2024/12/09

طوفان الأقصى الذي اغرق ايران .. ميكانيك السوائل السياسية

 عندما كنا صغار كان قانون الاواني المستطرقة بمثابة تعذيب لعقولنا "الغير فيزيائية" الصغيرة .. مفردة "مستطرقة" كانت نوعا من الإرهاب اللغوي آنذاك.. رغم ان قانون الاواني المستطرقة الذي ينتمي لميكانيك السوائل هو قانون بسيط .. عندما تملأ بسائل ما عدة اواني متصلة من القاعدة فيما بينها.. وتكون خاضعة لنفس الضغط الجوي .. فان مستوى هذا السائل يتوازن بالارتفاع في كل الاواني الاخرى ..و أيّ ثقب في احدى هذه الاواني سيؤدي الى انخفاض مستوى السائل في الاواني الأخرى بنفس المستوى.. "الاواني الشيعية" المستطرقة تختبر اليوم عسكريا وسياسيا نفس ميكانيك السوائل هذا.. ثقب في "حاوية" حزب الله أدى الى انخفاض "السائل" في الاواني الأخرى المرتبطة به!

 

Events are stronger than the plans of men

 

الاحداث اقوى من كل الخطط البشرية .. كما يقول بسمارك .. ابرع سياسي انتجته اوربا .. وبسمارك (مع بعض التجنّي على حلم ولطف معاوية) هو المعادل الاوربي لمعاوية .. ما يريد ان يقوله بسمارك هنا هو ان تيار الاحداث السياسية جارف.. والسياسي لا يستطيع التحكم بمجراه.. من هنا نستطيع ان نقول ان السنوار هو اكبر مساهم في هزيمة "محور المقاومة" .. فـَ طوفان الأقصى بدل ان يغرق  إسرائيل .. اغرق ايران واذرعها.. هنا ايضا نحن في صلب ميكانيك السوائل.

 

من ارياف ادلب الى ساحة الامويين في دمشق .. اثنا عشر يوما غيرت خارطة الشرق الأوسط السياسية.. نحن هنا امام هزة تكتونية محت اكثر من نصف قرن من حكم عائلة الأسد الشمولي .. ونسفت اسس "الهلال الشيعي".. نحن هنا امام حدث سياسي استثنائي بكل المعاير.. كلي فرح وغبطة بالركلة الجيوسياسية التي تلقتها ايران على مؤخرتها.


هل كان اردوغان يعرف ان دمشق ستسقط بهذه السرعة؟؟ شخصيا لا اعتقد .. ربما بعد سقوط حماة.. اما قبل ذلك فلا اعتقد.. كل هدف الخطة التركية الأولية كان للضغط على الأسد من اجل اجباره على التفاوض .. هذه كانت رغبة اردوغان في الأشهر الأخيرة.. ولكن الأسد كان يعمل بمقولة "الدبلوماسية تصمت عندما تتحدث المدافع".


 الكل كان يعرف ان الضربات الإسرائيلية اضعفت وشتت ميليشيات ايران في سوريا .. ولكن لا احد كان يتوقع مستوى تهالك الجيش السوري.. تبخُّر الجيش السوري في حلب هو الذي شجع الفصائل السورية بالتقدم اكثر.. انا شخصيا سمعت وقرأت الكثير من المحللين يقولون قبل عشرة أيام فقط .. ان حماة ستكون ابعد نقطة لتقدم الفصائل السورية بسبب خط احمر وضعته روسيا لتركيا.. ولكن الانهيارات المتتالية للجيش السوري فاجأت الجميع .. بسمارك على حق .. الاحداث على الارض اقوى من كل الخطط البشرية.

 

 "مدافع" الأسد صمتت في حماة .. هنا  فهمت روسيا ان الامر انتهى وحان وقت الدبلوماسية .. اجتماع الدوحة كان فقط لترتيب طريقة خروج الأسد من خشبة المسرح السوري .. "الانتظار" على أبواب حمص كان فقط لـِ اتاحة الوقت للدبلوماسيين لترتيب الصفقة.. خروج الأسد مع الاحتفاظ بالقواعد الروسية في الساحل !! وتركيا هي الضامن.. عِلماََ ان الأوساط الروسية شبه الرسمية المحيطة بالكرملين لا تعتقد بعمر طويل لهذه الصفقة.. الصحافة الروسية اليوم تتحدث عن "كارثة استراتيجية".

 

طرد الإيرانيون من سوريا ينهي ما يقارب عشر سنوات عجاف من المعادلة الايرانية في سوريا والمنطقة .. وهذه المعادلة كانت مكافأة لإيران في مساهمتها في هزيمة البعبع الجهادي السني "داعش" الذي ارعب العالم بعدميته .. وهذا الرعب من الظاهرة "الداعشية" هو ما مكّن التحالف "الغير مقدس" بين الولايات المتحدة وروسيا عسكريا لأول مرة في التاريخ .. وايران وميليشياتها لعبوا دور الشرطي الخادم على الأرض من اجل اسناد سجاد القنابل الامريكية وبراميل المتفجرات الروسية واخراج "داعش" من بين ركام المدن السنية.. مكافأة إيران على هذه الخدمة كان تحرير المليارات من أموالها المحجوزة ومنحها كرسي على طاولة المفاوضات التي انتجت الاتفاق النووي عام ٢٠١٥.

 

حدثان غيّرا هذه المعادلة الايرانية في المنطقة.. الأول .. حرب أوكرانيا التي جعلت من روسيا خطرا جيوستراتيجيا للغرب.. والثاني.. تغوّل ايران وميليشياتها الى حد تهديد اسرائيل وخطوط الملاحة الدولية في مضيق باب المندب.. انه الاقتصاد أيضا يا غبي !! الحرب الأوكرانية واصطفاف ايران الى جانب روسيا كانت شرطا ضروريا لقلب المعادلة في سوريا.. ولكنها لم تكن شرطا كافيا.. تغوّل ايران وميليشياتها على إسرائيل هو الشرط الكافي الذي دفع مراكز "اللعب" الاستراتيجية بوضع سيناريو إقليمي جديد وانهاء المعادلة الشيعية في المنطقة.. يمكنك ان تفوز على خصمك من دون حرب على شرط ان تزيد من صعوباته في جبهاته الأخرى.. ولكن من فعّل هذه الاستراتيجية لم يتوقع هذا الانهيار السريع.

 

في اطار اللعبة الدولية الكبرى .. الدول الإقليمية لها حيز حركة جيوسياسية.. ولكنه دائما ضمن حدود.. وكل تجاوز لهذه الحدود يستدعي تقليم اظافر .. ايران وبعد سيطرتها على اربع عواصم عربية راحت تتصرف وكأنها دولة عظمى .. صواريخها الباليستية وصواريخ ميليشياتها ضد إسرائيل هو الخط الأحمر الذي تجاوزته ذات نشوة امبراطورية.. التقارير الاستخباراتية تقول ان هناك اليوم "مناحة" في أروقة السلطة الإيرانية لتحديد المسؤول عن انزلاق حزب الله في الحرب مع إسرائيل والذي ورط ايران مع اسرائيل وبالتالي سبّب هذه الهزيمة الاستراتيجية!! باختصار .. من وضع خطة "الصبر الاستراتيجي" لم يتحلى بالصبر !! "حسين هذا الزمان" خامنئي هو كـَ حسين ذلك الزمان .. طفل مد يده ليأخذ القمر!! 

 

الاختبار السياسي الحقيقي للسوريين سيبدأ اليوم.. تجارب تاريخية كثيرة تقول لنا : انك قد تربح الحرب ولكن هذا لا يعني تلقائيا انك ستنعم بالسلم .. بتعبير اخر .. ان العملية السياسية باعتبارها إدارة للمجتمع هي اصعب واعقد بكثير من ادارة عملية عسكرية.. فما بالك واغلب دول الإقليم لا يتمنون لهذه التجربة النجاح (واياك ان تصدق التصريحات الرسمية ذات اللغة الخشبية) .. لان نجاحها سيعطي تركيا (التي سبحت مع التيار بحرفية !!) تأثير إقليمي كبير .. تنافس الدول الإقليمية في منطقتنا لا  يختلف عن تنافس الكنّة والحماة !! إلّا في كون هدف التنافس في "اللعبة الدولية الكبرى" هو ليس رضى واهتمام الابن/الزوج وانما هو رضى واهتمام "العم سام" .. كل دولة تكسب نفوذ وتأثير اكبر في ملف ما.. ستحوز على اهتمام وقرب اكبر من امريكا .. وهذا بالمحصلة يقلل من حظوة الدول الاخرى في "حريم" العم سام !!

   

من يدري .. المستقبل هو جغرافيا بلا خرائط .. بلا "جي بي اس".. عالم مفتوح على كل الاتجاهات والاحتمالات.. والضياع فيه ممكن.. وكل من يقول لك غير ذلك فهو يكذب.. لا احد يستطيع التنبؤ بالمستقبل.. إلا العرافون المشعوذون.. نبرة التسامح السائدة اليوم في خطاب "المنتصرين" في سوريا فيها نضوج سياسي افتقرت له التجربة العراقية والتونسية والليبية .. وهذه بداية جيدة .. ولكن الاسابيع والاشهر القادمة ستكون حاسمة.. حظا سعيدا لسوريا وللسوريين.. سوريا تتحرر من نصف قرن من الكبت السياسي.. والتعافي سيحتاج الى وقت .. أتمنى ان تصبح حرة .. بمعنى ان يسود حكم القانون .. وهذا هو تعريف مونتسكيو للحرية في بلد ما!

 

 المستشرق هنري لامنس وضع واحد من افضل الكتب عن معاوية.. فكك فيه الكثير من الروايات العباسية والشيعية الكاذبة بخصوص معاوية .. وهو عندما زار دمشق في بداية القرن العشرين بحث كثيرا عن قبر معاوية قبل ان يعثر عليه ..آنذاك استغرب لامنس من وضاعة القبر قياسا لعظمة الرجل!!

 العظماء الذين بنوا مدنا وشيدوا امبراطوريات وحضارات لا يحتاجون اضرحة !! مدنهم وانجازاتهم تدل عليهم.. دمشق هي مدينة معاوية.. واذا ما مرت الأشهر القادمة بسلام .. سأكون في الربيع القادم في دمشق .. جولة في "ازقة" نزار قباني .. وردة على قبر معاوية !!

2024/11/03

استراتيجية عسى واخواتها ... نقد الدونكيشوتية السياسية

 قبل أسابيع من هجوم حماس على إسرائيل.. التقيت صدفة بزميل جامعة فلسطيني لم اراه منذ سنوات.. وكان لي معه في السابق سجالات كثيرة بخصوص ما يجري في منطقتنا.. وكنا دائما مختلفين في النقاش لأننا كنا ننطلق من "معسكرات" فكرية مختلفة.. ما ان انتهينا من عبارات السلام هذه المرة.. حتى بادرني ضاحكا بعبارة: "زورنا".. فأجبته: "بكل سرور".. وسألته ما اذا كان لازال يسكن في نفس العنوان السابق ام غيّر عنوانه.. وهنا صفعني بضحكة ساخرة: "مش هون .. في القدس .. زورنا في القدس".. عندها فهمت اشارته الفنطازية الساخرة الى ما كان يجري في إسرائيل من اضطرابات سادت الشارع الاسرائيلي بسبب محاولة بنيامين نتنياهو "إصلاح" القضاء.. وهي خطوة استفزت اليسار الإسرائيلي والعلمانيون ودفعتهم الى الشوارع بمظاهرات عارمة ومشاحنات سياسية وضعت المجتمع الاسرائيل على حافة "الحرب الاهلية" كما كانت تقول التحليلات الاستراتيجية لقناة الجزيرة.. وزميلي الذي عهدته مدمنا على "افيون" قناة الجزيرة و"محلليها الاستراتيجيين" والتي تتغلب فيها أحلام العصافير على "كوابيس" الواقع.. زميلي هذا كان يعتقد آنذاك ان المجتمع الاسرائيلي على وشك الانهيار وبالتالي فان دولة إسرائيل في طريقها الى الزوال .. وان العودة قريبة للقدس .. من هنا دعوته الفنظازية الساخرة!!!!

