تفكيك عبارة "اهل الكوفة" في المقال السابق بَيَّنَ لنا شيء في غاية الأهمية.. وهو ليس هناك شيء متجانس اسمه "اهل الكوفة".. فشمولية هذه العبارة توجد فقط على الورق.. اما على ارض الواقع فالكوفة لم تكن متجانسة لا اجتماعيا ولا سياسيا.. على ارض الواقع التحليلي وجدنا كوفة ككل المدن فيها تيارات متصارعة اقتصاديا وسياسيا.. وجدنا ان "اغنام" زيد ليست مصالح عمرو!! وان عليّ بن ابي طالب لم يحصل على ٩٩ بالمئة من الأصوات الكوفية.. وان احياء كثيرة كانت معارضة لـِ عليّ.. ولكن المعلومة الأهم التي ظهرت امامنا بعد تفكيك عبارة "اهل الكوفة".. هو ان اشراف الكوفة (وهم من ذوي الرياسة في قبائلهم) كان يشكلون قوة سياسية لا يستهان بها في الكوفة.. ودليل قوة الاشراف هو انهم اجبروا عليّ بن ابي طالب على قبول التحكيم في صفين.. وهؤلاء الاشراف وضعوا "فيتو" ضد أي حرب مع معاوية.. وانت عندما تستوعب ذلك.. ستفهم ليس فقط سخافة الرواية التي تقول "ان الحسن ما ان استخلف جيش جيشا لقتال معاوية".. وانما أيضا سخافة الرواية الأخرى التي تقول ان الفوضى حصلت في الكوفة بسبب ان "اهل الكوفة" كانوا يريدون قتال معاوية ولكن الحسن في خطبة الاستخلاف عبر عن رغبته بالصلح مع معاوية.. وهذا قد اغضب اهل الكوفة.. ولهذا السبب حصلت الفوضى وتم خلالها طعن الحسن!!! فدور الاشراف في الكوفة وقوتهم السياسية والعشائرية.. وموقفهم الرافض للحرب مع معاوية يقول لنا ان: لا الحسن كان قادرا على تجيش جيش لقتال معاوية.. ولا "اهل الكوفة" كانوا يريدون حرب معاوية.
ولكي ننتهي وللابد من هذه الاكاذيب التي شكلت العمود الفقري للسردية التي امامنا اليوم بخصوص انهيار الحسن في الكوفة.. علينا باستحضار رواية أبو بكر ابن العربي في كتابه احكام القرآن (الجزء الرابع) والتي وجدتها مؤخرا.. ابن العربي يقول شارحا الأسباب التي دفعت الحسن للصلح مع معاوية: "فانه[الحسن] صالح حين استشرى الامر عليه، وكان ذلك بأسباب.... منها ما رأى من تشتت اراء من معه.... ومنها انه رأى الخوارج احاطوا بأطرافه، وعلم انه ان اشتغل بحرب معاوية استولى الخوارج على البلاد، وان اشتغل بحرب الخوارج استولى عليه معاوية".. فرواية ابن العربي هي الرواية الوحيدة على حد علمي التي تقول لنا ان "الخوارج احاطوا بأطرافه".. وهذه المعلومة فيها من "الديناميت" المعرفي ما يكفي لنسف كل الروايات الكاذبة التي تقول لنا ان الحسن ما ان استخلف جَيّشَ جَيش وذهب الى المدائن لقتال معاوية.. فالحسن كما تقول لنا رواية ابن العربي كان محصور بين سندان معاوية ومطرقة الخوارج.. ولم يكن يمتلك خيارات سياسية.
علاوة على ذلك.. فان معلومة "الخوارج احاطوا بأطرافه" تزودنا "بالحلقة" المفقودة في "المسلسل" الكوفي.. تزودنا بالأجزاء المفقودة من اللوحة الباهتة التي وصلتنا عن طريق البلاذري والطبري.. وهي بذلك تساعدنا على رؤية المشهد الكوفي من منظور بانورامي.. وبلغة العلوم السياسية.. معلومة "الخوارج احاطوا بأطرافه" تمنحنا الوضع "الجيوسياسي" الذي كان يحيط بالكوفة آنذاك.. وهي بذلك تساعدنا على وضع حدث انهيار الحسن ضمن قوانين الفيزياء السياسية التي نعرف.. وتمكننا بالتالي من النظر لهذا الحدث من خلال مفردات العلوم السياسية من مثل علاقات القوة والحسابات السياسية والاستراتيجيا الخ.. وهذه هي محددات الفعل السياسي والعسكري من اشور بانيبال الى "احمد الشرع"!!!
