قبل أسابيع من هجوم حماس على إسرائيل.. التقيت صدفة بزميل جامعة فلسطيني لم اراه منذ سنوات.. وكان لي معه في السابق سجالات كثيرة بخصوص ما يجري في منطقتنا.. وكنا دائما مختلفين في النقاش لأننا كنا ننطلق من "معسكرات" فكرية مختلفة.. ما ان انتهينا من عبارات السلام هذه المرة.. حتى بادرني ضاحكا بعبارة: "زورنا".. فأجبته: "بكل سرور".. وسألته ما اذا كان لازال يسكن في نفس العنوان السابق ام غيّر عنوانه.. وهنا صفعني بضحكة ساخرة: "مش هون .. في القدس .. زورنا في القدس".. عندها فهمت اشارته الفنطازية الساخرة الى ما كان يجري في إسرائيل من اضطرابات سادت الشارع الاسرائيلي بسبب محاولة بنيامين نتنياهو "إصلاح" القضاء.. وهي خطوة استفزت اليسار الإسرائيلي والعلمانيون ودفعتهم الى الشوارع بمظاهرات عارمة ومشاحنات سياسية وضعت المجتمع الاسرائيل على حافة "الحرب الاهلية" كما كانت تقول التحليلات الاستراتيجية لقناة الجزيرة.. وزميلي الذي عهدته مدمنا على "افيون" قناة الجزيرة و"محلليها الاستراتيجيين" والتي تتغلب فيها أحلام العصافير على "كوابيس" الواقع.. زميلي هذا كان يعتقد آنذاك ان المجتمع الاسرائيلي على وشك الانهيار وبالتالي فان دولة إسرائيل في طريقها الى الزوال .. وان العودة قريبة للقدس .. من هنا دعوته الفنظازية الساخرة!!!!
وانا القادم من بلد دمرته الشعارات والعنتريات وسلمته في نهاية المطاف الى ايران وبيادقها.. كنت لا اطيق مثل هكذا خطاب مستحقر بأبسط مسلمات الواقعية السياسية.. وبما انني كنت اعرف بالتجربة ان مثل هكذا نقاشات تبدأ غالبا "بالهزل الجدي" ستنتهي "بالسلاح الأبيض" وبالتالي فهي تفسد للود قضية !! اصغيت الى "تحليله الاستراتيجي" ساكتا وعلامات وجهي الساخرة تقول له بأنني كالعادة لا اتفق معه.. وحاولت عندها بأدب ان اختصر الحديث معه في هذا الموضوع و اتركه مع أحلامه.. فالغريق يتعلق بقشه.. وانا لا الومه ولا الوم أي فلسطيني على ذلك.. علم النفس التحليلي يقول لنا ان الشخص الذي يعيش في واقع مرير ينزع نحو التحليق في فضاء الاحلام كنوع من التعويض لكي يستطيع الاستمرار في الواقع المرير.. مَنْ مِنا مَن لم يلجأ الى هذا الأسلوب السهل في مواجهة عبثية الحياة وصعوباتها.. كل انسان له الحق ان يكون حالما!!
من حق كل انسان ان يستمع لمن يريد.. وان يقرأ من يريد.. وان يأكل ويشرب ويلبس ما يريد .. وله بعد هذا وذاك الحق ان يحلق في فضاء الاحلام.. طالما ان تصرفاته واحلامه هذه لا تؤذي الاخرين.. وانا في هذه الشرط من اتباع "فقه الامام" جون ستيوارت مِل !! من هنا.. من حق زميلي ان يحلم بالعودة للقدس.. من حقه ان يصغي لجعجعة ديناصورات إعلامية تفكر بأفواهها.. ومن حقه بعد هذا وذلك ان يصدق تحليلات " الخبراء الاستراتيجيين" في قناة الجزيرة والتي وعدته بانهيار المجتمع الإسرائيلي بسبب مظاهرات شوارع.. فهو في نهاية الامر يعيش في بلد اوربي محايد لم يشهد حربا منذ ما يقارب الثلاثة قرون.. وسقوطه من هكذا "تحليق" لن يكون موجعا.. جولة على ضفاف بحيرة ليمان الساحرة كفيلة بنسيان كل شيء.