 

 وانا القادم من بلد دمرته الشعارات والعنتريات وسلمته في نهاية المطاف الى ايران وبيادقها.. كنت لا اطيق مثل هكذا خطاب مستحقر بأبسط مسلمات الواقعية السياسية.. وبما انني كنت اعرف بالتجربة ان مثل هكذا نقاشات تبدأ غالبا "بالهزل الجدي" ستنتهي "بالسلاح الأبيض" وبالتالي فهي تفسد للود قضية !! اصغيت الى "تحليله الاستراتيجي" ساكتا وعلامات وجهي الساخرة تقول له بأنني كالعادة لا اتفق معه.. وحاولت عندها بأدب ان اختصر الحديث معه في هذا الموضوع و اتركه مع أحلامه.. فالغريق يتعلق بقشه.. وانا لا الومه ولا الوم أي فلسطيني على ذلك.. علم النفس التحليلي يقول لنا ان الشخص الذي يعيش في واقع مرير ينزع نحو التحليق في فضاء الاحلام كنوع من التعويض لكي يستطيع الاستمرار في الواقع المرير.. مَنْ مِنا مَن لم يلجأ الى هذا الأسلوب السهل في مواجهة عبثية الحياة وصعوباتها.. كل انسان له الحق ان يكون حالما!!

 

من حق كل انسان ان يستمع لمن يريد.. وان يقرأ من يريد.. وان يأكل ويشرب ويلبس ما يريد .. وله بعد هذا وذاك الحق ان يحلق في فضاء الاحلام.. طالما ان تصرفاته واحلامه هذه لا تؤذي الاخرين.. وانا في هذه الشرط من اتباع "فقه الامام" جون ستيوارت مِل !! من هنا.. من حق زميلي ان يحلم بالعودة للقدس.. من حقه ان يصغي لجعجعة ديناصورات إعلامية تفكر بأفواهها.. ومن حقه بعد هذا وذلك ان يصدق تحليلات " الخبراء الاستراتيجيين" في قناة الجزيرة والتي وعدته بانهيار المجتمع الإسرائيلي بسبب مظاهرات شوارع.. فهو في نهاية الامر يعيش في بلد اوربي محايد لم يشهد حربا منذ ما يقارب الثلاثة قرون.. وسقوطه من هكذا "تحليق" لن يكون موجعا.. جولة على ضفاف بحيرة ليمان الساحرة كفيلة بنسيان كل شيء.

 

 ولكن المستوى الفردي الشخصي شيء والمستوى المجتمعي العام شيء اخر.. عندما يحلم شاب مراهق ويحلق عاليا في فضاء الاحلام.. ويسقط بعد ذلك سقوط حر على ارض الواقع.. فهو سيسقط وحده.. ولكن عندما يحلق رئيس دولة او قائد شعب في فضاء الشعارات ثم يسقط.. فان شعبا كاملا سيسقط معه.. من هنا فحقل السياسة ليس الفضاء الأنسب للحالمين.. وبالتالي فما يحق للفلسطيني العادي كزميلي لا يحق لـقيادي فلسطيني مثل محمود عباس او يحيى السنوار.. فعندما يتخذ محمود عباس او يحيى السنوار قرار سياسي استنادا الى حسابات خاطئة.. فهما سيسحلان خلفهما الملايين الى الكارثة.. وهما بذلك يتحملان مسؤولية جسيمة امام التاريخ.. الشخص العادي "نكرة" امام التاريخ.. التاريخ لا يحاسب الناس العاديين (رغم إني اعتقد ان الشعوب القطيعية الراكضة وراء الشعارات تتحمل مسؤولية اخلاقية كبرى).. ولكن محكمة التاريخ قاسية مع القادة الذين دمروا شعوبهم بقراراتهم وحساباتهم الخاطئة.

  

 اليوم وبعد مقتل السنوار راحت العقلية العنترياتية وكالعادة تسجن النقاش في ثنائياتها المعهودة : هل مات السنوار مختبئا في الانفاق كما قالت إسرائيل!! ام قُتل في ساحة الوغى ممتشقاََ حسامه يقاتل العدو حتى الرمق الأخير!!! كما لو ان منظومة الانفاق الحمساوية تم بناءها للفئران فقط !! وليس من ضمن التحضيرات العسكرية الدفاعية المشروعة لحماس الضعيفة امام إسرائيل لعدم توازن القوى.. ومقاتلي حماس استخدموها ولا زالوا يستخدمونها.. وما هو اكيد هو ان السنوار استخدمها لحماية نفسه وعائلته حتى اللحظات الأخيرة.. ولكن السنوار لا يستطيع ان يبقى ليل نهار ولمدة طويلة في الانفاق.. من هنا خروجه الدوري منها لاستنشاق الهواء ولملاقاة اشعة الشمس الضرورية لصحته.. وهو حتما كان يخرج من الانفاق لضرورات عسكرية قتالية كتفقد قواته الخ.. وهو على اغلب الظن وقع في "المصيدة" في احدى هذه الجولات التفقدية.. كل ذلك هي اشياء طبيعية في ظرفية الحروب.. وليس من العيب في شيء ان يختبئ مقاتل تجنبا لقوة متفوقة عليه عدديا وتكنولوجيا.. وفَن الاستراتيجيا الصيني القديم يعتبر ذلك من الحكمة.. اما حرب العصابات الحديثة فهي تعتبر ذلك من ابجدياتها.. كما يقول لنا ابرع من نظّر لهذا النوع من الحروب وهو السويسري هانس فون داخ في كتابه الشهير "المقاومة الشاملة"  

 

Never engage a strong enemy and never accept an open fight

 

وهذه القاعدة تزداد أهمية عندما تكون حرب العصابات في قطاع غزة ذو الطوبغرافيا المنبسطة والمفتوحة.. وليس في الطوبوغرافيا الجبلية السويسرية وهي البيئة الأمثل لمثل هذه النوع من الحروب.. وفقط العقلية العنترياتية الشرقية لا زالت تشترط من المقاتل العربي ان" يرفع سيفه امام الدرون" كما لو اننا ما زلنا نعيش في زمن "هل من مبارز"!!!!

 

باختصار .. من كل الدمار المخيف لـِقطاع غزة.. من كل هذه الملايين التي تفترش الارصفة وتنام في العراء.. من كل "فلم" الدمار المستمر منذ اكثر من سنة.. لا يستوقف العقلية الشعبوية العنتريياتية سوى اللحظات الأخيرة لموت "بطل الفلم".. اما مصير الملايين من الكومبارس فيتم ازاحته من خلال تركيز عنترياتي على المشهد الاخير لـ بطل الفلم: فارس مجروح يتحدى بقطعة خشب درون مُتخم بـ أخر مقتنيات التكنولوجيا!!  وبهذا الطرح الشخصي يتم ازاحة سؤال المسؤولية السياسية "لبطل الفلم" عن كل هذا الخراب!!!! فطرح حدث مقتل السنوار من منظور الشجاعة او الجبن يقوم بـ ازاحة الكارثة الاجتماعية والسياسية والعسكرية التي سببها قرار السنوار على المستوى الاستراتيجي.

 

الثنائية الثانية التي صاحبت الطرح العنترياتي الاخير هي ثنائية المقاومة ونقيضها التخاذل او الاستسلام.. وهي ثنائية قديمة قدم خطاب المقاومة وتنطلق من مبدأ قمعي يقول "لا صوت يعلو على صوت بندقية المقاومة".. من هنا فكل من ينتقد خطاب المقاومة هو متخاذل.. لا بل هو في النسخة "الحزبُلاهية" متعاون مع المحتل.. ومن هذا المنظور القمعي تم تصفية وإرهاب كتاب وصحفيين لبنانيين.. اما في النسخة الحمساوية فمن يعارض هذا الخطاب هو "عميل".. ويحيى السنوار الذي كان يدس الكوفية عنوة في احشاء المتهمين بالعمالة لإسرائيل.. صفى بهذه السادية الكثيرين من معارضي حماس بتهمة العمالة لإسرائيل.. والكاتم الذي كان يتباهى به السنوار من على المنصات هو إشارة لهذه "الفلسفة" الاخصائية الشقاواتية. 

 

 علّة هذا الخطاب "المقاومجي" الذي يجحفل الاخلاق والمبادئ والقيم وتقاليد الشهامة والفروسية العربية.. هو انه منخور اخلاقيا من الداخل.. فهو يرفع البندقية بيد ويتاجر بالمخدرات باليد الأخرى (حزب الله انموذجا).. وهو بعد ذلك ينتقد"العرب" ليل نهار ولكنه لا يتردد من قبض ملياراتهم لإعادة اعمار ما دمرته عبقرية قادته الملهمين.. والصحافة الفلسطينية وكاريكاتيراتها التي تختزل العربي بعقال وبطن ضخمة هي انموذج مبتذل لهذا لطرح "العنصري".. هم يدينون انبطاح امراء الخليج امام امريكا.. ولكنهم يستمرون باستلام الملايين من قطر التي تحميها اكبر قاعدة أمريكية في المنطقة!! ولكن ما هو اخطر من هذا وذلك ..هو ان هذا الخطاب الذي يرفع شعارات التحرر والتحرير والحرية.. يعامل "شعبه" داخليا معاملة العبيد ويزرف رؤوس معارضيه بكواتم الصوت!! وتاريخنا المعاصر مليء "بالرفاق المناضلين" الذين حولوا بلدانهم الى "حظائر مواشي" دفعتنا عفونتها السياسية الى الحنين الى زمن الاستعمار!! من هنا فأن زمن: "المناضل بريء حتى وان اثبتت التجارب جرمه وكارثيته" قد ولى .. بمعنى ان النضال ليس منّة على الشعوب.. و"فزاعة" المقاومة لم تعد مانعا امام المساءلة والنقد.   

 

 شخصيا ما كنت اريد ان اخوض في الشأن الفلسطيني من مبدأ ان "اهل غزة ادرى بركامها"!! ولكن مستوى "التحشيش الفكري" الذي وصل اليه أصحاب الخطاب العنترياتي بعد موت السنوار لم يترك لنا خيار.. فثقافة "نكبة مع الناس عيد" ذهبت الى حدود الابتذال الثقافوي في مواجهة معارضيها ممن يطالبون بموقف براغماتي امام العالم ومتغيراته.. بحجة ان البراغماتية هي فلسفة دخيلة على ثقافتنا.. وان ثقافتنا لا تعرف النفعية الغربية لأنها ثقافة فروسية وتضحية!!  "ثلت" الشعوب العربية اليوم يعيشون في المخيمات و يعتاشون على الإعانات والمساعدات الخارجية.. و"ثلث اخر" مُهجر في الشتات.. و"ثلث" ثالث يعيش تحت خط الفقر.. وأصحاب خطاب الفروسية العربية مازالوا يعتقدون اننا نعيش في زمن هارون الرشيد وحوافر خيله التي فتحت نصف العالم!! 

 

نحن هنا امام أناس يعيشون في عالم "موازي" لا يلتقي هندسيا بعالمنا الذي نعرف ونعيش!! وهذا الانفصال الفكري عن الواقع يذكرنا بشخصية النبيل دون كيشوت في رواية سرفانتس الشهيرة.. دون كيشوت هو شخص مدمن على القراءة وكان يلتهم الكتب على الطريقة الاسترخائية في القراءة.. بلا تفكير او نقد لما يقرأ.. و دون كيشوت هذا كان مولع بقصص الفرسان التي كان يجدها في الكتب المتحايلة على الواقع.. وادمان دون كيشوت على هذه القصص الخيالية جعله ينفصل تدريجيا عن الواقع.. وذات يوم قرر ان يترك كل شيء خلفه ويذهب على خطى الفرسان الجوالين.. متحديا العالم بـ حصان نحيل ودرعا صدئة وخوذة قديمة.. وهو عندما شاهد امامه طواحين الهواء التي لم يرها في حياته اعتقد انها شياطين.. وراح يُغيير عليها بحماقة أطفال.. منذ ذلك الحين اصبح تعبير "محاربة طواحين الهواء" نقدا لكل موقف عبثي منفصل عن الواقع.. وهذا النقد الساخر لعالم الفروسية القرووسطوي الحالم الذي ظل يعيش في عالم الامس ولم يستطع فهم ان العالم من حوله قد تغيّر.. هو من اعطى رواية سرفانتس قيمتها الفلسفية والأدبية الرائدة في الادب الأوربي الحديث.. وسرفانتس ضمن هذا الاطار هو المعادل الادبي لـ مكيافيلي الذي اخرج الحقل السياسي الاوربي من الطروحات الشعاراتية الى الواقعية السياسية.. وبهذه المنهجية الواقعية اخضعت اوربا الصغيرة حجما شعوبا وامبراطوريات استمرت في العيش في عالم "الخيل والليل والبيداء تعرفني" .. و"فروسية" المماليك امام مدافع وبنادق جيش نابليون هي انموذجا لهذه المواجهة العبثية بين عالمين .. عالم دون كيشوت وعالم البندقية. 