وأخيرا فان معلومة "الخوارج احاطوا بأطرافه" فيها تداخل "ميكانيكي" مع القرينة التي قادتنا في المقال الثاني الى التشكيك برواية تجيش الحسن جيش لقتال معاوية.. فمعلومة "الخوارج احاطوا بأطرافه" فيها تناسب منطقي مع حدث اخر عرفته الكوفة آنذاك.. وهو حدث دفن الحسن جثة ابيه خلسه.. فقط عندما نفهم ان "الخوارج احاطوا بأطرافه" سنفهم لماذا دفن الحسن جثة ابيه خلسه.. هنا فقط ستتضح جملة: "خوفا عليه من الخوارج ان ينبشوا جثته" التي نجدها بلا سياق في السردية الترقيعية.. وبهذا المعنى فان رواية ابن العربي تمكننا من تحسس "نبض" الكوفة آنذاك.. تمكننا من تحسس الخوف الذي اعترى الناس بسبب تهديد الخوارج للكوفة.. خصوصا بعد ان نجحوا في اغتيال عليّ.
وهنا نكون قد انتهينا من عرض الوضع الداخلي والخارجي للكوفة.. وعلينا الان التفرغ للعامل الإنساني.. فكل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة بالكوفة لا يجب ان تنسينا البعد الشخصي الإنساني في الاحداث التاريخية.. فالبشر ليسوا دمى في باحة التاريخ.. البشر وخصوصا القادة ليسوا قرقوزات على مسرح التاريخ.. وهم تحت بعض الظروف المواتية يمكن ان يغيروا مجرى التاريخ إذا ما كانوا يتمتعون بـِشروط القيادة.. من كاريزما تمكنهم من التأثير في محيطهم.. وحكمة وبصيرة سياسية تمكنهم من فهم الاحداث والتعامل معها.. لذلك فان كل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة بالكوفة والتي عرضنا لها انفا لا يجب ان تنسينا دور الحسن الشخصي في الاحداث التي شهدتها الكوفة بعد اغتيال ابيه.. من هنا أهمية التطرق تحليلياََ لشخصية الحسن من اجل اظهار حجمه الانساني ودوره السياسي.
يجب القول اولا اننا لا نملك الكثير من المعلومات عن الحسن التاريخي.. نعم هناك روايات كثيرة تتكلم عن قدرات خارقة للحسن.. الحسن في هذه الروايات قادر على هز بيوت مكة.. ورفع الكعبة في الهواء!! وهو قادر بعد ذلك على مناداة نخلة فتأتيه زاحفة خاضعة!! وهو قادر بعد هذا وذاك على إنزال النجوم من السماء ثم ارجاعها الى اماكنها الخ!!! ولكن كل هذه القدرات الخارقة للحسن ممكنة فقط في فضاء الخزعبلات الشيعية الرحب.. كل ذلك ممكن فقط ضمن إطار الروايات الشيعية التي لا يصدقها الا شخص "مكبسل" عقائديا.. وهذا الحسن الاسطوري الذي لا ينتمي لقوانيين الجاذبية التي تحكم كوكبنا.. هو حسن غير نافع معرفيا وعلينا رميه جانبا.. فالأساطير شيء وعلم التاريخ شيء اخر مختلف تماما.. ما نحتاجه هو التعرف على الحسن التاريخي.. الحسن الذي يمتلك رأس ومعدة وجهاز تناسلي!!
واول ظهور لهذا الحسن "على الشاشة" نجده في "مشهد" حصار عثمان في المدينة.. في هذا المشهد نرى الحسن برفقه أخيه الحسين واقفا امام بيت عثمان لحمايته.. وانت عندما تعرف النهاية البشعة التي تم فيها قتل عثمان.. ستضحك على سذاجة هكذا رواية تنسف نهايتها المنطقية بدايتها "الروائية".. فقط ساذج يمكن ان يصدق مثل هكذا قصص أطفال.. نحن هنا امام مشهد وضعه كاتب سيناريو فاشل.. ونحن نمتلك كل المبررات المنطقية لوضع هذا المشهد في خانة المحاولات التوليفية المفبركة لاحقا.. بهدف ابعاد الشبهة عن أي دور لِـ عليّ في مقتل عثمان.. اما المشهد الثاني الذي يظهر فيه الحسن على "شاشة" التاريخ فهو برفقه عمار ابن ياسر ذاهبا للكوفة لطلب المدد قبل معركة الجمل.. بعد ذلك يختفي الحسن عن "شاشة الرادار" لسنوات.. ليظهر في الكوفة بعد مقتل ابيه.. وهنا نجد حسن الروايات المُتناطِحة التي عرضنا لها في المقال الاول.
