بين ارتال الجيش الامريكي الذي احتل العراق .. كان هناك عشرات المبشّرين المسيحيين.. آنذاك كان زعماء اليمين المسيحي المقربون من جورج دبليو بوش يريدون نشر "تعاليم السلام المسيحية" في العراق.. لفهم هذه الفكرة الفنطازية علينا ان نتذكر ان اكثر من نصف الامريكيين كانوا يعتقدون انذاك ان العراق هو المسؤول عن هجمات ١١ سبتمبر.. وهذا يعطينا فكرة بسيطة عن العقلية الامريكية التي رافقت مسار غزو واحتلال العراق.. العراق الذي احتلته امريكا كان يعيش فيه ما يقارب المليون مسيحي.. أما اليوم فلم يتبق منهم سوى نسبة قليلة يصعب تقدير عددها يقال انها بين ثلاثمئة الف اواربعمئة الف.
البابا الذي زار العراق في الاسبوع الماضي لم يذكر بتاتا الاحتلال الامريكي.. ولكنه تطرق لثيمة الحرب بطريقة عائمة.. كما لو ان الحرب قامت بها كائنات فضائية قادمة من عوالم مجهولة.. لماذا ؟ لأن زيارة "الحبر الاعظم" استخباراتيا ولوجستيا تمت برعاية امريكية.. امريكا التي فعلت كل ما في وسعها من اجل الغاء زيارة البابا للعراق اثناء الحصار.. فعلت اليوم كل شيء من اجل انجاحها .. والثمن هو "تغطية اعلامية" ركزت على "الارهاب" وازاحت من المشهد دور الاحتلال الامريكي في نشؤ هذا "الارهاب" ..وعلينا هنا استحضار معنى الحجب الكامن في فعل "غطّى"/ تغطية !! "فالتغطية الاعلامية" لزيارة البابا ارادت ان تربط سببيا بين تناقص اعداد المسيحيين في العراق وبين ارهاب داعش .. كما لو ان كل المسيحيين هاجروا بسبب داعش.
يقال ان ما يقارب الف صحفي ساهموا في هذه "التغطية".. ولكنك عندما تقرأ "التقارير" الصحفية التي نشرت اثناء هذه الزيارة وتتمعن في الصياغة والمحتوى سيبدو لك وكأنها قادمة من زمن "البرافدا" الستاليني.. لماذا لان هذه التغطية في اغلبها العام تمت باسلوب الـ "Buzz " الامريكي .. اسلوب "الطنين" او"الضجيج" الاعلامي .. ضخ مكثف لصور وكليشات معينة وتكرارها من اجل فرض تصورات ورؤى محددة مسبقا.. شعار هذا الاسلوب هو "كرر، كرر، كرر حتى يصدقك الناس".. عملا بجملة وزير الدعاية النازية غوبلز : "اكذب، اكذب، اكذب حتى يصدقك الناس".
ولكن ، لحسن الحظ ، التاريخ لا يكتبه الصحافيون او مراسلوا الـ "سي ان ان" او فريق البابا "الاعلامي".. فالتاريخ يقول لنا ان الهجرة المسيحية في العراق هي جزء من هجرة اكبر لجميع مكونات النسيج الاجتماعي العراقي.. وهذه الهجرة الكبرى قد بدأت اثناء الحصار الامريكي.. في البدء كان الحصار الامريكي !! ثم جاءت بعد ذلك "الدبابة الامريكية" وحولت العراق تدريجيا الى معسكر للارهاب العالمي عملا بمقولة جورج بوش الشهيرة "لنحاربهم هناك لكي لا نضطر لمحاربتهم على أرضنا".. بمعنى تحويل العراق الى ساحة لتصفية حسابات امريكا مع القاعدة.. وهكذا كان.. كل من لا يستحضر هذا الاطار العام الذي سبق غزو العراق واحتلاله.. كل من لا يستحضر مراحل الاحتلال وتفاصيله التي ينام فيها "الشيطان".. كل من لا يستحضر نظرية الفوضى الخلاقة التي تبنتها امريكا والتي دمرت الدولة العراقية ومؤسساتها .. كل من يتطرق للوضع العراقي عبر ثيمة الارهاب التعويمية كما لو ان الخراب العراقي بدأ مع داعش .. كل من يقوم بذلك هو "مغطي اعلامي" لجريمة الاحتلال الامريكي.