 

وهناك في شخصية السنوار و"غزوته" على إسرائيل كل مكونات السلوكية الدونكيشوتية.. فالسنوار الذي قضى اكثر من عشرين عاما في السجون الإسرائيلية.. تعلم خلالها اللغة العبرية.. كان مدمنا على قراءة كُتّاب وصحافة اليسار الإسرائيلي.. وهؤلاء كانوا ولا زالوا يبشرون بزوال المجتمع الإسرائيلي من منظور طوباوي.. ومحللي الجزيرة الاستراتيجيين تبنوا هذا الطرح و مازالوا.. وكلنا نعرف ان قادة وجمهور حماس هم من مُدمنيّ "افيون" الجزيرة الاستراتيجي.. ويقال ان السنوار ومن وراء القضبان كان خلف فكرة اسر الجندي الاسرائيلي شاليط  (وان اخوه محمد السنوار هو من نفذها).. وهذه العملية مكنت حماس من عقد صفقة تبادل اكثر من الف اسير فلسطيني مقابل الجندي شاليط!! والسنوار خرج من السجن بعد ذلك محاطا بهالة "الرفيق المناضل" الذي فهم العقلية الإسرائيلية وعرف كيف يتعامل معها.. ويوما بعد اخر راحت الهتافات وموجات التصفيق تلاحق "الرفيق المناضل" في كل مرة يظهر فيها على الملأ.. ويوما بعد اخر.. وهتافات بعد أخرى.. انتفخت نرجسية "الرفيق المناضل" وتصور نفسه جنرال حرب.. وذات يوم راح هذا "الجنرال" يفكر بأصل القصة التي منحته كل هذا الاعجاب والرصيد السياسي.. وهي صفقة تبادل اكثر من الف اسير فلسطيني مقابل اسرائيلي واحد.. وهي صفقة مستحقرة بكل قوانين الرياضيات التي عرفها التلميذ يحيى صغيرا.. وهنا راحت تغازل نرجسية السنوار فكرة أخرى مغرية: ماذا لو قام بخطف مئة إسرائيلي: "يا الهي!! قال السنوار مع نفسه.. إسرائيل ستركع عندها امامي".

 

 لماذا حلق السنوار في هذا السيناريو الحالم؟؟ لان السنوار الذي كان مدمنا على خطاب اليسار الإسرائيلي الطوباوي الذي كان يقول له ان المجتمع الإسرائيلي ضعيف سايكولوجيا ومنهك سياسيا.. السنوار هذا استنتج من صفقة الجندي شاليط استنتاج قاتل فحواه: ان إسرائيل التي تحرص على حياة جندي واحد هي دولة هشة سايكولوجيا!! وبالتالي ضعيفة عسكريا لأنها لا تتحمل خسائر بشرية!!!!! وهو بخطف مئة إسرائيلي سـَيَشِلُ المجتمع الإسرائيلي المنقسم على نفسه.. وسيدق المسمار الأخير في نعش دولة إسرائيل.. نحن هنا امام اكبر سوء فهم ثقافي في التاريخ المعاصر!!! ومن قام بهذه الحسابات الخاطئة هو شخص قدمته الدعاية الحمساوية كأفضل قيادي فلسطيني فهم العقلية الإسرائيلية منذ امين الحسيني .. فقط لأنه إلْتَهَمَ مئات الكتب الإسرائيلية في رتابة حياة السجن!!

 

لا غرابة بعد ذلك ان هذا "الجنرال" المنفصل عن الواقع والذي تم تنصيبه رئيسا للمكتب السياسي بعد اغتيال إسماعيل هنية.. بعث برسالة الى "محور المقاومة" ليشرح لهم رؤيته الاستراتيجية المستقبلية.. فحوى هذه الرسالة وردت في مقال لـ "وول ستريت جورنال" قبل أسبوع من مقتل السنوار ونقلا عن "مسؤول إقليمي" (الجناح السياسي لحماس مخترق مخابراتيا كما تعرفون!!).. في هذه الرسالة يقوم السنوار بتقديم الشكر لمحور المقاومة على جهودهم في دعم حماس.. ويعدهم بالانتصار وزوال إسرائيل القريب.. والسنوار الذي يعرف ان هناك في اجنحة حماس ممن بدأ يشكك بـِعبقريته العسكرية بعد كارثة غزة.. يختم رسالته هذه بـ آية قرآنية: "ويقولون متى، قل عسى ان يكون قريب"!!

 

 نحن هنا امام ما يمكن تسميته بـ "استراتيجية عسى"!! وانت اذا ما دفعت "استراتيجية عسى" الرجائية الى حدودها القصوى.. فانت ستعثر على متتالياتها القدرية من مثل : "عسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم".. وبتطبيق هذه الاستعارة القرآنية على الكارثة الحالية ستحصل على نسخة: عسى ان تكرهوا تدمير غزة وهو خير لكم!! وفقط عندما تفهم هذا التحشيش الاستراتيجي وتستوعب الابعاد اليانصيبية في "استراتيجية عسى واخواتها" .. ستفهم استهتار السنوار بحياة ملايين من الناس وبمصير اطفالهم.. وهنا فقط ستفهم مشاعر "محمد الغزاوي" الذي قال يوم موت السنوار "انه اسعد يوم في حياتي"!! ونحن الجيل العراقي الذي عاش "الانتصارات الهزائم" نعرف بالتجربة حجم السخط المكبوت في دواخل الغزاويين الذي اختبروا "فروسية" كواتم الصوت السنوارية ويعيشون اليوم جحيم القنابل الإسرائيلية بسبب "استراتيجيا عسى". 

 

الاستراتيجيا هي فن تطويع وتقنين الأهداف السياسية وفقا لإمكانيات بلد وشعب ما.. عسكرياََ واقتصادياََ وطوبوغرافياََ ولوجستياََ الخ.. وهي لذلك تقتضي من المسؤول السياسي الذي يمتلك قرار الحرب دراسة دقيقة وصارمة لهذه الإمكانيات على ارض الواقع.. من اجل استخدام تكتيكي امثل لها على ارض المعركة.. والمقاوم الذي يذهب الى ساحة المعركة من دون هذه الاعتبارات العسكرية والاستراتيجية هو كالثور الهائج.. ومصير هذا الثور هو الارتطام عبثا بسكاكين وسيوف "الماتادور" المستمتع بمواجهة عضلات الثور الغبية.

 

نعم المقاومة حق مشروع.. ولكن مشروعية المقاومة لا تبرر كل شيء.. كل كتب الاستراتيجيا العسكرية وحرب العصابات بالتحديد.. تنص على شيء أساسي في المقاومة وهو عدم مواجهة عدو اقوى منك وجها لوجه كما اشرنا سابقا.. وكل كتب الاستراتيجيا العسكرية وحرب العصابات تنطلق من شرط جوهري وحيوي .. وهي ان المقاومة في مواجهتها مع العدو يجب ان لا تعرض بيئتها وحاضنتها للخطر.. لا مستقبل لمقاومة من دون بيئة حية .. اما المقاومة على ركام بيئتك وخصوصا في بقعة بحجم غزة و بـ طبوغرافيتها المنبسطة.. فهي حماقة عسكرية وسياسية.. وهنا تكمن لامسؤولية حماس الاستراتيجية والاخلاقية في كارثة غزة الحالية.

 

جمال عبد الناصر كان يقول عن وزير دفاعه عبد الحكيم عامر والذي خسر كل الحروب المصرية التي قادها "انه متأخر عشر سنوات عن عصره".. من هنا فالسنوار الذي اعتقد ان إسرائيل ستأتيه راكعة بعد هجوم ٧ أكتوبر تستجدي التفاوض على غرار صفقة شاليط.. السنوار هذا هو بلا شك انسان يمتلك الجسارة والشجاعة على المستوى الشخصي .. ولكنه استراتيجيا متأخر خمسين سنة على الأقل عن عصره.. من هنا فما تعتبره العقلية العنترياتيه شجاعة من الناحية الشخصية.. هي من منظور الاستراتيجيا العسكرية حماقة دونكيشوتية.. ففي السياسة الاعمال ليست بالنيات.. وانما بخواتيمها.. وعندما يرتبط مصير ملايين بقرار رجل واحد.. ويقوم هذا الرجل(وان كان شجاعا ومغوارا وملهما الخ !! ) بإعلان حرب ضد دولة تفوقه عدة وتكنولوجيا وكل ما في جعبته هي "خوذة" عسى!! فعندها ستتحول شجاعته على المستوى الشخصي الى حماقة على المستوى الاستراتيجي.. والى جريمة على المستوى السياسي الاجتماعي العام.. وخصوصا اذا كان هذا الفارس المغوار يضع اطفاله وعائلته في الانفاق في وقت يعيش مئات الالوف من الأطفال تحت عصف القنابل الإسرائيلية.

 

الحكمة العربية تقول: "رحم الله إمرئ عرف قدر نفسه".. اما الحكمة العسكرية الصينية فهي تضيف الى معرفه النفس شيئا اهم وهو معرفة العدو.. وهي لذلك تدلنا على القصور المعرفي في قرار السنوار بالهجوم على إسرائيل والذي سبب الكارثة الحالية.. وهذه الحكمة التي نجدها في كتاب "فن الحرب" الذي ينسب للمعلم تسو.. تقول:

 

اذا كنت تعرف عدوك وتعرف نفسك، فلا عليك ان تخشى نتائج مئة معركة قادمة.

واذا كنت تعرف نفسك ولا تعرف عدوك، فـمقابل كل معركة تربحها ستمنى بهزيمة

اما اذا لم تكن تعرف نفسك ولا تعرف عدوك.. فانت سوف تُهزم في كل المعارك.

 

هناك اليوم مباحثات بين حماس وفتح برعاية مصرية بخصوص مصير قطاع غزة بعد انتهاء الحرب.. وعودة خالد مشعل لواجهة حماس بعد مقتل السنوار تعني من منظور "البورصة السياسية الفلسطينية" هبوط ارصدة الجناح الإيراني في حماس والذي سبب الكارثة الحالية.. الهزائم تتبعها دائما انهيارات معنوية وسخط داخلي وبالتالي تموضعات سياسية.. واياك ان تصدق الخطابات والشعارات الرسمية.. وحماس المسؤولة سياسيا عن الكارثة الحالية تعرف حجم السخط الشعبي اليوم في غزة.. وتعرف ايضا انها لن تستطيع حكم غزة غدا.. من هنا يحق لـِ محمود عباس اليوم و"بعد خراب البصرة" ان يردد جملة بريجنسكي الشهيرة التي تقول: "العلاقات الدولية هو حقل مخصص للبالغين فقط"!!!

2024/10/06

العالم رقعة شطرنج .. لماذا تسقط البيادق أولاََ

  بعد "الأسبوع" الدراماتيكي في بيروت والذي قامت فيه إسرائيل بتصفية الهرم القيادي لحزب الله.. وفي عملية استخباراتية تشبه في أسلوبها التنفيذي الشطرنج السريع والخاطف الذي يمارسه بطل العالم ماغنوس كارلسون.. وهو أسلوب مزعزع لثقة الخصم ومدمر لمعنوياته.. بعد هذا الأسبوع الدامي الذي شهد انهيار منظومة "حزب الله" الأمنية ودمر معنويات "محور المقاومة".. شهدت إيران نقاشات عاصفة وجدل حاد تطايرت فيه الاتهامات بالخيانة والاختراق والجُبن الخ.. تيار "المحافظون" وعبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل إعلامهم قاموا بشن حملة اعلامية قاسية على "غصن الزيتون" الذي حمله الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان في اجتماعات الأمم المتحدة في الأسبوع الماضي.. في نفس الوقت الذي كان فيه نتنياهو يعطي أوامر تصفية حسن نصر الله من مكتب في بناية الأمم المتحدة.. حتى الرئيس الإيراني الأسبق احمدي نجاد وبعد يومين من مقتل نصر الله ادلى بدلوه في هذا الجدال.. وراح من على قناة "سي أن أن" التركية يصفي حسابات قديمة مع الحرس الثوري.. كاشفا عن اختراق الموساد الإسرائيلي للمنظومة الأمنية الإيرانية.. وقال ان رئيس وحدة مكافحة التجسس الاسرائيلي في الامن الإيراني كان عميلا مزدوجا للموساد.. وأضاف ان الموساد نجح بتجنيد عشرين عنصر من هذه الوحدة المكلفة بالأصل بمكافحة التجسس الإسرائيلي!! يقال ان السمكة تبدأ بالتفسخ من الرأس!! 

