تعليقا على المظاهرات الحاشدة التي اجتاحت ايران في الايام الاخيرة احتجاجا على وفاة مهسا أميني الأسبوع الماضي بعد اعتقالها من قبل « شرطة الاخلاق ».. قال الرئيس الايراني إبراهيم رئيسي ان الاحتجاجات التي تشهدها ايران هي « أعمال فوضى غير مقبولة » ..ودعا قوات الامن إلى«التعامل بحزم مع المخلين بالأمن العام واستقرار البلاد».. ثم راح بعد ذلك يجتر نفس الكليشة التي يستخدمها اي نظام قمعي وهي ان هذه الاحتجاجات مؤامرة خارجية.. عبارة « الفوضى غير مقبولة » في تصريح رئيسي تستوقفني لانها ذكرتني بخطبة لرجل دين شيعي واسمه رشيد الحسيني قالها أثناء القتال الذي دار قبل شهر تقريبا بين المليشيات الشيعية في العراق .. هذا المعمم خاطب جمهوره آنذاك ومن على المنبر : « ايهما اولى العيش في الفساد ام العيش في الفوضى » ثم قال بعد ذلك ان « العيش في الفساد افضل من العيش في الفوضى »!!
قرون من الثورات والقلاقل والفتن الشيعية كانت تبرر سابقا تحت شعار لا طاعة لحاكم فاسد حتى وان تطلب ذلك تدمير بلدان وإشاعة الفوضى.. اما اليوم وبما ان الحاكم الفاسد شيعي.. يصبح الفساد افضل من الفوضى.. قرون من القلاقل والفتن التي منعت التراكم المادي وبالتالي الحضاري لمنطقتنا ثم يخرجون علينا اليوم و يقولون « العيش في الفساد افضل من العيش في الفوضى ».. قرون من الهامشية السياسية كان رجال الدين الشيعة خلالها يعيبون على رجال الدين السنة مداهنتهم للسلطة .. لماذا ؟ لان قرون من الفوضى السياسية دفعت رجال الدين السنة الى تحريم الثورة على الحاكم تجنبا للفوضى !! وها هم عباقرة « الحيض والنفاس وجماع الدبر » يفيقون اليوم على واقع السلطة المعقد ليستخدموا حجة كانوا يعيبونها على غيرهم.
شيء من التاريخ .. الصراع والاقتتال على السلطة كان ثابت سياسي في التاريخ الاسلامي منذ القرن الهجري الاول.. وهذا الاقتتال سبب الكثير من الحروب الاهلية والفوضى.. امام الانفصال المزمن بين نظرية الحكم الاسلامي الطوباوية وبين واقع الاقتتال والفوضى شاعت في الادبيات الاسلامية تدريجيا مقولات تقر بطريقة مستحية بالتناقض بين المثل الاسلامية للسلطة وبين واقع الفوضى الدائم.. واحدة من هذه المقولات هي الحديث المفبرك « الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها ».. وهي اليوم متداولة بنسخة اكثر سلاسة « لعن الله الفتنة من أيقظها».. في هذه المقولة نجد قلق واستحياء الجيل الاول من المسلمين امام الفتنة والفوضى.. نجد فيها اسلوب الكناية الممل.. اسلوب عدم تسمية الاشياء باسمائها.. فهي مقولة تترك سامعها في حيص بيص فكري لا يعرف ماهية الفتنة ولا سببها.. « شنو الصار متعرف »!! هي فقط هجاء لغوي للفتنة.. وهذه المقولة لازالت تجتر حتى يومنا هذا وكأنها فتح فكري.. المهم فيها من منظور التحليل التاريخي هي انها تسجل واقع الفتنة المستديم .. الفتنة نائمة هناك تنتظر الفرصة المناسبة للاستيقاظ.
مع مرور الوقت .. ومع اجيال اخرى عاشت ويلات الاقتتال على السلطة والفوضى.. ظهرت مقولات اخرى واحاديث اخرى .. اهم هذه المقولات هي مقولة :« سلطان عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم ».. وهي اليوم متداولة بنسخة مختصرة «سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم » وهي مقولة تنسب لعمرو ابن العاص.. وهي وان كانت مفبركة كاغلب الاحاديث والروايات ولكنها تشرح لنا رؤية الاجيال اللاحقة لمفهوم السلطة والصراع .. ما يجعل هذه المقولة اهم من المقولة الاولى هو واقعيتها .. ففي هذه المقولة نزول متدحرج من غيوم المُثل الاسلامية الطوباوية الى الواقع .. هناك تنازل فكري صريح عن السلطان العادل والاعتراف بالسلطان الغشوم الظلوم لانه افضل من الفتنة والفوضى.. واسلوبها السجعي هو فقط للتخفيف موسيقيا من وطئ هذا التنازل .. نحن هنا امام قبول مستحي بواقع السلطة الذي يتأرجح بين خيارين احلاهما مر (الحاكم الفاسد او الفوضى).. نحن هنا أمام بذرات واقعية سياسية تقر بحياء بانفصال النظرية الاسلامية الطوباوية للسلطة عن واقع السلطة.. لا غرابة بعد ذلك انها تُنسب لعمرو ابن العاص لأنه « ماكيافيلي » العرب .. « داهية العرب » كما تسميه السرديات الاسلامية باعجاب خجول لأنه رجل دولة ساهم في بناء امبراطورية وهو نقيض لمُثل السلطة الطوباوية التي لم تنتج سوى فوضى مستديمة.. علي ابن ابي طالب لم يستطع حكم مدينة صغيرة كالكوفة.. وابنه الحسن لم يستطع المحافظة حتى على ثيابه!!