ولكن المستوى الفردي الشخصي شيء والمستوى المجتمعي العام شيء اخر.. عندما يحلم شاب مراهق ويحلق عاليا في فضاء الاحلام.. ويسقط بعد ذلك سقوط حر على ارض الواقع.. فهو سيسقط وحده.. ولكن عندما يحلق رئيس دولة او قائد شعب في فضاء الشعارات ثم يسقط.. فان شعبا كاملا سيسقط معه.. من هنا فحقل السياسة ليس الفضاء الأنسب للحالمين.. وبالتالي فما يحق للفلسطيني العادي كزميلي لا يحق لـقيادي فلسطيني مثل محمود عباس او يحيى السنوار.. فعندما يتخذ محمود عباس او يحيى السنوار قرار سياسي استنادا الى حسابات خاطئة.. فهما سيسحلان خلفهما الملايين الى الكارثة.. وهما بذلك يتحملان مسؤولية جسيمة امام التاريخ.. الشخص العادي "نكرة" امام التاريخ.. التاريخ لا يحاسب الناس العاديين (رغم إني اعتقد ان الشعوب القطيعية الراكضة وراء الشعارات تتحمل مسؤولية اخلاقية كبرى).. ولكن محكمة التاريخ قاسية مع القادة الذين دمروا شعوبهم بقراراتهم وحساباتهم الخاطئة.
اليوم وبعد مقتل السنوار راحت العقلية العنترياتية وكالعادة تسجن النقاش في ثنائياتها المعهودة : هل مات السنوار مختبئا في الانفاق كما قالت إسرائيل!! ام قُتل في ساحة الوغى ممتشقاََ حسامه يقاتل العدو حتى الرمق الأخير!!! كما لو ان منظومة الانفاق الحمساوية تم بناءها للفئران فقط !! وليس من ضمن التحضيرات العسكرية الدفاعية المشروعة لحماس الضعيفة امام إسرائيل لعدم توازن القوى.. ومقاتلي حماس استخدموها ولا زالوا يستخدمونها.. وما هو اكيد هو ان السنوار استخدمها لحماية نفسه وعائلته حتى اللحظات الأخيرة.. ولكن السنوار لا يستطيع ان يبقى ليل نهار ولمدة طويلة في الانفاق.. من هنا خروجه الدوري منها لاستنشاق الهواء ولملاقاة اشعة الشمس الضرورية لصحته.. وهو حتما كان يخرج من الانفاق لضرورات عسكرية قتالية كتفقد قواته الخ.. وهو على اغلب الظن وقع في "المصيدة" في احدى هذه الجولات التفقدية.. كل ذلك هي اشياء طبيعية في ظرفية الحروب.. وليس من العيب في شيء ان يختبئ مقاتل تجنبا لقوة متفوقة عليه عدديا وتكنولوجيا.. وفَن الاستراتيجيا الصيني القديم يعتبر ذلك من الحكمة.. اما حرب العصابات الحديثة فهي تعتبر ذلك من ابجدياتها.. كما يقول لنا ابرع من نظّر لهذا النوع من الحروب وهو السويسري هانس فون داخ في كتابه الشهير "المقاومة الشاملة"
Never engage a strong enemy and never accept an open fight
وهذه القاعدة تزداد أهمية عندما تكون حرب العصابات في قطاع غزة ذو الطوبغرافيا المنبسطة والمفتوحة.. وليس في الطوبوغرافيا الجبلية السويسرية وهي البيئة الأمثل لمثل هذه النوع من الحروب.. وفقط العقلية العنترياتية الشرقية لا زالت تشترط من المقاتل العربي ان" يرفع سيفه امام الدرون" كما لو اننا ما زلنا نعيش في زمن "هل من مبارز"!!!!
باختصار .. من كل الدمار المخيف لـِقطاع غزة.. من كل هذه الملايين التي تفترش الارصفة وتنام في العراء.. من كل "فلم" الدمار المستمر منذ اكثر من سنة.. لا يستوقف العقلية الشعبوية العنتريياتية سوى اللحظات الأخيرة لموت "بطل الفلم".. اما مصير الملايين من الكومبارس فيتم ازاحته من خلال تركيز عنترياتي على المشهد الاخير لـ بطل الفلم: فارس مجروح يتحدى بقطعة خشب درون مُتخم بـ أخر مقتنيات التكنولوجيا!! وبهذا الطرح الشخصي يتم ازاحة سؤال المسؤولية السياسية "لبطل الفلم" عن كل هذا الخراب!!!! فطرح حدث مقتل السنوار من منظور الشجاعة او الجبن يقوم بـ ازاحة الكارثة الاجتماعية والسياسية والعسكرية التي سببها قرار السنوار على المستوى الاستراتيجي.