 

بعد هذا الأسبوع البيروتي الدامي والمزعزع للمعنويات وخلال أيام شهدت أروقة القرار الإيراني ايضا اجتماعات عاصفة وجدل حاد بين اقطاب القيادة الإيرانية بخصوص الأسباب التي أدت الى انهيار الهرم القيادي لـ"حزب الله" وهو البيدق الأثمن في الساتر الامامي للشطرنج الإيراني وبخصوص ما يجب فعله بعد هذه الانهيار الكارثي.. صحيفة "نيويورك تايمز" وقبل اربعة أيام نشرت تفاصيل من هذه الاجتماعات نقلا عن مقربين من أروقة القرار الإيراني.. وانا شخصيا اعتقد ان هذا التسريب تم عن طريق مفاوضي الإدارة الديمقراطية في وزارة الخارجية الايرانية وهو لذلك تسريب مدروس لنقل رسالة للإدارة الديمقراطية فحواها: ان الإصلاحيين ما زالوا على العهد!! وهنا عليك ان تعرف ان هناك رهانات متضادة بين ايران وإسرائيل حول من سيفوز بالانتخابات الامريكية القادمة.. اسرائيل تفضلها جمهورية ترامبية لأن ترامب سيمنحها "كارت بلانش" (كما يقول التعبير الفرنسي) تفويض غير محدود بالتحرك ضد إيران .. اما ايران فهي تفضلها ديمقراطية.. أولا لان ترامب سيكون كارثة سياسية لإيران.. وثانيا إمكانية عمل اتفاق نووي جديد كما وعدهم بايدن لقاء عدم التصعيد وبالتالي زيادة فرص فوز الديمقراطيين بالانتخابات القادمة.. و"فيلسوف"  السلام "بزشكيان" الذي شنف اذان وسائل الاعلام الامريكية مؤخرا بـِترنيمة "قُصر مدة الحياة البشرية قياسا لعمر الكون اللامتناهي فلا داعي لتضيّعها بالحروب" يدخل ضمن هذه الرهانات.. وهناك حتى بين المحلليين الجديين من بدأ يدرس فرضية تصفية إبراهيم رئيسي بحادث الطائرة ضمن هذا المشروع التفاوضي.. لأنه غير مرغوب به أمريكيا.. من يدري.. السياسة رقعة شطرنج!! 

  

لا غرابة ان "حمامة السلام" مسعود بزشكيان كان في اجتماعات القيادة العاصفة الاخيرة من دعاة ضبط النفس وهو قد حث على توخي الحذر لان إسرائيل تحاول جر ايران الى حرب مفتوحة وهذا سينهك ايران المنهكة أصلا ويضعفها استراتيجيا.. وهذا الخطاب لمن يعرف التحولات السوسيولوجية التي طرأت على الشارع الإيراني منذ مظاهرات ٢٠٠٩ يعبر عن مشاعر الشريحة "القومية" في المجتمع الإيراني والتي تقول ان سياسة ايران الإقليمية يجب ان تتبنى مواقف اكثر بازارية.. ايران لا يجب ان تكون "ملكية اكثر من الملك".. لا يجب ان تكون عربية اكثر من عرب الخليج الذي يتمتعون بمليارات النفط في حين يشقى احفاد "اردشير" تحت الحصار الاقتصادي!! وهي تبعا لذلك لا ينبغي لها ان تضحي بـ الامن القومي الايراني من اجل غزة او الضاحية.. لغزة رجال تحميها وللضاحية ايضا.. كما قال خامنئي في النسخة الإيرانية فقط من خطابة قبل ثلاثة ايام بمعنى انه اخذ بنظر الاعتبار هذه النقمة الداخلية.. اما في النسخة العربية من خطابه فقد ساد "المزامط" التقليدي لأنها موجهة الى جمهور "الجزيرة" العربي.. باختصار.. خطاب الإصلاحيين يعبر عن رغبات قاعدتهم الشعبية المتذمرة من صرف المليارات من قوت الايرانيين على حزب الله وحماس والحوثيين.. "لا غزة لا لبنان روحي فدى ايران" هو شعار هذه الشريحة الواسعة من الإيرانيين.. وهناك اليوم داخل منظومة الحكم الايراني أصوات كثيرة تضع الامن القومي الإيراني فوق كل اعتبار.. "الشاهنشاه" اثمن من كل "البيادق".. وإرث "اردشير" لا يجب ان يتعرض لـِ "كش مات" من اجل "جلف صحراء جاء يعلم الفرس كيف يركع"!!! وعنصرية التعليقات ضد العربي في اوساط جمهور الإصلاحيين تحتاج الى أطروحة دكتوراه لو كان عندي الوقت. 

 

امام الطرح "الإصلاحي" الذي دعا للتهدئة وقف "صقور" الحرس الثوري في هذه الاجتماعات معارضين بشدة.. وقالوا ان قرار التهدئة الذي اتخذته ايران بعدم الرد على اغتيال إسماعيل هنية.. فسرته إسرائيل كنوع من الضعف.. وان عدم الرد بعد تصفية الهرم القيادي لحزب الله سيزيد من انطباع الضعف الإيراني لدى إسرائيل.. وبالتالي سيشجعها على ضرب ايران في الداخل.. ولهذا السبب يجب إعادة قواعد الردع خارجيا بأسرع ما يمكن.. والمرشد الأعلى الذي يمتلك الكلمة الفصل انحاز لرؤية صقور الحرس الثوري.. وهنا نفهم حدود سلطة الرئيس المنتخب في "ديمقراطية" ولاية الفقيه.. كل ما يملكه "الرئيس" في ولاية الفقيه هو بلع الإهانة.. وداخل هذه الأجواء "غير الودية" تم اتخاذ قرار رشقة الصواريخ الأخيرة ضد إسرائيل.

 

وهنا عليك ان تتوقف ملياََ امام "ديالكتيك" القيادة الإيرانية لتفهم الهوة بين الشطرنج الإيراني على ارض الواقع وبين الخطابات الحماسية.. فما تقوله لنا هذه النقاشات هو ان ايران وجدت نفسها بعد الأسبوع الدامي امام خيارين احلاهما مر.. وقرار الضربة كان ضمن منطق "مجبر اخاك لا بطل".. فهذه النقاشات تقول لنا ان القيادة الايرانية وبعد اغتيال إسماعيل هنيه اتخذت قرار بالتهدئة وعدم الرد.. في حين ان الخطاب الإعلامي آنذاك وعد بيوم قيامة لإسرائيل.. اما الضربة الثانية فقد قدمت إعلاميا كونها انتقاما لمقتل هنية وحسن نصرالله.. في حين انها ضمن العقيدة العسكرية للأمن القومي الايراني كانت لإعادة قواعد الردع مع اسرائيل.. خوفا من ان عدم الرد هذه المرة سيفسر من جديد كضعف مما سيدفع إسرائيل لضرب العمق الايراني.. باختصار.. هذه التسريبات تكشف لنا الفجوة بين خيارات القيادة الايرانية المحدودة (خياران احلاهما مر) وبين تحليق الخطاب الإعلامي في فضاء الشعارات.

 

في الساعات التي تلت ضربة إيران الاخيرة نشر وزير خارجية ايران عباس عراقجي "تغريدة" على موقع "اكس" قال فيها بأن إيران "مارست حق الدفاع عن النفس" وإن "تحركها انتهى في حال لم ترد إسرائيل على هذه الضربة" .. وهي لمن يعرف تاريخ ودور عراقجي في الشطرنج الإيراني يعرف انها رسالة الى أمريكا بان ايران لا تريد التصعيد اكثر وترغب بالتهدئة.. وهو وضمن رغبة التهدئة هذه زار بيروت قبل يومين ومنها قال إن طهران "تدعم جهود وقف إطلاق النار في لبنان".. عباس عراقجي هو مهندس كل الاتفاقات مع الإدارة الديمقراطية واهمها الاتفاق النووي عام٢٠١٥ حين كان يعمل مستشارا لجواد ظريف.. وهو بحسب نيويورك تايمز مصاب بخيبة امل لأن "الدول الغربية خدعتنا مرتين في الآونة الأخيرة.. مرة عندما طلبت منا عدم الرد على مقتل زعيم حماس إسماعيل هنية (من اجل اتفاق مستقبلي شامل بعد فوز الديمقراطيين وهذا حلم ايران في السنوات الأخيرة ).. والمرة الثانية عندما طرحت فرنسا وبدعم امريكي هدنة لثلاثة أسابيع لمنع إسرائيل من "اجتياح" لبنان.. والهدف كان من فكرة الهدنة هو اتاحه الوقت لتفعيل قرار اممي يعود الى ما بعد حرب ٢٠٠٦ ويقوم بمقتضاه حزب الله بالتراجع الى ما وراء الليطاني.. وايران كانت موافقة على فكرة هذه الهدنة لإنقاذ "حزب الله" من حرب مفتوحة مع اسرائيل تعرف نتائجها مسبقا نظرا لعدم توازن القوى.. ولكن إسرائيل بهجومها الخاطف على حزب الله نسفت هذا المشروع (ايران دائما متأخرة "خطوة" على إسرائيل).. من هنا قول عراقجي بان الدول الغربية خانتهم.. ومفردة الخيانة في كلام عراقجي هنا ليست دقيقة.. فـ فرنسا عملت كل ما بوسعها من اجل هذه الهدنة من اجل انقاذ لبنان لأنه حديقتها الخلفية في منطقتنا.. ولكن نتنياهو لم يرضخ للضغوط الفرنسية.. وماكرون في غضبه من نتنياهو ذهب يوم أمس حد المطالبة بإيقاف تزويد إسرائيل بالسلاح مما اثار ازمة دبلوماسية بين إسرائيل وفرنسا.. وتصريح ماكرون يدل على حجم النقمة السائد في أروقة الخارجية الفرنسية من سلوك إسرائيل في لبنان.. لأنهم يعرفون ان القادم في لبنان اسوء اذا ما ذهبت إسرائيل في خطتها لتدمير حزب الله.

 

 الشطرنج هي لعبة استراتيجية بامتياز.. لا غرابة انها سميت بلعبة الملوك.. عليك دائما ان تفكر ليس فقط بالخطوة الأولى ولكن أيضا بالخطوة التي بعدها والتي بعدها وهكذا دواليك.. وعليك أيضا ان تأخذ بالحسبان ردود فعل الخصم على كل هذه الخطوات.. وهي لذلك لعبة تتطلب لياقة فكرية عالية والاهم بروده أعصاب وهدوء.. ولتسهيل مهمة اللاعبين المحترفين الذين تعمل رؤوسهم بسرعة الكومبيوترات تم وضع قواعد مواجهة وبروتوكولات سلوكية صارمة.. واحدة من هذه البروتوكولات السلوكية التي يجب ان يلتزم بها اللاعبان اثناء المواجهة.. هو ان اللاعب الذي يحرك يده باتجاه الرقعة فقط ليضع قطعة خرجت قليلا عن مربعها في مكانها الصحيح.. عليه ان يقوم بإعلام خصمه مسبقا بحركته هذه.. بمعنى ان يقول له بانه سيقوم بلمس كذا قطعه فقط من اجل وضعها في مكانها الصحيح.. وليس من اجل القيام بخطوة "تصعيدية".

 

تصريحات عباس عراقجي من على موقع إكس بعد الضربة الأخيرة هي معادل دبلوماسي للبروتوكول الشطرنجي الانف الذكر.. ضرب الخصم ثم العودة الى سلوك مؤدب في المواجهة !! وهي بلغة الاستراتيجيا العسكرية تعني ان إيران تريد الاستمرار بالحرب الغير المتماثلة (اسّيميتريك).. الحرب الغير مباشرة.. الحرب بواسطة البيادق وعن بُعد (بعيدا عن الداخل الإيراني).. اما تصريح عراقجي من بيروت والذي يدعو للهدنة فهو مثل لاعب شطرنج مبتدئ يلعب مع كاسباروف ويدعوه في منتصف "الداس" لعقد هدنة بعد ان شاهد خيول وفيلة كاسباروف تصول وتجول على الرقعة !!!.