هناك في العراق الذي زاره البابا مواطن عراقي اسمه كوركيس وهو مسيحي كما يدل اسمه .. "سرايا السلام" التابعة لمقتدى الصدر دأبت على مطالبة كوركيس بدفع "أتاوات حراسة" لمحله في مجمع المشن التجاري في بغداد.. كوركيس يقول إن "الأتاوات في الآونة الأخيرة أصبحت أكثر من أرباح المحل".. و كوركيس يخاف أن تعمد هذه "الجهات المسلحة" إلى كسر محله وأخذ أغراضه أو القيام بتأجيره دون علمه، مؤكدا أن "هذا حصل في السابق".. ترى ماذا سيفعل كوركيس في هذه الحالة برأيكم ؟؟ انا ساقول لكم .. كوركيس لن يستطيع الاستمرار في العيش في ظل "سلام" واتاوات "سرايا السلام".. كوركيس سيقرر مغادرة العراق قريبا..هو سيذهب الى عمان او اسطنبول.. ومن هناك سيحاول الحصول على منفذ للذهاب الى مدن لا يحكمها قوادي الدين.. سيحاول الذهاب الى مدن مثل امستردام .. ستوكهولم .. فانكوفر .. مدن يحكمها "ملحدين" ولكنها انقى واشرف من نتانة "المدن المقدسة" التي تستقبل البابا اعلاميا ولكنها واقعيا لاتسمح للمسيحي ان يعيش فيها لانه "نجس"بحسب "فقه النجاسة".
اسجل هنا قصة كوركيس لانها تقول لنا عدة اشياء مهمة .. اولا هي تقول لنا لماذا ذهب البابا الى النجف.. فالبابا ليس ساذجا وهو يعرف قصة كوركيس ومعاناة المسيحيين بسبب "ربع الله" و شركات "آل البيت" و"احفاد النبي" اللامحدودة والتي تعمل بفقه "جمع الاتاوات او تفجير المحلات"!! البابا ذهب لرؤية فقيه الاحتلال على امل التخفيف عن مسيحيي العراق الذين يعيشون تحت ارهاب المليشيات الشيعية.. دعك من الصور والبيانات الصحفية .. فما وراء الأكمة ما وراها !! ثانيا انا اسجل قصة كوركيس هنا للتاريخ .. لكي لا يأتي بعد عشر سنوات مراسل من "كوكب الكوكا كولا" ويقول لنا ان كوركيس هاجر من العراق بسبب ارهاب داعش او غدا (من يدري) ماعش .. ثالثا، وهنا المهم في موضوع اليوم .. انا اسجل قصة كوركيس لان ما يحصل اليوم لكوركيس حصل للمسيحيين في البصرة على يد المليشيات الشيعية منذ الاشهر الاولى للاحتلال .. والبصرة اليوم مدينة شبه خالية من المسيحيين .. ولكن مراسلوا الـ "سي ان ان" يريدون ان يقنعوننا بان داعش فقط هو المسؤول عن هجرة المسيحيين ..اما ما قبل داعش فقد كانت المليشيات الشيعية توزع الحامض حلو واعلام "قوس قزح" على الناس!! البصرة اليوم اصبحت مثل النجف وكربلاء مدينة "مغلقة" امام المسيحيين .. وهذا بفضل "فقه النجاسة".