وهذه المعلومات القليلة لا تمكننا من معاينة شخصية الحسن.. ولكننا نستطيع فعل ذلك باستخدام وسيلة معرفية أخرى.. نستطيع معاينة شخصية الحسن من خلال استحضار نسب الحسن.. فما هو اكيد ولا يختلف عليه اثنان.. هو كون الحسن "حفيد نبي" و"ابن خليفة".. نحن هنا امام معلومة غير قابلة للجدل.. ان تعرف ان الحسن كان "حفيد نبي" و"ابن خليفة" هي معلومة كافية من منظور التحليل النفسي لرسم "بورتريه" سايكولوجي للحسن.. فـَ كون الحسن "ابن بيوتات" يحتم وضع اجتماعي واقتصادي خاص.. وبالتالي نمط حياة محدد.. ونمط الحياة الاجتماعي والاقتصادي لشخص ما.. كما يعرف أي طالب سنة أولى في علم الاجتماع.. هو المحدد الاهم لطباع هذا الشخص.. قراءة سريعة لمفهوم الـ"هابيتوس" الذي طوره عالم الاجتماع بيير بورديو كفيلة بتوضيح ذلك.
ومن اجل ان لا نغوص كثيرا في اللغة الاكاديمية التي أضحت نوع من "الإرهاب الفكري" في زمن "تيكتوك" ومقتدى الصدر.. انظر من حولك وحاول ان تعثر على شاب عاش العقود الثلاثة الأولى من حياته بـِ دعة.. انظر من حولك وحاول ان تعثر على شاب كان يحصل على كل ما يريد بلا أدني عناء.. انظر من حولك وحاول ان تعثر على شاب عاش شبابه متنعما بإمكانيات "بابا".. تعال الان و صِفْ لي هذا الشخص!! انت هنا امام ابن مدلل لم يكن مضطرا لأدنى جهد للحصول على قوته.. نحن هنا امام شاب يمتلك بلادة الأبناء المدللين وشخصياتهم الهشة التي تفتقد للعزيمة ولروح المبادرة لأنها لم تحتك عمليا بالواقع الحياتي.. والحسن كان ينتمي لهذا الصنف من الشباب الذي كان يمتلك وقت فراغ كبير قضاه "عاطلا" عن العمل!! فهو لم يشارك في أي حرب من حروب "الفتح".. لا غرابة ان هذه الدعة انتجت سلوك اجتماعي مضطرب.. فالحسن ابن علي " كان كثير نكاح النساء" و"كان مطلاقاََ للنساء"، و"يقال انه أحصن سبعين امرأة وقيل سبعمئة وقيل ألف امرأة"!! ناهيك عن "ما ملكت ايمانه" من الإماء!! وهذه "السياحة" الجنسية كما تعرفون هي خصلة أبناء "الملوك" المدللين.. هذه "الاستهلاكية الجنسية" نجدها عند "أبناء الرؤساء" الذين يمتلكون المال والوقت وسيارات الـ "فيراري"!! و"فتوحات" الحسن الجنسية هذه هي كل ما يُعرف له من فتوحات.. باختصار.. الحسن ابن علي كان زير نساء.. "حدث غر لا علم له بالحرب".. هذا هو الحسن التاريخي.
تعال الان و ضَعّْ زير النساء هذا في الكوفة المتشظية التي عرضنا لها في المقال السابق.. تعال الان وضَعّْ هذه الشخصية الهزيلة سياسيا في الكوفة التي تركها له "بابا" بعد اربع سنوات من خلافة فوضوية.. تعال الان و ضَعّْ هذه الشخصية القلقة سايكولوجيا في كوفة "لا رأي لمن لا يطاع" التي لم تطع والده.. كوفة "لم يغلبني معاوية وانما حمقى القوم خذلوني".. الكوفة التي كان لإشرافها القول الفصل.. الكوفة التي كان فيها احياء كثيرة معارضة لعلي.. الكوفة التي كان تسكنها شرائح كثيرة تحمل ضغائن لـِ علي لأنه قتل وهجّر واضطهد اقاربهم.. ثم تعال بعد هذا وذاك و أضِفْ الى هذه المعْمعَة الكوفية جزئية "الخوارج احاطوا بأطرافه".. خوارج جاءوا يبحثون عن ثأر لمذبحة النهروان.. خوارج ظلوا خلال أربع سنوات ونيف "ينامون" على ظهور خيولهم او يفترشون العراء!! في الوقت الذي كان فيه الحسن "يُسَطِّر" فتوحاته الجنسية على فرش وثيرة!!