 

 وزير خارجية ايران ورغم المستجدات الأخيرة يريد إعادة عقارب الساعة الى الوراء ويريد الاستمرار بالعقلية الشاهنشاهية الامبراطوري والتي تقسم "رقعة الشطرنج" الاقليمي الى قسمين: قسم خلفي هادئ تركض فيه خيول "الملك اردشير" بطمأنينة ويدخن فيه أبناء الحرس الثوري الافيون الافغاني في ليالي طهران الماجنة.. ولا يجب على الخصم المساس به وتعكير مزاج الشباب!! وقسم امامي "حلال دم الغزال" تُدَمَْر فيه المدن والعواصم العربية عن بكره ابيها ويشرد اطفالها في العراء!!! وهذه الاستراتيجية الايرانية ليست جديدة .. وأفضل من عبر عن هذه الاستراتيجية  العسكرية الايرانية الاستعلائية هو مجتبي باشائي مسؤول ملف الشرق الأوسط في جهاز السافاك أيام الشاه حين قال: "يجب علينا مقاتلة واحتواء خطر [المد الناصري] في الساحل الشرقي للبحر المتوسط لمنع سفك الدماء على الأراضي الإيرانية".

 

We should combat and contain the threat [of Nasserism] in the East coast of the Mediterranean to prevent shedding blood on the Iranian soil

 

تغيّر النظام الايراني ولكن منطق الدولة الايرانية وامنها القومي لم يتغير.. فعندما احتلت داعش نصف العراق خرج علينا آنذاك واحد من قادة الحرس الثوري الكبار وكرر جملة مجتبى باشائي مع وضع مفردة التكفيريين محل مفردة المد الناصري.. وهم اليوم يضعون مفردة إسرائيل محل المد الناصري كما تقول لنا فحوى نقاشات القيادة الإيرانية الاخيرة: الامن القومي الايراني يقتضي "ضرب اسرائيل في "الساحل الشرقي للبحر المتوسط" لكي "ترعوي" ولا تفكر بسفك الدماء على الأراضي الإيرانية.. من هنا الضربة الأخيرة .. والكرة الان في ملعب إسرائيل.. شخصيا لا اعتقد ان اسرائيل ستقوم بالتصعيد والذهاب الى حرب مفتوحة الان.. هي ربما ستقوم برد محدود ومؤلم على ضربة ايران.. ولكنها ستنتظر وصول ترامب للسلطة.. إسرائيل في الوقت الحالي ستركز على لبنان وهي لا تريد تشتيت قوتها في هذه المرحلة.. ثم انها تعرف ان الـ"كش مات" يتطلب منها أولا تصفية البيادق!! ولبنان للأسف سيدفع ثمنا باهضاََ واكبر من حرب ٢٠٠٦.. ودائما بسبب دور حزب الله البيدقي في الشطرنج الإيراني.

 

خروتشوف اثناء الحرب الباردة مع الغرب كان يقول: "برلين هي خصية الغرب وفي كل مرة اريد فيها إيجاع الغرب اضغط على برلين"!! ودور حزب الله في الاستراتيجية الايرانية هو ليس للدخول في حرب مع إسرائيل وتحرير القدس.. فقط شخص "مكبسل" عقائديا يصدق هذا الهراء.. دور حزب الله في الاستراتيجية الإيرانية هو فقط للضغط على "خصية أمريكا" إسرائيل في كل مرة تريد ايران مقايضة أمريكا والغرب!! واليوم وبعد ان قطعت إسرائيل أصابع الكثير من عناصر حزب الله "بالبيجرات" المفخخة!! سيكون من الصعب على حزب الله اداء هذه المهمة "النبيلة"!! وانا اعتقد ان ايران وبعد "تقليم اظافر" حزب الله من قبل اسرائيل ..ستتحول في خطاب الايجاع والمقايضة مع الغرب الى التهديد بالضغط على "خصاوي أمريكا" في الخليج !!  

 

في عام ٢٠٠٦ قام حزب الله بخطف جنديّان إسرائيليان من وحداتهم على الحدود.. مما دفع اسرائيل بشن حرب دمرت البنية التحتية اللبنانية.. تدمير البنية التحتية اللبنانية من اجل جنديّان إسرائيليان!! حتى ابسط مزارع لبناني في الجنوب فهم آنذاك ان حسابات الحقل لم تكن بمستوى حسابات البيدر!! كما يقول المثل الشامي اللطيف.. وتلك "الرعونة" السياسية أدت الى تذمر جزء كبير من اللبنانيين (كما هو الحال اليوم).. من هنا اعتراف حسن نصر الله وبعد "خراب البصرة" ان خطوة اختطاف الجنود التي أدت الى نشوب تلك الحرب كانت خطأ في الحسابات.. وايران التي تعرف موازين القوى ولا تريد ان تخسر بيدقها الثمين نبهت "السيد" حسن آنذاك ان خطف الجنود الاسرائيليين هو خطأ تكتيكي وخروج عن "قواعد الاشتباك" كما يسمونها.. والشاطر حسن ومنذ تلك الأيام وعد المرشد الاعلى ان يكون تلميذاََ نجيباََ ولا يتجاوز "قواعد الاشتباك" احتراما لسياسة الصبر الاستراتيجي الايراني!! وهنا عليك ان تفهم ان إسرائيل ما قبل هجوم حماس كانت تقبل بـ "قواعد الاشتباك" لسببين.. أولا من اجل الاحتفاظ باللياقة العسكرية من خلال استخدام الجنوب اللبناني كميدان رماية!! وثانيا وهنا المهم.. من اجل تبرير الدعم العسكري الأمريكي السنوي امام الكونغرس.. إسرائيل خط الدفاع الأول لأمريكا في المنطقة!!! كما يقول اللوبي الإسرائيلي في واشنطن.. ولهذا السبب قبلت إسرائيل في السابق بالاستمرار باللعب مع "زعاطيط" حزب الله طالما انهم يحترمون قواعد الاشتباك.

 

ولكن اسرائيل بعد هجوم حماس غيرت اسلوبها في "لعب الشطرنج" مع حماس وحزب الله ..في حين ان حسن نصرالله استمر باللعب باسلوب "قواعد الاشتباك" كما وعد المرشد وكأن شيئاََ لم يكن.. انه منطق البيدق .. وافضل من عبر عن عقلية البيدق هذه هو هادي العامري حين كان متجحفلا ضمن جيش خميني اثناء الحرب العراقية الإيرانية وقاتل ضد "بلده" العراق.. وهناك فيديو مشهور نشاهد فيه هذا البيدق يقول فيه بـ قرقوزية مضحكة : "الامام يقول حرب .. حرب .. الامام يقول سلم .. سلم ".. وحسن نصرالله طبق هذا المنطق بحذافيره طوال السنة الماضية ..وهو اثناء هذه السنة تلقى ضربات موجعة كثيرة من قبل إسرائيل.. ضربات نسفت كل "قواعد الاشتباك" السابقة.. ولكن السيد حسن كان بعد كل ضربة ينظر بوجل للمرشد.. فيأتيه الجواب: الصبر الاستراتيجي.. عليك بالصبر الاستراتيجي يا حسن.. وضربة بعد أخرى ..ورأس بعد اخر .. وجد حسن نصرالله نفسه بلا مبادرة.


 وهذا السلوك البيدقي هو بالتحديد من قتل "السيد" حسن .. لأنه ذهب لمقر الحزب في الضاحية التي اخلتها إسرائيل من سكانها.. والادهى في أسبوع صَفَت فيه كل الهرم القيادي لحزبه.. كيف للسيد حسن الذهاب لمقر الحزب بعد هذا الاختراق الاستخباراتي المذهل !!! لماذا لم يغير بروتوكوله الامني !!! يتساءل حتى اغبى اغبياء الضاحية اليوم .. والجواب هو لان السيد حسن تعود تنفيذ تعليمات المرشد.. والمرشد بعث له في ذلك اليوم تعليمات مهمة عن طريق "مبعوث".. ومبعوث المرشد استدعاه لمقر حزب الله !! والبيدق لا يمتلك حيز حركة كبير!! البيدق ميكانيك غبي على رقعة الشطرنج ..الى الامام .. توقف .. الى اليمين در .. الى اليسار در !! ولهذا السبب بالتحديد تسقط البيادق اولاَََ.    

 

 باختصار.. إسرائيل بعد هجوم حماس الذي صدمها امنيا ونفسيا قامت بتحديث جميع تطبيقات حاسوبها الاستراتيجي وبدأت تستخدم الذكاء الاصطناعي للتحضير لعملياتها.. في حين ان حزب الله استمر باستخدام كُتيب "قواعد الاشتباك" الإيراني العتيق .. ولكي نستخدم مجازيات الشطرنج وافتتاحياته الكلاسيكية.. حسن نصر الله استمر باستخدام "افتتاحية كاروكان" الدفاعية التقليدية والتي كان يفضلها كاربوف في القرن الماضي.. في حين  ان إسرائيل بعد هجوم حماس راحت تستخدم "الافتتاحية الصقلية" التي تمنح قطعها الكبيرة حيز حركة اوسع وبالتالي فرص هجومية أكبر.. وهي الافتتاحية التي يفضلها اليوم بطل العالم ماغنوس كارلسون المختص بالشطرنج الخاطف السريع!!

 

 فريدريك نيتشه يقول "الافعى التي لا تُجدد جلدها تموت".

2024/09/03

حدّثوا الناس بما لا يعرفون !! تنقيب عن آثار "غدير خم"

كثيرا ما تم مدح الطبري لتسجيليته الهائلة لأنه يسجل تقريبا كل ما يقع بين يديه من الروايات.. ورغم تناقضها كليا بعض الاحيان.. وهذه التسجيلية فُسرت كنوع من الحيادية.. علما ان بعض النقاد عابوا عليه بالتحديد هذه الطريقة التسجيلية "الفاهية" نقديا.. خصوصا وانه ضَمَّنَ تاريخه روايات وقصص لا يقبل بها عقل سليم.. ولهذا السبب اعتبروا الطبري كاتب حوليات وليس مؤرخا.. لان المؤرخ بنظرهم ينبغي ان يمتلك حسا نقديا يمكنه من غربلة النصوص والوثائق والروايات وبالتالي عليه ان يميز بين الغث والسمين. 

 

 ولكن عندما نقرأ تاريخ الطبري بعناية سنجد ان تسجيليته الشهيرة تختفي احيانا امام بعض الاحداث.. علي سبيل المثال لا الحصر: مشهد قتل ابن ملجم المرادي الذي قتل علي بن أبي طالب.. فالطبري هنا وعلى غير عادته لا يعطيك سوى رواية مقتضبة واحدة.. وهي ترد كالتالي: "فلما قُبض علي، بعث الحسن لابن ملجم".. وهنا يدور بينهما حوار فنطازي يطلب فيه ابن ملجم من الحسن ان يخلي سبيله ليذهب ليقتل معاوية!!!! (المستشرقون الكبار بينوا الطابع المفبرك لرواية محاولة الخوارج لاغتيال معاوية وابن العاص.. علي فقط كان هدفهم انتقاما لمذبحة النهروان) يرفض الحسن هذا العرض.." ثم قدمه فقتله، ثم اخذه الناس فأدرجوه في بواري، ثم احرقوه بالنار ".. والادهى ان الطبري يمهد لهذه الرواية بوصية لعليّ وهو على فراش الموت ينهى فيها ابنه الحسن عن المثلة: " فاني سمعت رسول الله يقول "اياكم والمثلة ولو بالكلب العقور"!!!!!  حديث "إياكم والمثلة" في هذا الإطار يستدعي مقولة "كاد المريب ان يقول خذوني"!!

 

   وانت عندما لا تكتفي برواية الطبري المقتضبة هذه وتذهب لقراءة مصادر أخرى مثل البلاذري او ابن كثير.. ستكتشف ان أولاد علي قتلوا ابن ملجم بوحشية قل نظيرها.. فالحسن ابن علي: "استحضر ابن ملجم من السجن، فاحضر الناس النفط والبواري (الحصير) ليحرقوه، فقال لهم أولاد علي: دعونا نتشفى منه، فقطعت يداه ورجلاه .... ثم كحلت عيناه (لاحظ هنا كيف يتم تورية فعل حرق العين) ... وان عينيه لتسيلان على خديه".. وابن ملجم طوال هذه الاثناء كان يقرأ القرآن.. " ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعا شديدا ... فقتل عند ذلك واحرق بالنار"!! 