بعد زيارة البابا للنجف اصدر "مكتب السيستاني" بيانا يتحدث فيه عن الاخوة والتعايش !! ولكن الألف صحفي الذين رافقوا البابا في زيارته "السياحية لاطلال العراق" لم يطرحوا سؤال في قمة السذاجة وهو لماذا يا ترى لا يوجد مسيحيين في كربلاء والنجف رغم كمية الاخوة والتعايش المتناثرة من بيان مكتب السيستاني؟؟ الصحفيون المرفقون من قبل قنوات الاستحمار الاعلامي جاءوا العراق من اجل بضعة صور وكليشات محددة مسبقا.. جاءوا مُرفقين/"امبدد" لتغطية بروتوكول الزيارة الباباوي ..جاءوا لتصوير اسطورة "النبي" ابراهيم والصلاوات المشتركة الكاذبة وتبويس اللحى.. جاءوا لألتقاط صور كنائس الموصل التي دمرتها الالاف الاطنان من المتفجرات الامريكية ورمي مسؤولية التدمير على الارهاب.. رمتني "بمتفجراتها" وانسلت !! باختصار.. هدف "التغطية الاعلامية" لزيارة البابا هو التركيز على بعبع داعش بطريقة تمكن من اخفاء "الذئاب" الامريكية والشيعية التي خطفت واغتصبت وسرقت وقتلت وابتزت امثال كوركيس وزرفت الرؤوس بالدريلات!! هدف"التغطية الاعلامية" لزيارة البابا التي تمت برعاية امريكية ومباركة ايران هو امريكا والمليشيات الشيعية "اوووت" داعش "إن".
"برافو" فريق البابا الاعلامي على هذا "القداس" الهوليوودي .. شكرا للزيارة .. وعودة ميمونة للفاتيكان!! ولكننا لم نعد نصدق قصة "ليلى والذئب".. فنحن لا نحتاج لفريق البابا "الاعلامي" وبيانات صحفية بروتوكولية لنعرف تاريخنا.. فنحن نعرف والتاريخ يعرف ان القاعدة وداعش لم يكن لهما وجود في العراق قبل الاحتلال الامريكي.. نحن نعرف والتاريخ يعرف ان الارهاب الامريكي والسجون الامريكية والتعذيب والاغتصاب الامريكي للرجال قبل النساء هو الذي انتج "الارهاب"..قد يتناسى فريق البابا الاعلامي ذلك ولكننا حفظنا ونحن صغار مقولة انجيلية بارعة تقول :"من يزرع الريح يحصد العاصفة".. و"الارهاب" هي العاصفة التي زرعتها "ريح" الدبابات الامريكية التي استباحت العراق.. وبابا الفاتيكان الذي ينسى او يتناسى هذه المقولة الانجيلية من اجل بروتكولات دبلوماسية واعلامية .. البابا الذي يزور العراق الذي دمره الاستهتار والارهاب الامريكي من دون ان يشير بكلمة واحدة لذلك لا يمتلك مصداقية عندنا.. وكل صلواته الممسرحة على الطريقة الهوليوودية وكلماته عن السلام لا يصدقها سوى من ساهم في تدمير العراق ويحاول اخفاء مسؤوليته.. واولهم "الرئيس" بايدن الذي شكر البابا قبل ايام لتأكيده على ثيمة السلام اثناء زيارته.. بايدن الذي صوّت على مشروع غزو العراق عندما كان سيناتورا يتكلم اليوم عن السلام !! انه سلام الاستغفال.. سلام "التغطيات الإعلامية".. سلام لا يراه كوركيس في الواقع.. لانه سلام "سرايا السلام".. سلام كلمات فقط .."سلام" كوزمَتيكي تزويقي يُذكّرنا بالمقولة الشهيرة للمؤرخ الروماني تاسيتوس :
They made a desert and called it peace
لقد خلقوا صحراء وسموها سلام
وهذا "السلام" المقفر ارست الدبابات الامريكية اسسه .. حدث ذلك في مثل هذه الايام .. قبل ثمانية عشر عاما !! قد ينسى او يتناسى "مراسلوا الـ "سي ان ان" او فريق البابا "الإعلامي" ذلك .. ولكن التاريخ لا ينسى .