الثنائية الثانية التي صاحبت الطرح العنترياتي الاخير هي ثنائية المقاومة ونقيضها التخاذل او الاستسلام.. وهي ثنائية قديمة قدم خطاب المقاومة وتنطلق من مبدأ قمعي يقول "لا صوت يعلو على صوت بندقية المقاومة".. من هنا فكل من ينتقد خطاب المقاومة هو متخاذل.. لا بل هو في النسخة "الحزبُلاهية" متعاون مع المحتل.. ومن هذا المنظور القمعي تم تصفية وإرهاب كتاب وصحفيين لبنانيين.. اما في النسخة الحمساوية فمن يعارض هذا الخطاب هو "عميل".. ويحيى السنوار الذي كان يدس الكوفية عنوة في احشاء المتهمين بالعمالة لإسرائيل.. صفى بهذه السادية الكثيرين من معارضي حماس بتهمة العمالة لإسرائيل.. والكاتم الذي كان يتباهى به السنوار من على المنصات هو إشارة لهذه "الفلسفة" الاخصائية الشقاواتية.
علّة هذا الخطاب "المقاومجي" الذي يجحفل الاخلاق والمبادئ والقيم وتقاليد الشهامة والفروسية العربية.. هو انه منخور اخلاقيا من الداخل.. فهو يرفع البندقية بيد ويتاجر بالمخدرات باليد الأخرى (حزب الله انموذجا).. وهو بعد ذلك ينتقد"العرب" ليل نهار ولكنه لا يتردد من قبض ملياراتهم لإعادة اعمار ما دمرته عبقرية قادته الملهمين.. والصحافة الفلسطينية وكاريكاتيراتها التي تختزل العربي بعقال وبطن ضخمة هي انموذج مبتذل لهذا لطرح "العنصري".. هم يدينون انبطاح امراء الخليج امام امريكا.. ولكنهم يستمرون باستلام الملايين من قطر التي تحميها اكبر قاعدة أمريكية في المنطقة!! ولكن ما هو اخطر من هذا وذلك ..هو ان هذا الخطاب الذي يرفع شعارات التحرر والتحرير والحرية.. يعامل "شعبه" داخليا معاملة العبيد ويزرف رؤوس معارضيه بكواتم الصوت!! وتاريخنا المعاصر مليء "بالرفاق المناضلين" الذين حولوا بلدانهم الى "حظائر مواشي" دفعتنا عفونتها السياسية الى الحنين الى زمن الاستعمار!! من هنا فأن زمن: "المناضل بريء حتى وان اثبتت التجارب جرمه وكارثيته" قد ولى .. بمعنى ان النضال ليس منّة على الشعوب.. و"فزاعة" المقاومة لم تعد مانعا امام المساءلة والنقد.
شخصيا ما كنت اريد ان اخوض في الشأن الفلسطيني من مبدأ ان "اهل غزة ادرى بركامها"!! ولكن مستوى "التحشيش الفكري" الذي وصل اليه أصحاب الخطاب العنترياتي بعد موت السنوار لم يترك لنا خيار.. فثقافة "نكبة مع الناس عيد" ذهبت الى حدود الابتذال الثقافوي في مواجهة معارضيها ممن يطالبون بموقف براغماتي امام العالم ومتغيراته.. بحجة ان البراغماتية هي فلسفة دخيلة على ثقافتنا.. وان ثقافتنا لا تعرف النفعية الغربية لأنها ثقافة فروسية وتضحية!! "ثلت" الشعوب العربية اليوم يعيشون في المخيمات و يعتاشون على الإعانات والمساعدات الخارجية.. و"ثلث اخر" مُهجر في الشتات.. و"ثلث" ثالث يعيش تحت خط الفقر.. وأصحاب خطاب الفروسية العربية مازالوا يعتقدون اننا نعيش في زمن هارون الرشيد وحوافر خيله التي فتحت نصف العالم!!