 

عندما تقرأ ذلك ستعرف ان الطبري لم يستخدم فقط "مقصه الرقابي" لبتر هذا المشهد السادي.. وانما حاول تحييده بحديث "اياكم والمثلة".. لماذا قام الطبري بذلك؟؟؟؟ الإجابة على هذا السؤال نجدها عند الطبري نفسه.. فهو يقول لنا في مكان اخر من تاريخه: "ان محمد ابن ابي بكر كتب الى معاوية لما ولي، فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة".. عبارة " كرهت ذكرها لما فيه مما لا يحتمل سماعها العامة" تزودنا بمعيار الطبري بذكر او عدم ذكر رواية ما.. بمعنى ان الطبري كان يستخدم "مقصه" الرقابي في كل مرة كان يعتقد فيها ان الرواية " لا يحتمل سماعها العامة".. كل ما "لا يحتمل سماعه العامة" يسقط من تاريخ الطبري!! وخصوصا عندما يتعلق الامر بأفعال واقوال الصحابة وأبناء الصحابة!!  ومشهد ابناء عليّ وهم يعذبون ابن ملجم بوحشية يدخل ضمن هذا الإطار. 

 

 في كل مرة تجد نفسك في التاريخ الاسلامي امام حدث مبتور او إذا لم يُبتر لشهرته، ستجده مدفون تحت اكوام من الروايات المتضاربة والمبهمة والتي تهدف الى احاطة الحدث بضوضاء لغوية وبالتالي تحييده اسلوبيا.. في كل مرة تجد نفسك امام رواية ذات لغة مبهمة او غير مترابطة منطقيا وشبيهة بالأحجية.. عليك ان تقول مع نفسك ان الامر "فيه إنَ"!!  في كل مرة تجد نفسك امام رواية تلغرافية مثل الرواية التالية من صحيح البخاري: حدثنا محمد بن بشار ....... عن عبد الله ابن بُريدة، عن أبيه قال: بعث النبي عليا إلى خالد بن الوليد (في اليمن) ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليا، فأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ فلما قدمنا على النبي ذكرت ذلك له، فقال: "يا بريدة أتبغض عليا؟" فقلت: نعم، فقال: "لا تبغضه فان له في الخمس أكثر من ذلك".. في كل مرة تجد نفسك امام مثل هكذا رواية حزورة.. عليك ان تقول مع نفسك بانها بالأصل تتضمن شيئا "لا يحتمل سماعة العامة".

 

عندها عليك ان تأخذ نفسا عميقا!! لأنك ستحتاج ان "تركض" من مؤرخ الى اخر.. ومن كتاب الى اخر لكي تحاول استكشاف الفعل الذي دفع "بُريدة" لبغض علي.. وبالتالي فهم العلاقة بين البغض والاغتسال والخُمس في هذه الرواية المبهمة.. وعليك مسبقا ان تتمتع بلياقة فكرية.. لان الروايات الإسلامية بتضاربها وتناقضها عامل مسبب للصداع الفكري.. فعامل الزمن فيها مطاطي يتسع ويضيق حسب حاجة الراوي.. والتواريخ هي من أضعف عناصرها!! اما بخصوص الجغرافيا وتحديد الأماكن فحدث ولا حرج.. وفيما يلي قراءة تفكيكية مقارنة للروايات الكبرى التي تتطرق لبعثة عليّ في اليمن من اجل فهم رواية البخاري المبهمة. 

 

ولنبدأ مع الطبري.. فهو في باب "سرية علي الى اليمن" يقول ان "النبي" بعث خالد ابن الوليد الى اليمن ليدعوهم الى الإسلام.. وبقيّ خالد فيها ستة أشهر ولم "يجيبونه الى شيء".. عندها يقوم النبي بإرسال عليّ ابن ابي طالب ليحل محل خالد.. وهنا يدخل القوم في الإسلام بمجرد وصول عليّ!! وبعد عدة صفحات وفي نفس السنة العاشرة من الهجرة تقع على رواية تقول ان النبي "بعث عليّ الى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم".. وبعد عدة أسطر تجده يقول لك: "لما اقبل عليّ من اليمن" ليلقى رسول الله في مكة (للحج) .... استخلف على جنده رجلا من أصحابه فعمد ذلك الرجل فكسا رجالا من القوم حللا من البز(القماش) الذي كان مع علي".. وهنا يعود جيش عليّ فجأة الى مكة (للحج).. فلما دنا جيشه خرج عليّ ليلقاهم "فاذا هم عليهم الحلل" .... "فانتزع الحلل منهم وردها في البز، واظهر الجيش شكاية لما صنع بهم".. وعليك ان تنتظر رواية أخرى لتقرأ: "فاشتكى الناس عليّ، فقام فينا رسول الله خطيبا، يقول "لا تشكو عليا...!! ما يهمنا في رواية الطبري هو ان أصل الخلاف وشكاية الجيش عليّ هو لبس الحلل.. وبسبب هذا "قام فينا رسول الله خطيبا". 

 

اما ابن سعد وفي كتاب "الطبقات" فهو يذكر: "سرية خالد ابن الوليد الى بني عبد المَدَان بـِ نجران".. وبعدها مباشرة يذكر "سرية عليّ الى اليمن" وكانت: "اول خيل دخلت تلك البلاد، وهي بلاد مذحج. ففَرّقَ (عليّ) أصحابه فأتوا بنهب وغنائم ونساء وأطفال"، "ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا بالنبل والحجارة" (وهنا نحن امام رواية مناقضة لرواية الطبري التي تقول ان القوم دخلوا الاسلام بمجرد وصول عليّ بديلا لـِ خالد).. ثم "حمل عليهم عليّ بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا فتفرقوا وانهزموا". " وجمع عليّ الغنائم فجزاها على خمسة أجزاء ..... الخ".. ما يهمنا في رواية ابن سعد هو ان القوم دخلوا الاسلام بعد هزيمة عسكرية وكان هناك سبي وغنائم.

 

بعد ذلك نذهب للبلاذري (انساب الاشراف) فتجد ان خالد ابن الوليد قاد سرية الى بني الحارث بـِ نجران (هنا تناقض مع رواية ابن سعد في وجهة خالد الجغرافية) و"وجهه رسول الله إليهم يدعوهم الى الإسلام. فاسلموا..... وقاتله قوم من مذحج (هنا تناقض مع ابن سعد الذي يقول ان عليّ هو من ذهب لبلاد مذحج)، فظفر بهم وسبى منهم واستاق مواشيهم فخمسها ".. اما عليّ عند البلاذري فقد اُرْسِل "الى اليمن لقبض الصدقة" فقط ولم يشارك في القتال.. بعد ذلك تذهب لابن الاثير (الكامل) وتجد رواية تقول ان النبي "بعث عليّ الى نجران (تناقض مع البلاذري وتوافق مع الطبري) لجمع صدقاتهم وجزيتهم ويعود، ففعل وعاد ولقي رسول الله بمكة في حجة الوداع".. ما يهمنا في روايتيّ البلاذري وابن الاثير هو اننا نكتشف ان مهمة عليّ في اليمن كانت فقط لجمع الخمس وليس للقتال وعند ابن الاثير انه عاد الى مكة في حجة الوداع.

 

ثم نذهب الى ابن الخراط (الأحكام الشرعية الصغرى).. فنجد نسخة أوضح قليلا من رواية البخاري: "أنَّ رسولُ اللَّهِ بَعَثَ عليًّا إلى خالدِ ليقسِمَ بينهُمُ الخمسَ فاصطفَى عليٌّ منها سبيَّةٌ فأصبحَ يقطُرُ رأسُهُ قال فقال خالدٌ لبريدةَ: ألا ترى إلى ما صنعَ هذا الرَّجُلُ؟ قال بُرَيدَةُ: وَكنتُ أبغَضُ عليًّا فأتَيتُ النَّبيَّ فَلمَّا أَخبرتُه قال: أتَبغَضُ عليًّا؟ قلتُ: نعَم قال: فأَحِبَّهُ فإنَّ لهُ في الخمُسِ أَكثرَ مِن ذلِكَ".. هنا خالد هو من يشتكي لبريده سلوك عليّ.. والاهم هنا ظهور معلومة جديدة وهي اصطفاء عليّ لسبية من الخمس. 

 

اما عند البيهقي (دلائل النبوة) فنعثر على رواية البخاري بنسخة ابن الخراط مع تغير بعض المفردات:" بعث رسول الله عليا الى خالد ليقبض الخمس فاخذ منه جارية، فأصبح ورأسه يقطر، فقال خالد لبريدة.... الخ".. ولكننا نعثر عند البيهقي على نفس رواية الطبري ولكن مع سبب اخر للخلاف وللبغض: " فلما أخذ (عليّ) من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا وكنا قد رأينا في إبلنا خللا فأبى علينا وقال: إنما لكم فيها سهم كما للمسلمين".. وهنا يعود علي الى مكة ليدرك الحج.. ويسافر بعد ذلك الى اليمن بعد ان "قضى حجته" (عند الطبري الجيش هو من يعود للقاء علي في مكة !!).. وتستمر رواية البيهقي تشرح ما حصل اثناء غياب علي: "وقد كنا سألنا (القائد) الذي استخلفه ما كان عليّ منعنا إياه ففعل، فلما عرف (علي) في إبل الصدقة أنها قد ركبت، ورأى أثر الركب قدم الذي أمره ولامه"!! باختصار.. ما يهمنا في رواية البيهقي هو ان سبب الخلاف والشكوى هو "ركوب إبل الصدقة".. وليس لبس "الحلل" كما عند الطبري!! وتناقض الروايات في مثل هذه الاحوال هو دائما دليل فبركة غير ناجحة.

 

ثم نذهب اخيرا الى ابن كثير (البداية والنهاية) وهنا نجد رواية فريدة لا نجد لها أثر عند المؤرخين الكبار.. وهي من مسند ابن حنبل.. وهي الوحيدة التي تعطيك مفاتيح رواية البخاري المبهمة: ورواية ابن حنبل تقول: "عن بُريدة قال: فأصبنا سبيا، قال: فكتب (خالد) إلى رسول الله أبعث إلينا من يخمسه، قال: فبعث إلينا عليا، وفي السبي وصيفة من أفضل السبي. قال: فخمس، وقسم، فخرج ورأسه يقطر".. فقلنا: أبا الحسن ما هذا؟ فقال: ألم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي فإني قسمت وخمست فصارت في الخمس، ثم صارت في اهل بيت النبي، ثم صارت في آل علي ووقعت بها".

 

 هل ترون ما أرى ؟؟؟ لا !!! إذا تعالوا لنقوم بملء فراغات رواية البخاري المبهمة بما بين سطور الروايات الأخرى و بتفاصيل رواية ابن حنبل.. وإذا ما قمنا بهذه العملية التفكيكية.. ثم قمنا بعد ذلك بترتيب منطقي لأجزائها المتناثرة سنحصل على خبر مثير فحواه: ان النبي أرسل عليّ ابن ابي طالب الى سرية خالد ابن الوليد في مكان ما من اليمن.. وكانت مهمته فقط لجمع الخمس.. وهو اثناء عملية تقسيم الخمس استحوذ على أجمل امرأة في السبي.. والادهى "وقع" فيها (ضاجعها).. وهنا سنفهم التورية النائمة في عبارات "خرج ورأسه يقطر" و"أصبح وقد اغتسل".. عندها سنفهم ان أصل الخلاف والبغض والشكاية ليس "لبِس الحلل" ولا " ركوب إبل الصدقة"!! وانما له علاقة بـِ"وقوع" عليّ بإمرأة سبية!!  

 

 عندها سنكتشف ان رواية البخاري التلغرافية هي "كولاج" فاشل لهذا الحدث الفاضح.. فهو وخلافا لأبسط مسلمات المنطق يضع عبارة " وكنت أبغض عليا" مباشرة بعد حدث وصول عليّ وبدون ذكر سبب البغض.. وهو بذلك يعطي انطباعا للقارئ بان بُريدة يبغض عليّ هكذا بدون سبب.. وهو بعد ذلك يبتر سبب البغض بأسلوب التورية والابهام المتعمد.. لماذا؟؟ لأنه مما لا يحتمل سماعه العامة!! والادهى من ذلك هو ان البخاري ينهي الرواية بمنطق طفل في الصف الخامس ابتدائي.. لأنه ينسب للنبي جملتيّ: "يا بريدة أتبغض عليا؟" فقلت: نعم، فقال: "لا تبغضه فان له في الخمس أكثر من ذلك"!!!! كما لو ان الخلاف يتعلق بحصة عليّ بالخمس وليس بموضوع "وقوع" عليّ بـِ امرأة سبية!!! وهذا دليل ان البخاري هنا "يُرسل بالحديث".. البخاري هنا تنطبق عليه مقولة ابي عاصم النبيل وهو أحد رواة الحديث: "ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث"!! 

