التاريخ وثائق قبل كل شيء.. وثائق يمكن التحقق من صحتها او عدم صحتها من خلال قراءة نقدية.. ونحن للأسف لا نملك وثائق اصلية في حدث انهيار الحسن السياسي.. كل ما نملكه هي روايات تناقلها الرواة شفاهيا خلال قرن ونصف قبل ان توضع على الصحف.. وحتى هذه الصحف لم تصلنا.. كل ما وصلنا منها هي مقتطفات نجدها في سرديات الطبري والبلاذري.. وهذه السرديات الكبرى تم كتابتها بعد ما يقارب ثلاثة قرون على الحدث.. لا غرابة بعد ذلك انها سرديات تتناثر فيها روايات متضاربة ينطح بعضها بعضا!! هذه السرديات يمكن ان يصدقها العامة بشكل "عقائدي".. ولكنها من منظور علم التاريخ الحديث مجرد محاولات توليفيه متأخرة ولا يمكن القبول بها كما هي.
ما العمل إذاََ ؟؟ كيف نقرأ حدث انهيار الحسن السياسي قراءة تاريخية رصينة ونحن لا نملك وثائق اصلية ؟؟ والجواب هو منح حدث انهيار الحسن السياسي نفس الاهتمام الذي يمنحه محقق "البوليس" لجريمة ما.. وأول شيء يقوم به المحقق في هذه الحالة هو الذهاب الى "مسرح الجريمة" والبحث عن ادلة واشارات تمنحه خيط من الوضوح للسير عليه بعد ذلك لاستكشاف حقيقة ما جرى.. وبالتالي قراءة نقدية لروايات "المتهمين" و"الشهود" و"الرواة" ومن لهم علاقة بمسرح الجريمة.
ونحن إذا ما ذهبنا "لمسرح جريمتنا".. إذا ما ذهبنا لكوفة ذلك الزمان.. وقمنا بمعاينة دقيقة للمشهد السياسي في كوفة "ابو الحسن".. وبالتحديد مشهد مقتل "أبو الحسن".. وفتشنا تفاصيله بدقة.. ونظرنا فيما بين "رفوفه" و"زواياه".. سنجد "إشارة" في منتهى الأهمية.. وهذه "الإشارة" نجدها مستترة في "مراسم" دفن جثة "أبو الحسن".. فبعض الروايات التي وصلتنا تقول ان جثة "أبو الحسن" دفنت خلسة في الليل وفي مكان غير معروف: "قيل بظاهر الكوفة وقيل بالكناسة وقيل دفن بالبرية".. والسؤال البديهي الذي سيطرحه المحقق في مثل هذا الحالة هو: لماذا دفنت جثة علي ابن ابي طالب خلسة؟؟
وبعد ان يسجل محقق البوليس هذا السؤال المهم في دفتر ملاحظاته.. سيعود الى مكتبه.. يرمي قبعته على الشماعة (قليل من الخيال لا يضر)!! ثم يقوم بوضع جميع ملفات القضية على طاولته.. وهنا سيضع "عدسات" شارلوك هولمز!! ويدفن رأسه بين دفات الكتب.. قراءة متأنية وغربلة لروايات "الشهود" و"المتهمين".. وهو سيركز على إستنطاق المتناقض فيما بين سطور تلك الروايات.. وهو وبعد قراءة متأنية للروايات سيكتشف ان دفن جثة "أبو الحسن" خلسة كان: "خوفا عليه من الخوارج ان ينبشوا جثته".. ولهذا السبب ظل قبر عليّ مجهولا خلال أكثر من قرنين.. وفي العصر العباسي ورغم ان الحامض النووي لم يكن قد اكتشف بعد!! يتم العثور فجأة على قبر عليّ !! وهو الموقع الحالي في النجف.. وهذا المحقق سيضحك عندما يمر على رواية يسجلها الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" تقول "لو علمت الشيعة قبر هذا الذي يعظمونه بالنجف لرجموه بالحجارة، لأنه قبر المغيرة بن شعبة!!
معلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة "خوفا عليه من الخوارج ان ينبشوا جثته".. تضعنا امام القرينة الأهم في مسرح جريمتنا.. فهذه المعلومة ستنتج قطيعة معرفية في معاينة الحدث الذي يشغلنا.. هنا سيترك الطبري والبلاذري واليعقوبي "طاولتنا" وسيخرجون من مشهدنا "المعرفي".. هنا سنخرج من "خيميائية" واحد زائد واحد يساوي أربعة وفي رواية أخرى يساوي سبعة!! هنا سنخرج من تعويذه "اذ نادى مناد " فَيتبخّر جيش كامل بعدته "الحسنة" وعديده!! هنا سنخرج بفرح من بلادة وسخافة نظرية المؤامرة الشيعية!! هنا سنغادر كوكب السحارات والفيلة والحمير الطائرة!!
فمعلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة.. ستضع امامنا "خارطة طريق" أخرى لمعاينة حدث انهيار الحسن السياسي.. لأنها ستعيد لهذا الحدث اطاره التاريخي.. ستدلنا على الديناميكية السياسية التي كانت سائدة في الكوفة انذاك.. ان يضطر الخليفة الحسن لدفن جثة ابيه خلسة يعني من خلال عملية استدلال منطقية بسيطة.. ان الكوفة كانت خارج سيطرته الأمنية.. يعني ان الكوفة كانت تعيش فترة انفلات امني.. وهنا يسقط السؤال المهم.. كيف لخليفة اغتيل والده توا من قبل الخوارج.. ودفن جثة ابيه خلسة بسبب تهديدهم.. كيف يقوم هذا الخليفة في مثل هذه الظروف بـِ "الخروج بالناس" الى المدائن وترك الكوفة المهددة امنيا بمجرد إستخلافه؟؟ حتى اغبي نائب عريف لن يقوم بمثل هكذا حماقة عسكرية في مثل هذه الظروف.
من هنا فان معلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة والتي تقول لنا ان الكوفة كانت تعيش توتر سياسي وأمني.. ستسمح لنا برفض رواية "خروج الحسن بالناس" بعد إستخلافه لمقاتلة معاوية.. لماذا؟؟ أولا.. لأنها ببساطة لا تتناسب منطقيا مع الجو السياسي والأمني الذي كان سائدا في الكوفة!! ثانيا.. لان هذه الرواية مستحقرة بكل منطق لوجستي عسكري.. فـ علي ابن ابي طالب وخلال اكثر من اربع سنوات بعد معركة صِفّين لم يستطع تجييش جيش لقتال معاوية.. وفجاءة وفي ظروف انتقال السلطة الهش يقوم ابنه بتجييش جيش لقتال معاوية!! هل ترون الان سخافة هذه الرواية.
باختصار.. معلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة "خوفا عليه من الخوارج ان ينبشوا جثته".. ستوجه انظارنا نحو الرواية الاكثر قربا للمشهد الأمني والسياسي الذي كان سائدا في الكوفة.. وهي رواية انهيار الحسن السياسي في الكوفة.. بمعنى ان الفوضى التي تم خلالها سرقة مال الحسن وطعنه قد حدثت في الكوفة.. والرواية الأولى للطبري كما روايته الرابعة تقر بحدوث الفوضى في الكوفة بعد استخلاف الحسن مباشرة.. ولكنها تبرر ذلك بأسباب غير مقنعة.. وهي ان الحسن في خطبة الاستخلاف لم يكن "يرى قتال" معاوية.. وهذا قد اغضب اهل الكوفة.. حتى وان افترضنا ان خطبة الاستخلاف لم تعجب اهل الكوفة.. هل هذا مبرر وجيه وكافي لطعنه وسرقة ماله؟؟ فقط ساذج يمكن ان يصدق هذه السببية العرجاء.. الطبري هنا هو كمن يقول لنا ان خلافة الحسن انهارت بسبب ضربة عصى من الخيزران!!
تفنيد رواية "خروج الحسن بالناس" بعد إستخلافه لمقاتلة معاوية .. ورفض سببية الطبري في تبرير الفوضى في الكوفة .. يجبرنا على الإجابة على السؤال المهم الذي سيواجهنا عندها: اذا لم تكن خطبة الاستخلاف هي سبب الفوضى التي أطاحت بخلافة الحسن .. فما الذي حصل لكي تعم الفوضى في الكوفة بعد استخلاف الحسن؟؟
يتبع