باختصار شديد.. الادبيات الاسلامية قبلت مبكرا حقيقة التناقض بين المُثل الاسلامية للحكم وبين تطبيقاته العملية على ارض الواقع .. قرون من ممارسة السلطة.. قرون من الصراعات السياسية والفوضى دفعتها الى التهادن المستحي مع « الحاكم الفاسد » تجنبا للفوضى.. من هنا مقولات من مثل مقولة « السلطان والجنة لا يجتمعان ».. ومقولات اخرى كثيرة تحرم الثورة على الحاكم حتى وان كان جائرا.. والسبب وراء ذلك كان لتجنب الفوضى .. والغزالي كان اول من نَظّرَ بصراحة فقهية لهذه الواقعية السياسية وفقا للقاعدة الفقهية « الضرورات تبيح المحظورات ».. ففي كتابه « الاقتصاد في الاعتقاد » يطالب الغزالي بطاعة الامام/الحاكم حتى لو لم تتوفر فيه صفة العدالة اذا خشيت الفتن والحروب.. وعبارة « حتى لم تتوفر فيه صفة العدالة » هي كالعادة تورية مستحية للحاكم الفاسد.
ما ينبغي ذكره (وهنا المهم) هو ان الغزالي طَوّرَ حجته هذه في زمن المستظهر بالله.. وهي فترة شهدت اضطرابات وفوضى سياسية ساهمت فيها حركة الباطنية الشيعية المدعومة من قبل الدولة الفاطمية التي كانت تريد زعزعة حكم المستظهر بالله في بغداد .. بمعنى ان حجة الغزالي (بطاعة الحاكم حتى لو لم تتوفر فيه صفة العدالة) كانت موجهة ضد حركة الباطنية الشيعية التي كانت ترفع شعار لا طاعة لحاكم فاسد.. دارت الدوائر .. ودالت الدول .. وها هم رجال الدين الشيعة وبعد قرون من الاستحلام الفكري والتنظير الطوباوي ضد السلطة الفاسدة.. هاهم اليوم وامام اول تجربة حكم وارتطام بواقع السلطة .. يقولون لك « العيش في الفساد افضل من العيش في الفوضى ».. لسان حال الغزالي امام هذه الاستدارة الفقهية يقول « بضاعتنا رُدت إلينا »!!
خلاصة القول .. ما بدأ صراعا على الورث.. صراعا على واحة فدك .. ثم تطور صراعا على الخلافة والسلطة .. ثم تحول ذات هزيمة سياسية الى صراع مبادئ وقيم بفعل مشاعر الحرمان والضغينة .. يظهر اليوم كما بدأ بالامس : صراع على السلطة والاحتفاظ بالسلطة.. السلطة والمسافة من السلطة هي معيار الحكم على الاشياء.. والافكار ما هي الا مجرد مطية في الصراع السياسي.. عندما كانوا على هامش السلطة كانت الاحتجاجات انتفاضات وثورات يحتفون بها ويتغنون بأبطالها.. أما وانهم اليوم في السلطة فالاحتجاجات تصبح غير مقبولة ويجب التعامل معها بحزم.. الاحتجاج ضد الحاكم السني واجب ديني.. اما الاحتجاج على الحاكم الشيعي فهي اعمال شغب تؤدي الى الفوضى والعيش في الفساد افضل من العيش في الفوضى.
قرون وهم يعارضون السلطة بالاحاديث والروايات المفبركة عن العدل والعصمة .. وها هي نظريتهم الطوباوية تصطدم بالواقع وتنتج واحد من افسد الانظمة السياسية على كوكب الارض.. المقولات البليغة التي كانت تتغنى بالثورة على الحاكم الفاسد تتحول اليوم الى لغة خشبية تُدين المحتجيّن وتتهمهم بالعمالة للخارج.. مقولة « ان دنياكم هذه ازهد عندي من عفطة عنز » (والتي فبركتها عهود الحرمان والهزيمة كتعويض نفسي) تتحول بفعل مليارات النفط المهرب والمخدرات الايرانية الى مقولة « ما ننطيها ».. وداعا للخطب البليغة التي فبركها احفاد الموالي في خلوات السراديب الهادئة .. مرحبا بكم في سوقيّة بائعي « السبح والمحابس » الذين حملتهم الدبابات الامريكية من ارصفة الشوارع الى كراسي السلطة.. وداعا لاسطورة الحسين الثائر ضد الحاكم الفاسد.. مرحبا بكم على كوكب الارض.. مرحبا بكم في جمهورية « الحاكم الفاسد افضل من الفوضى».