 

ولكن ما الذي فعله عليّ بالتحديد ليستحق "بغض بريدة (او خالد) و"شكاية الجيش" وبالتالي قيام النبي خطيبا في الناس؟؟؟؟ فالسبي ووطء السبايا في الإسلام ليس من الممنوعات.. هنا نحن امام "الحلقة" المبتورة في كل الروايات.. وهنا عليك ان تقوم بجولة أخرى في الكتب الفقهية لتستوضح مفهوم السبي في الإسلام.. عند ذاك ستكتشف ان السبي في الاسلام مؤطر بشروط .. واهم شروط السبي الاسلامي هو "استبراء المرأة السبية".. بمعنى انتظار حيضها.. و"إذا كانت حامل يحرم وطئها حتى تلد"!!!!! وهنا فقط سنفهم ان ما قام به "أبو الحسن" في اليمن هو انه لم يتمالك نفسه.. و"وقع" بهذه المرأة المسكينة بعجالة وبدون استبراءها.. راميا عرض الحائط بكل ضوابط السبي الإسلامية!!   

 

ولكي نُحَدّث الناس بما لا يعرفون!!! عليّ بن ابي طالب "وقع" بـ ِسبية اليمن "وقوع" "داعش" باليزيديات في سنجار!! لا غرابة ان "داعش" وبعد الضجة التي اثارها سبيهم لليزيديات.. أصدروا كتيبا عنوانه "السبي: احكام ومسائل".. وهم في هذا الكتيب يبررون "وقوعهم" باليزيديات وفقا "للكتاب والسنة والاجماع" بحسب تعبير الكتيب.. وفيه يستشهدون من بين امثلة كثيرة بسلوك عليّ ابن ابي طالب في "الوقوع" بسبية اليمن.. وهم يذكرون حديث البخاري الانف الذكر مع استخدام لِلون الأسود الغامق فقط لإبراز الجملتين التي ينسبها البخاري للنبي: "يا بريدة أتبغض عليا؟" "فقال: "لا تبغضه فان له في الخمس أكثر من ذلك".. وهم من وراء هذه التأكيد اللوني يريدون ان يقولوا للقارئ ان النبي الذي حلل لعلي ما قام به في اليمن يحلل ايضا لداعش ما قامت في سنجار!! ولكن بما انهم يعرفون ان فعلة علي في اليمن تناقض قاعدة الاستبراء التي شرحوها في باب اسبق من كتيبهم.. لذلك هم يقولون لك في النهاية: "فهذه الجارية اما ان تكون بكرا فلم ير عليّ وجوب استبراءها، واما ان تكون في اخر حيضها، فاكتفى بالحيضة قبل تملكه لها"!!! ثم يضيفون "وبكل حال، فلا بد ان يكون تحقق براءة رحمها بحيث اغناه عن الاستبراء!!!! عليّ في تفسير داعش هو طبيب نسائية!!!!  

 

  ما هو اكيد هو ان حدث "وقوع" عليّ بن ابي طالب بهذه الاسيرة المسكينة بعجالة وحتما بغلظة ومن دون الالتزام بمبدأ الاستبراء اثار استياء من شهدوا الحادثة.. بمعنى انهم اعتبروه نوعا من الاغتصاب.. وفقط عندما نفهم ذلك سنفهم استهجان القوم لسلوك عليّ هذا وشكايتهم.. وسنفهم الضجة التي اثارها هذا السلوك آنذاك.. وخصوصا بعد ان عاد "جيش" اليمن الى مكة للحج.. و"لما كثر القيل والقال من ذلك الجيش" "واشتهر الكلام فيه في الحجيج" (وانا هنا استخدم عبارات ابن كثير نصاََ).. قام النبي في الناس خطيبا في غدير خم (بعد انتهاء الحج): "فبرّأ ساحة عليّ وليزيل ما وقر في نفوس كثير من الناس".

 

 وهنا فقط نفهم السبب الحقيقي وراء خطبة غدير خم.. هنا نحن امام سبب منطقي وخطير لقيام النبي خطيبا للدفاع عن عليّ.. وفقط ساذج يمكن ان يصدق ان النبي "قام في الناس خطيبا في غدير خم "فبرّأ ساحة عليّ" من اجل " لبس الحلل" او "ركوب إبل الصدقة" كما يقول ابن كثير!! فـ عليّ في روايات الحلل وابل الصدقة "يثخن في سبيل الله"!! عليّ في هذه الروايات يتصرف وفقا لمبدأ تأدية الامانات الإسلامي ولا يحتاج في هذه الحالة لا لتبرئة "ولا هم يحزنون".. لا بل ان موقفه هنا يستحق "نوط شجاعة" لو كان صحيحاََ!! وليس تبرئة.. فالتبرئة في اللغة هي جعل الشخص بريء.. بمعنى تطهير سمعته من جرم او جريمة.. وفقط جرم "اثخان" عليّ بالمرأة السبية المسكينة يعطي لفعل التبرئة هنا معناه المنطقي.. كلنا نعرف ان للشهرة ضريبتها.. وسلوك ابن عم النبي هذا السلوك هو الذي أنتج "القيل والقال" و"اشتهار الكلام فيه في الحجيج".. وعندما نستذكر ان بث خبر في مناسبة الحج في تلك الايام هو مثل بث خبر عبر "قناة الجزيرة" في أيامنا هذه!! سنفهم الأهمية التي أعطاها النبي لهذا "القيل والقال".. وسنفهم لماذا قام في الناس خطيبا في غدير خم "فبرّأ ساحة عليّ وليزيل ما وقر في نفوس كثير من الناس".. قل انما انا بشر مثلكم!!!!  

 

 وهنا يسقط على رؤوسنا سؤال مدمر.. كيف تحولت خطبة لتبرئة "أبو الحسن" من جرم اغتصاب الى حديث "ولاية" وموالاة و "وال من ولاه وعاد من عاداه"؟؟؟ فهذا التحوّل في المعنى مذهل في راديكاليته.. وللجواب على هذا السؤال عليك برؤية هذا الحدث من منظور السوسيولوجيا التاريخية.. وعليك عندها استحضار عدة عوامل اجتماعية وتاريخية: أولها.. ان عليّ يمتلك "رأسمال" اجتماعي لا يمتلكه غيره.. فهو ابن عم النبي وزوج ابنته.. فكيف تقول للناس البسطاء من المسلمين ان ابن عم النبي اغتصب امرأة؟؟ ويحك يا هذا!! لهذا السبب لم يجرؤ أي مؤرخ إسلامي على ذكر ذلك بصراحة لأنه "مما لا يحتمل سماعة العامة" لكي نستخدم لغة الطبري.. ثم عليك ثانيا الاستعانة بقانون التآكل والاندثار الفيزيائي وتطبيقه على هذا الحدث التاريخي.. بمعنى معاملته معاملة اي منتج بشري يتلاشى بفعل عوامل الزمن والظروف المناخية والاستخدام.. السيف يصدأ ويختفي معدنه.. الديار تمحى ولا يبقى منها سوى الاطلال.. الحصون تندثر تحت الرمال.. الزقّورات تتحطم وتتحول الى ركام الخ.. وخطبة غدير خم والتي انتقلت من فم الى اخر.. ومن يد الى أخرى.. ومن جيل الى اخر.. ومن عصر سياسي الى اخر.. كل فم ويد وجيل وعصر لمسها ترك عليها "بصماته".. وتراكم البصمات أدى الى اختفاء تفاصيل الحدث الأصلي واندثاره تحت اكوام من الأحاديث المفبركة والروايات المبهمة.

 

 عليك دائما وانت تقرأ التاريخ الإسلامي الذي وصلنا اليوم ان تفهم ان احداث صدر الاسلام تناقلها الرواة والُقصاص شفهيا خلال أكثر من قرن قبل ان تُسطر على الورق: قال فلان "حدثني ابي" او "عن ابيه، عن جده، قال".. ثم تجد ان بين هذا الفلان والمؤرخ (الذي سطّر الرواية التي وصلتنا) هناك خمسة رواة.. وعندما تفهم سوسيولوجيا ما يعنيه ذلك.. بمعنى ان هؤلاء بشر لهم اهوائهم وأراءهم وافكارهم وظروف "مناخهم" الاجتماعي والسياسي وتقلباتهما.. وبالتالي مقصاتهم حالهم في ذلك حال الطبري.. منهم من يبتر.. منهم من يضيف.. منهم من "يرسل بالحديث".. منهم "يحدث بالحديث المعاني".. منهم من يؤلف "اخبار موضوعة".. وما كان "حديث ضعيف يستأنس به" ضمن إطار مبدأ "المسامحة".. يتحول بمرور الزمن والاجيال الى "صحيح".. عندها ستفهم نسبية حقائق "الكولاج" الذي بين أيدينا اليوم.. وما ينطبق على التاريخ الإسلامي.. ينطبق ايضا على كل تواريخ الأمم الأخرى: الصينية والهندية واليونانية والرومانية.. وانت إذا ما فهمت كل ذلك.. ستفهم عندها مقولة فولتير عن التاريخ البشري: "أساس كل تاريخ هي قصص الإباء للأبناء والتي تنتقل بعد ذلك من جيل لأخر، ما كان منها محتمل في الأصل، يفقد مع كل جيل جزء من هذه الاحتمالية. ومع مرور الوقت تنتفخ الأسطورة وتختفي الحقيقة".

 

ثالثا.. عليك باستحضار شيء يعرفه كل المختصون بالتاريخ.. وهو ان كل تاريخ هو تاريخ العصر الذي كُتب فيه.. بمعنى انه تاريخ يحمل اسقاطات العصر الذي كتب فيه.. ولتبسيط هذه الملاحظة "التجريدية".. تَصَوَّر مؤرخ شيعي اليوم يكتب تاريخ البعث في العراق!! وداعا للموضوعية!!! والتاريخ الاسلامي الذي وصلنا هو تاريخ كُتب داخل المناخ الفكري للعصر العباسي.. وهو بهذا المعنى يحمل اسقاطات العصر العباسي الفكرية والسياسية.. من هنا الصورة القرقوزية السيئة للأمويين في هذا التاريخ.. ومن هنا أيضا الصورة التقديسية لعليّ والتي كانت مفيدة سياسيا للعباسيين في مسار الصراع على الخلافة.. لا غرابة ان معاوية وهو أعظم سياسي انتجه العرب تم تصويره بطريقة كاريكاتورية تهكمية في هذا التاريخ.. بهدف تسخيفه.. لماذا؟؟ لأنه عدو عليّ.. معاوية في هذا التاريخ (على سبيل المثال لا الحصر) هو رجل نهم "واسع البلعوم كثير الطعم".. اما عليّ فهو زاهد متقشف "لا يزيد على ثلاث لقم"!!!!

 

علي الذي كان "ضخم البطن" في روايات صدر الإسلام يتحول في روايات العصر العباسي الى زاهد متقشف "لا يزيد على ثلاث لقم".. علي الذي كان يقتني السبايا الجواري في روايات صدر الإسلام.. يتحول في العصر العباسي الى ناسك.. الدنيا عنده أتفه من عفطة عنز!!!! علي "المحدود" في روايات صدر الإسلام ("لا رأي له" بحسب تعبير عامله في مصر قيس ابن سعد) يتحول في العصر العباسي الى "باب مدينة العلم"!! ومثل هذا التحول السحري في الروايات يدلنا على مسار تحول عليّ التاريخي الى أسطورة.. ولهذا السبب اختفى تدريجيا حادث "وقوع" باب مدينة العلم على "راس" السبية المسكينة!! ولهذا السبب تم انتاج روايات "الحلل" وركوب "إبل الصدقة".. لأنها ورغم سذاجتها وتناقضها الفاضح.. تبقى مطابقة لما ينبغي ان تكون عليه صورة ابن عم النبي عند عامة الناس.. "حدثوا الناس بما يعرفون" تقول المقولة التي تُنسب لـ ِعليّ!!  بمعنى التحدث معهم كقاصرين فكريا.. "خذوهم على قدر عقولهم" !! لأنهم غير قادرين على فهم المعقد.. وقرون من هذه المعاملة الأستحمارية للعامة اعطتنا البؤس الأخلاقي والسياسي السائد اليوم.  

