيوعيين ان يفهموا ان شعبويتهم وغوغائيتهم ومزايداتهم السياسية في الخمسينيات والستينيات هي ايضا ساهمت بتدمير العراق.. حان الوقت للشيوعيين الذين كانوا يرفعون مظلاتهم كلما امطرت السماء في موسكو ان يفهموا ان العمالة لموسكو لا تختلف عن العمالة لواشنطن او لطهران.. من هنا فلا يحق لبيادق ستالين ان يعطونا محاضرات اخلاقية عن الطغيان.. ولا يحق لمن هرول خلف دبابات العم سام التفلسف بموضوع الاجرام بحق الوطن.. والمثل الانكليزي يقول : "كل ديك على زبالته صياح".