نحن هنا امام أناس يعيشون في عالم "موازي" لا يلتقي هندسيا بعالمنا الذي نعرف ونعيش!! وهذا الانفصال الفكري عن الواقع يذكرنا بشخصية النبيل دون كيشوت في رواية سرفانتس الشهيرة.. دون كيشوت هو شخص مدمن على القراءة وكان يلتهم الكتب على الطريقة الاسترخائية في القراءة.. بلا تفكير او نقد لما يقرأ.. و دون كيشوت هذا كان مولع بقصص الفرسان التي كان يجدها في الكتب المتحايلة على الواقع.. وادمان دون كيشوت على هذه القصص الخيالية جعله ينفصل تدريجيا عن الواقع.. وذات يوم قرر ان يترك كل شيء خلفه ويذهب على خطى الفرسان الجوالين.. متحديا العالم بـ حصان نحيل ودرعا صدئة وخوذة قديمة.. وهو عندما شاهد امامه طواحين الهواء التي لم يرها في حياته اعتقد انها شياطين.. وراح يُغيير عليها بحماقة أطفال.. منذ ذلك الحين اصبح تعبير "محاربة طواحين الهواء" نقدا لكل موقف عبثي منفصل عن الواقع.. وهذا النقد الساخر لعالم الفروسية القرووسطوي الحالم الذي ظل يعيش في عالم الامس ولم يستطع فهم ان العالم من حوله قد تغيّر.. هو من اعطى رواية سرفانتس قيمتها الفلسفية والأدبية الرائدة في الادب الأوربي الحديث.. وسرفانتس ضمن هذا الاطار هو المعادل الادبي لـ مكيافيلي الذي اخرج الحقل السياسي الاوربي من الطروحات الشعاراتية الى الواقعية السياسية.. وبهذه المنهجية الواقعية اخضعت اوربا الصغيرة حجما شعوبا وامبراطوريات استمرت في العيش في عالم "الخيل والليل والبيداء تعرفني" .. و"فروسية" المماليك امام مدافع وبنادق جيش نابليون هي انموذجا لهذه المواجهة العبثية بين عالمين .. عالم دون كيشوت وعالم البندقية.
وهناك في شخصية السنوار و"غزوته" على إسرائيل كل مكونات السلوكية الدونكيشوتية.. فالسنوار الذي قضى اكثر من عشرين عاما في السجون الإسرائيلية.. تعلم خلالها اللغة العبرية.. كان مدمنا على قراءة كُتّاب وصحافة اليسار الإسرائيلي.. وهؤلاء كانوا ولا زالوا يبشرون بزوال المجتمع الإسرائيلي من منظور طوباوي.. ومحللي الجزيرة الاستراتيجيين تبنوا هذا الطرح و مازالوا.. وكلنا نعرف ان قادة وجمهور حماس هم من مُدمنيّ "افيون" الجزيرة الاستراتيجي.. ويقال ان السنوار ومن وراء القضبان كان خلف فكرة اسر الجندي الاسرائيلي شاليط (وان اخوه محمد السنوار هو من نفذها).. وهذه العملية مكنت حماس من عقد صفقة تبادل اكثر من الف اسير فلسطيني مقابل الجندي شاليط!! والسنوار خرج من السجن بعد ذلك محاطا بهالة "الرفيق المناضل" الذي فهم العقلية الإسرائيلية وعرف كيف يتعامل معها.. ويوما بعد اخر راحت الهتافات وموجات التصفيق تلاحق "الرفيق المناضل" في كل مرة يظهر فيها على الملأ.. ويوما بعد اخر.. وهتافات بعد أخرى.. انتفخت نرجسية "الرفيق المناضل" وتصور نفسه جنرال حرب.. وذات يوم راح هذا "الجنرال" يفكر بأصل القصة التي منحته كل هذا الاعجاب والرصيد السياسي.. وهي صفقة تبادل اكثر من الف اسير فلسطيني مقابل اسرائيلي واحد.. وهي صفقة مستحقرة بكل قوانين الرياضيات التي عرفها التلميذ يحيى صغيرا.. وهنا راحت تغازل نرجسية السنوار فكرة أخرى مغرية: ماذا لو قام بخطف مئة إسرائيلي: "يا الهي!! قال السنوار مع نفسه.. إسرائيل ستركع عندها امامي".