2024/06/02

فصل الخطاب في اثبات اسطورية شخصية أبو تراب

 "خبز و سرك" كانت وسيلة اباطرة روما للتلاعب بالغوغاء واشغالهم .. "هريسة وعطل رسمية وسرك حسيني" هي وسيلة "رجال الدين" الشيعة للتلاعب بالغوغاء واشغالهم .. في الأسبوع الماضي اقر برلمان الشيعة في العراق قانون اعتبر فيه الثامن عشر من ذي الحجة عطلة رسمية احتفالا بـما يسمونه "عيد الغدير".. البرلمان هذه المؤسسة السياسية الحديثة تحول في العراق الشيعي الى حسينية للطم واجترار الماضي الشقاقي وادامة الخلاف الطائفي .. سفهاء الشيعة يريدون فرض سرديتهم الطائفية من خلال القوانين والعطل الرسمية .. يريدون فرض خزعبلاتهم بمنطق القوة "شاء من شاء وابى من ابى".. هم يعتقدون ان تصويت برلماني وعطلة رسمية يكفيان لتحويل الخزعبلات الشيعية الى حقائق مقبولة من جميع العراقيين .. ولكن التجربة التاريخية تقول لنا ان المعتقدات لا تفرضها علاقات القوة السياسية .. والا لكانت معتقدات المغول سائدة اليوم في العراق .. المأمون الذي كان يحكم امبراطورية لم يستطع فرض معتقداته المعتزلية على سُنة بغداد .. واشاعرة بغداد ورغم كل عسس وعساكر المأمون رفضوا سردية المأمون آنذاك !! فهل يعتقد شيعة العراق حقا ان تصويت برلمان مكون من حرامية سوف يدفع سُنّة العراق اليوم بقبول سخافات حديث "غدير خم" !! 

إقرار "عيد الغدير" كعطلة رسمية برلمانيا لا يجعل من حديث غدير خم حقيقة تاريخية مقبولة .. الحقائق التاريخية لا تُشرع برلمانيا .. مصداقية حدث تاريخي ما او حديث ما مرهونة بمعايير علم التاريخ.. وليس بتصويت برلماني واغلبية عددية وعلاقات قوة سياسية .. كل كنائس القرون الوسطى ومحارقها لم تستطع فرض سرديتها التي كانت تقول ان الأرض ثابتة والشمس تدور حولها.. ومحاكمة غاليليو وسجنه لم تستطع اغتيال نظريته .. حتى اغبى طفل وفي أي مدرسة متوسطة اليوم يعرف ان الأرض كروية وتدور حول الشمس وان ضوء القمر هو انعكاس لضوء الشمس وان القمر ليس نجم مشع كما كان يعتقد رجال الكنيسة مستندين الى نصوص "الكتاب المقدس" المسيحي.

 

فيلسوف عصر النهضة دافيد هيوم كان يقول "حتى لو اجتمعت البشرية جمعاء وخلصت الى ان الأرض ثابته والشمس تتحرك حولها فأن الشمس سوف لن تتحرك مقدار بوصة واحدة تبعا لهذا المنطق"

 

  Though all human race should for ever conclude, that the sun moves, and the earth remains at rest, the sun stirs not an inch from his place for all these reasonings

 

بمعنى ان الحقائق ليست مرهونة بمنطق العدد او برغبات العدد او بخزعبلات العدد .. وبنفس المعنى .. فأن مصداقية حديث ما ليست مرهونة بتصويت اغلبية برلمانية او بمظاهرة مليونية .. لو اجتمعت كل برلمانات العالم بقرار من الأمم المتحدة ومجلس الامن واقروا "عيد الغدير" عطلة رسمية عالمية !! فان هذا ليس شرطا كافيا لجعل حديث غدير خم "حديث صحيح".. و بالتالي سوف لن يمنح أبو تراب "شورت" الخلافة !! لان مصداقية حدث تاريخي ما او حديث ما مرهونة بمعايير علم التاريخ وليس بمعايير العدد.

 

 "مختبر" التاريخ اثبت من خلال "اشعة الرنين المغناطيسي" ان علي بن ابي طالب شخصية فاشلة سياسيا.. وهذا التشخيص لم يقم به ابن تيمية او الجاحظ .. لان هؤلاء وان بينوا وفضحوا الكثير من سخافات القُصّاص الشيعة .. ولكنهم ظلوا يدورون في فلك الابستيمة السُنيّة التي منعتهم من الذهاب بنقد شخصية علي الى نهاياته المنطقية لأنه ابن عم "النبي".. من قام بهذا التشخيص "الاشعاعي" لشخصية علي بن ابي طالب هم مؤرخون من عيار فلهاوزن و فيكيّا فالييري .. من قام بـذلك هم مؤرخون لا تأخذهم في "العلم" لومة لائم !! ونتيجة تحليلاتهم بينت ان شخصية علي في السرديات لا تتوافق مع شخصية على في الواقع التاريخي .. علم التاريخ الحديث ومن خلال قراءة تفكيكية للروايات وغربلة لتناقضات ما بين السطور التي تغص بها كتب التاريخ الإسلامي .. علم التاريخ الحديث هذا بَيَّنَ ان علي التاريخي لا يمت بصلة لـ علي السرديات والاحاديث المفبركة.

 

 فـ علي التاريخي ذو بطن.. في حين ان علي السرديات زاهد "لا يزيد على ثلاثة لقم" !!!!  زاهد "لا يزيد على ثلاثة لقم" و ذو بطن !!!! افتونا يرحمكم الله !!!!!  وعلي التاريخي بعد ذلك رجل مزواج وكان ينكح الجواري ( له تسعة زوجات وعدة جواري انجبن له ١٤ صبيا و ١٩ بنت.. وابن الحنفية هو ابن جارية من جواريه ) !!! سيقولون لك "محلل وموهوب" !! ولكن الإشكالية تظهر عندما تعرف ان علي السرديات هو شبه ناسك يرفض ملذات الحياة الدنيا التي هي عنده "اتفه من عفطة عنز" !!! وعلي التاريخي بعد هذا وذاك شخص يفتقد للقدرات الإدارية ولا يمتلك كاريزما القائد كما يقول فلهاوزن .. اما سايكولوجيأََ .. فكان علي فظا سريع الغضب وتنقصه المرونة في العلاقات الاجتماعية لذلك كان يلقب بالـ "محدود" كما تقول فيتشيا فالييري.

 

من بعثته الى اليمن حيث اثار سخط كبار قادة الجيش بسبب "غلظته وسوء الصحبة" كما يقول ابن كثير.. وصولا الى خلافته التي حصل عليها بانقلاب دموي فتح من خلاله "أبواب الحرب الاهلية التي لم تغلق حتى اليوم" بتعبير فلهاوزن .. كل التجارب السياسية التي خاضها علي بينت واقعيا انه رجل "لا يحسن السياسة" وبالتالي لا يصلح للإمارة .. وشخصيته المترددة المتقلبة جعلت حتى اقرب اتباعه ينفضون من حوله في الكوفة .. وخصوصا بعد ان قام بمذبحة النهروان (علي أيضا مسؤول عن مذبحة بني قريضة ) .. حتى اخوه عقيل ابن ابي طالب حارب ضده في صفين .. باختصار علي التاريخي هو كارثة سياسية تمشي على قدمين .. اما علي السرديات والاحاديث المفبركة فهو قائد اسطوري و"حلّال مشاكل" يملك حلولا جاهزة لكل مشاكل البشرية !! حتى عمر ابن الخطاب الذي يعتبره فلهاوزن اهم رجل سياسي بعد محمد لأنه الباني الحقيقي للدولة الإسلامية.. حتى عمر هذا جعلته السرديات (التي فبركت في العصر العباسي) تحت رحمة علي الاسطوري .. من هنا حديث "لولا علي لهلك عمر" .. وفيتشيا فالييري تستسخف هذه الفكرة نظرا لقامة عمر السياسية مقارنة بشخص "محدود" كعلي. 

 

 لورا فيتشيا فالييري مستشرقة معروفة .. وهي كاتبة مقال علي ابن ابي طالب ومقال غدير خم في الموسوعة الإسلامية .. لماذا ؟؟ لأنها كرست حياتها لدراسة التاريخ الإسلامي وبالتحديد الشيعي .. وهي لم تتلمذ علي يد ابن تيمية وبالتالي فهي ليست ناصبية !!!! وهي في مقالتها عن غدير خم تَمُرُ مرور الكرام على الطرح الخزعبلاتي الشيعي .. للموضوعية احكام .. ولكنها تتبنى بالنهاية رواية ابن كثير بهذا الخصوص .. لماذا ؟؟ لأن رواية ابن كثير برأيها تضع حدث غدير خم ضمن اطاره التاريخي .. واصل الحديث بحسب ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" .. هي مشكلة حصلت اثناء حملة اليمن بين علي وقادة جيشه بسبب توزيع الغنائم ..( وراء كل فتن صدر الاسلام ابحث عن جدلية "مال الله" ام "مال المسلمين".. وهو صراع استمر لاحقا بين اقتصاد "الدولة" الناشئة واقتصاد الغنيمة .. صراع بين الخليفة وبين "المقاتلة") .. و"لما كثر القيل والقال " بين الناس بخصوص ما جرى في اليمن .. "قام (النبي)  في الناس خطيبا فبرّأ ساحة عليّ وليزيل ما وقر في نفوس كثير من الناس". 

 

بتعبير اخر .. ما كان نوع من التزكية و تبرئة لساحة علي في غدير خم .. تحول مع مرور الوقت الى حديث طويل عريض فيه كل علامات الاحاديث المفبركة .. من مستهله حيث يتلفظ النبي محمد بالشهادة الثانية !! وكأن النبي يحتاج ان يقول لنفسه اشهد انني رسول الله !!!! وانتهاءً بعلامة الفبركة الكبرى الشائعة في الكثير من الاحاديث والكتب الشيعية (كتاب السقيفة انموذجا) حيث تجد إشارات الى اشخاص واحداث جرت بعد زمن الحديث .. والى هذا النمط من الاستحمار تنتمي خاتمة "حديث الغدير" :  "اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ....." وصولا الى عبارة " والولاية لعلي من بعدي"!!  بخ بخ !

 

ومسار الفبركة الشيعية هذا يتحدث اليوم عن "امر الهي  بتنصيب علي خليفة للمسلمين" !!!! وعندما تسأل "فطحل" من فطاحل الشيعة : لماذا لم ينص القرآن على ولاية علي ولم يذكره بالاسم خصوصا وان امر الخلافة امر جلل ترك امة محمد "كالخراف في الليلة الممطرة" "يعدو بعضها على بعض" !! سيقول لك لان القرآن تم تحريفه وان كل الآيات التي نصت على ولاية علي استبعدها عثمان عندما جَمَعَ القرآن !! وهو سيدعوك عندها لقراءة كتاب "فصل الخطاب في اثبات تحريف كتاب رب الارباب".. بمعنى ان "عبد الحسين" يتقبل فرضية ان القرآن محرّف .. ولكنه لا يقبل ان تقول له ان "حديث" غدير خم مفبرك !!!!! 

 

هناك قاعدة ذهبية مشهورة في علم التاريخ .. عندما تريد ان تحكم على شخصية تاريخية بموضوعية عليك اول ما عليك فعله هو تجنب النصوص التي كتبها عنه اتباعه ومريديه .. نحن هنا امام  اولى قواعد التاريخ الرصين .. وهذه القاعدة تزداد أهمية اذا عرفت ان اتباع هذه الشخصية يمتلكون عقلية خزعبلاتية مفرطة في شطحاتها التي لا يقبل بها عقل سليم .. انسان من العصر الحجري كمقتدى الصدر كان أبوه يعتقد ان أمريكا نشرت قواتها في الخليج تحسبا لظهور المهدي !! وريث مثل هكذا عقلية خزعبلاتية يمكن ان يصدق "سالفة" ان حديث غدير خم هو "امر الهي  بتنصيب علي خليفة للمسلمين" .. وله بعد ذلك ان يصدق "سالفة" ان "نادى منادِِ  في السماء" قائلا " لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا علي " .. ولكنك عندما تضع مثل هذه الاحاديث امام مؤرخ رصين من عيار فلهاوزن فهو سوف لن يعيرها دقيقتين ونصف من وقته.. ليس بسبب "ضعف اسانيدها وركة متنها" كما تقول لغة المؤرخين العرب.. ولكن لأن فلهاوزن انسان يتمتع بكامل قواه العقلية.. "ولسنا نحتاج في هذا الباب الى اكثر من هذا" .. لكي نستعير لغة الجاحظ  في كتابه "العثمانية".. بضعة غرامات من العقلانية هو كل ما تحتاجه امام الخزعبلات الشيعية.