وعندما نقوم بتُصرّيف حاصل جمع كل هذه الضغائن والاحقاد سايكولوجيا.. عندها.. وعندها فقط.. سنفهم ما قاله لبيد بن زياد الجهضمي حين سأله أحدهم: أتحب عليا؟ فأجابه: كيف أحب رجلا قتل من قومي الفين وخمس مائة".. وما يقوله لبيد هذا.. يذكرنا بثابت سياسي تاريخي.. وهو ان كل اضطهاد يُولِّد احقاد وضغائن.. وهذه الأحقاد والضغائن تنتظر دائما الفرصة الملائمة للانتقام.. لن نفهم شيء مما جرى في الكوفة بعد اغتيال عليّ ما لم نأخذ بنظر الاعتبار هذه الاحقاد والضغائن والتي تشير كل الدلائل انها انفجرت اثناء فترة انتقال السلطة التي هي دائما أضعف فترة سياسية يمر بها نظام سياسي ما.. وهذا ما حاولت السردية الترقيعية "إخراجه" بمشهد الفوضى المتناقض.. مرة في المدائن عندما "انفر" الجيش بسبب اشاعة.. ومرة أخرى في الكوفة بذريعة أسخف وهي ان الحسن اغضب اهل الكوفة لأنه أراد صلح معاوية!!
كل الروايات التي وصلتنا بخصوص حدث انهيار الحسن تؤكد خبرين متواترين: الأول هو الفوضى.. والثاني هو طعن الحسن.. وهذا التواتر لا يترك لنا مجال للتشكيك بالخبرين.. من هنا أهمية الاجابة على سؤال: من طعن الحسن ولماذا قام هذا الشخص بطعن الحسن؟؟ فالإجابة على هذين السؤالين ستمكننا من معرفة هوية ودوافع هذا الشخص.. وهنا علينا استبعاد الروايات التي تقول لنا ان من طعنه هو أحد افراد جيشه في المدائن.. لأننا اوضحنا بما يكفي سخافة رواية تجيّش الحسن لجيش وذهابه للمدائن.. الفوضى حدثت في الكوفة وفعل الطعن ايضا.. وهنا سيتبقى لنا احتمالين: اما ان يكون الطاعن كوفي "مبايع للحسن" لم تعجبه خطبة الحسن التصالحية كما تقول لنا السردية الترقيعية.. وهذا ما لا يقبله عقل سليم ولا مبادئ علم الجريمة.. واما ان يكون "الطاعن" هو شخص كان يبحث عن انتقام لعزيز او قريب قتله او اضطهده "أبو الحسن".. وهذا الاحتمال الأخير اقرب للمنطق.. عندها سنكون امام فرضيتين.. اما ان يكون هذا الشخص من الخوارج الذين احاطوا بالكوفة وحاول اغتيال الحسن انتقاما لمذبحة النهروان (على شاكلة ابن ملجم).. او شخص من سكان الاحياء الكوفية المعارضة لـ عليّ استغل فترة انتقال السلطة المتوترة وحاول اغتيال الحسن انتقاما لعزيز او قريب اضهده "أبو الحسن".. علما ان هناك روايات جانبية تقر بأن من طعن الحسن هو خارجي.
يبقى سؤال تسلسل او تتابع هذين الحدثين.. السردية الترقيعية تقول لنا ان طعن الحسن حصل بعد حدوث الفوضى.. وهي بذلك تضع العربة امام الحصان.. لان الدلائل التي بحوزتنا تدفعنا لعدم استبعاد فرضية ان الحسن تعرض لمحاولة اغتيال بعد أيام من إستخلافه.. وظل طريح الفراش لأسابيع (وجزئية بقاء الحسن طريح الفراش لأسابيع نجدها في روايات كثيرة).. وهنا حصل فراغ في السلطة.. وفراغ السلطة هذا أنتج الفوضى.. بتعبير اخر ان فراغ السلطة الذي تبع طعن الحسن هو الذي انتج الفوضى.. وعلينا هنا ان لا نتردد في استحضار الحاضر لفهم الماضي وتقريب الصورة ذهنيا.. تحت نفس الظروف التاريخية البشر يتصرفون بنفس الكيفية.. فراغ السلطة في بغداد بعد سقوط نظام صدام.. إثر الاحتلال الأمريكي.. أنتج فوضى عارمة تم خلالها سرقة "بساط" صدام و"متاعه"!! وكل ما في المعطيات التي بين أيدينا يدفعنا لتصور سيناريو مشابه شهدته الكوفة آنذاك.. اغتيال عليّ ابن ابي طالب من قبل الخوارج ترك الكوفة في توتر أمني بحيث ان الحسن لم يجرؤ على دفن جثة والده في وضح النهار.. وفي هذا الجو المتوتر امنيا.. يتعرض الحسن لمحاولة اغتيال فاشلة تركته طريح الفراش لأسابيع.. وهذا قد أنتج فراغ سلطة في كوفة متشظية اجتماعيا وسياسيا.. نحن هنا امام كل الشروط الموضوعية المنتجة لظاهرة الفوضى.