لماذا حلق السنوار في هذا السيناريو الحالم؟؟ لان السنوار الذي كان مدمنا على خطاب اليسار الإسرائيلي الطوباوي الذي كان يقول له ان المجتمع الإسرائيلي ضعيف سايكولوجيا ومنهك سياسيا.. السنوار هذا استنتج من صفقة الجندي شاليط استنتاج قاتل فحواه: ان إسرائيل التي تحرص على حياة جندي واحد هي دولة هشة سايكولوجيا!! وبالتالي ضعيفة عسكريا لأنها لا تتحمل خسائر بشرية!!!!! وهو بخطف مئة إسرائيلي سـَيَشِلُ المجتمع الإسرائيلي المنقسم على نفسه.. وسيدق المسمار الأخير في نعش دولة إسرائيل.. نحن هنا امام اكبر سوء فهم ثقافي في التاريخ المعاصر!!! ومن قام بهذه الحسابات الخاطئة هو شخص قدمته الدعاية الحمساوية كأفضل قيادي فلسطيني فهم العقلية الإسرائيلية منذ امين الحسيني .. فقط لأنه إلْتَهَمَ مئات الكتب الإسرائيلية في رتابة حياة السجن!!
لا غرابة بعد ذلك ان هذا "الجنرال" المنفصل عن الواقع والذي تم تنصيبه رئيسا للمكتب السياسي بعد اغتيال إسماعيل هنية.. بعث برسالة الى "محور المقاومة" ليشرح لهم رؤيته الاستراتيجية المستقبلية.. فحوى هذه الرسالة وردت في مقال لـ "وول ستريت جورنال" قبل أسبوع من مقتل السنوار ونقلا عن "مسؤول إقليمي" (الجناح السياسي لحماس مخترق مخابراتيا كما تعرفون!!).. في هذه الرسالة يقوم السنوار بتقديم الشكر لمحور المقاومة على جهودهم في دعم حماس.. ويعدهم بالانتصار وزوال إسرائيل القريب.. والسنوار الذي يعرف ان هناك في اجنحة حماس ممن بدأ يشكك بـِعبقريته العسكرية بعد كارثة غزة.. يختم رسالته هذه بـ آية قرآنية: "ويقولون متى، قل عسى ان يكون قريب"!!
نحن هنا امام ما يمكن تسميته بـ "استراتيجية عسى"!! وانت اذا ما دفعت "استراتيجية عسى" الرجائية الى حدودها القصوى.. فانت ستعثر على متتالياتها القدرية من مثل : "عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم".. وبتطبيق هذه الاستعارة القرآنية على الكارثة الحالية ستحصل على نسخة: عسى ان تكرهوا تدمير غزة وهو خير لكم!! وفقط عندما تفهم هذا التحشيش الاستراتيجي وتستوعب الابعاد اليانصيبية في "استراتيجية عسى واخواتها" .. ستفهم استهتار السنوار بحياة ملايين من الناس وبمصير اطفالهم.. وهنا فقط ستفهم مشاعر "محمد الغزاوي" الذي قال يوم موت السنوار "انه اسعد يوم في حياتي"!! ونحن الجيل العراقي الذي عاش "الانتصارات الهزائم" نعرف بالتجربة حجم السخط المكبوت في دواخل الغزاويين الذي اختبروا "فروسية" كواتم الصوت السنوارية ويعيشون اليوم جحيم القنابل الإسرائيلية بسبب "استراتيجيا عسى".
الاستراتيجيا هي فن تطويع وتقنين الأهداف السياسية وفقا لإمكانيات بلد وشعب ما.. عسكرياََ واقتصادياََ وطوبوغرافياََ ولوجستياََ الخ.. وهي لذلك تقتضي من المسؤول السياسي الذي يمتلك قرار الحرب دراسة دقيقة وصارمة لهذه الإمكانيات على ارض الواقع.. من اجل استخدام تكتيكي امثل لها على ارض المعركة.. والمقاوم الذي يذهب الى ساحة المعركة من دون هذه الاعتبارات العسكرية والاستراتيجية هو كالثور الهائج.. ومصير هذا الثور هو الارتطام عبثا بسكاكين وسيوف "الماتادور" المستمتع بمواجهة عضلات الثور الغبية.
نعم المقاومة حق مشروع.. ولكن مشروعية المقاومة لا تبرر كل شيء.. كل كتب الاستراتيجيا العسكرية وحرب العصابات بالتحديد.. تنص على شيء أساسي في المقاومة وهو عدم مواجهة عدو اقوى منك وجها لوجه كما اشرنا سابقا.. وكل كتب الاستراتيجيا العسكرية وحرب العصابات تنطلق من شرط جوهري وحيوي .. وهي ان المقاومة في مواجهتها مع العدو يجب ان لا تعرض بيئتها وحاضنتها للخطر.. لا مستقبل لمقاومة من دون بيئة حية .. اما المقاومة على ركام بيئتك وخصوصا في بقعة بحجم غزة و بـ طبوغرافيتها المنبسطة.. فهي حماقة عسكرية وسياسية.. وهنا تكمن لامسؤولية حماس الاستراتيجية والاخلاقية في كارثة غزة الحالية.
جمال عبد الناصر كان يقول عن وزير دفاعه عبد الحكيم عامر والذي خسر كل الحروب المصرية التي قادها "انه متأخر عشر سنوات عن عصره".. من هنا فالسنوار الذي اعتقد ان إسرائيل ستأتيه راكعة بعد هجوم ٧ أكتوبر تستجدي التفاوض على غرار صفقة شاليط.. السنوار هذا هو بلا شك انسان يمتلك الجسارة والشجاعة على المستوى الشخصي .. ولكنه استراتيجيا متأخر خمسين سنة على الأقل عن عصره.. من هنا فما تعتبره العقلية العنترياتيه شجاعة من الناحية الشخصية.. هي من منظور الاستراتيجيا العسكرية حماقة دونكيشوتية.. ففي السياسة الاعمال ليست بالنيات.. وانما بخواتيمها.. وعندما يرتبط مصير ملايين بقرار رجل واحد.. ويقوم هذا الرجل(وان كان شجاعا ومغوارا وملهما الخ !! ) بإعلان حرب ضد دولة تفوقه عدة وتكنولوجيا وكل ما في جعبته هي "خوذة" عسى!! فعندها ستتحول شجاعته على المستوى الشخصي الى حماقة على المستوى الاستراتيجي.. والى جريمة على المستوى السياسي الاجتماعي العام.. وخصوصا اذا كان هذا الفارس المغوار يضع اطفاله وعائلته في الانفاق في وقت يعيش مئات الالوف من الأطفال تحت عصف القنابل الإسرائيلية.
الحكمة العربية تقول: "رحم الله إمرئ عرف قدر نفسه".. اما الحكمة العسكرية الصينية فهي تضيف الى معرفه النفس شيئا اهم وهو معرفة العدو.. وهي لذلك تدلنا على القصور المعرفي في قرار السنوار بالهجوم على إسرائيل والذي سبب الكارثة الحالية.. وهذه الحكمة التي نجدها في كتاب "فن الحرب" الذي ينسب للمعلم تسو.. تقول:
اذا كنت تعرف عدوك وتعرف نفسك، فلا عليك ان تخشى نتائج مئة معركة قادمة.
واذا كنت تعرف نفسك ولا تعرف عدوك، فـمقابل كل معركة تربحها ستمنى بهزيمة
اما اذا لم تكن تعرف نفسك ولا تعرف عدوك.. فانت سوف تُهزم في كل المعارك.
هناك اليوم مباحثات بين حماس وفتح برعاية مصرية بخصوص مصير قطاع غزة بعد انتهاء الحرب.. وعودة خالد مشعل لواجهة حماس بعد مقتل السنوار تعني من منظور "البورصة السياسية الفلسطينية" هبوط ارصدة الجناح الإيراني في حماس والذي سبب الكارثة الحالية.. الهزائم تتبعها دائما انهيارات معنوية وسخط داخلي وبالتالي تموضعات سياسية.. واياك ان تصدق الخطابات والشعارات الرسمية.. وحماس المسؤولة سياسيا عن الكارثة الحالية تعرف حجم السخط الشعبي اليوم في غزة.. وتعرف ايضا انها لن تستطيع حكم غزة غدا.. من هنا يحق لـِ محمود عباس اليوم و"بعد خراب البصرة" ان يردد جملة بريجنسكي الشهيرة التي تقول: "العلاقات الدولية هو حقل مخصص للبالغين فقط"!!!