باختصار.. كل ما تقدم عرضه يدفعنا لفرضية ان الكوفة بعد سقوط "نظام" علي بن ابي طالب عاشت نفس الفراغ السياسي والفوضى التي انتجت ظاهرة "الحواسم" التي شهدتها بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين.. وتناقض الروايات بشأن ما تم سرقته من الحسن: متاع او اموال او ما هو أسخف بساط فقط (لاحظ عزيزي "المشاهد" تقشف الحسن!!).. كل هذه الدراما الفلمهندية لا يجب ان تشغلنا عن المهم.. فالمهم هنا هو ليس نوعية الشيء المسروق وانما فعل السرقة.. والسرقة في سياق السردية الترقيعية هي كناية لظاهرة "حواسم" مخجلة شهدتها الكوفة.. نحن هنا امام اشاره مستحية لفوضى عارمة تم خلالها نهب وسلب كل ما "خف حمله وغلى ثمنه".. كما حصل في بغداد التي استبيحت ونُهبت بشكل مخجل من قبل "حرافيشها".
وعليك ان تعيش ذهنيا هذا الانفلات الأمني والفراغ السياسي لتفهم مبادرة اشراف الكوفة بالتواصل مع معاوية: "أرسلوا اليه الكتب ينبئونه بضعف الحسن وانتثار امره واختلاف الناس عليه".. عُلْية القوم.. كما في كل زمان ومكان.. لا يحبون الفوضى.. بين "حصبة" الفوضى و"جدري" الخوارج.. اختار اشراف الكوفة "لقاح" معاوية!! ولا تحتاج بعد ذلك لخيال واسع لتفهم ما حصل بعد ذلك.. معاوية يدخل الكوفة بحلمه المعهود.. يُعيد الامن والنظام فيلتف حوله من يحبون الامن والنظام.. يطرد الخوارج.. ثم يعطي الحسن "ألف ألف" ويرسله للمدينة "معززا مكرما".. هكذا خرج الحسن من مسرح التاريخ.. متقاعدا في المدينة.. براتب تقاعدي وقدره "ألف ألف"!! كان يستلمه كل عام من معاوية.. ومع هذا اليسر والدعة استمر الحسن بـِ"فتوحاته" المعهودة (برفقه ابن عمه الباذخ عبدالله ابن جعفر راعي المطربين والمطربات)!! من شب على شيء شاب عليه!!
وكل الروايات والمقولات المتناقضة التي تتحفنا بها السردية الترقيعية لتبرير "تقاعد" الحسن عن الخلافة.. من مثل الرواية التي تتحدث عن شروط مالية اشترطها الحسن مقابل التنازل عن الخلافة لمعاوية!! (وهذا تحريف لا يخفى على عاقل لكرم معاوية.. لان المهزوم لا يملك رفاهية الاشتراط).. او المقولة التي يظهر فيها الحسن مقتدرا يتنازل لوجه الله: "كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجه الله وحقن دماء المسلمين"!! (التي تنطح منطقيا مقوله أخرى للحسن فيها معنى الخذلان والهزيمة " يا اهل العراق، انه سخّى بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم ابي، وطعنكم ايايّ، وانتهابكم متاعي"!!) كل هذا الاستحمار الفكري ما هو الا "تاريخ بلاغي" مفبرك تحاول فيه بهرجة اللغة الالتفاف على عنق المنطق وخنقه.. اما حديث "ان ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين"!! والذي تعط منه رائحة الفبركة المتأخرة.. فهو محاولة فاشلة لإعادة كتابة التاريخ من منظور وعظي ضمن إطار مفهوم "الجماعة" الذي تم انتاجه في العصر العباسي لأغراض سياسية.