بغداد شارع طويل .. شارع الرشيد .. اقدم شوارع بغداد .. هو اروعها .. هو الان شارع يحتضر كبغداد.. بغداد المدينة الحديثة ولدت ، ثقافيا و سياسيا ، في بدايات هذا الشارع .. جهة ساحة الميدان .. مظاهرات ثورة العشرين انطلقت من جامع الحيدرخانه .. اشهر مظاهرات العهد الملكي ضد الانكليز ايضا مرت من هنا .. ذات "رجعية" !! حين كان الاختلاف السياسي يظهر ويتظاهر في الشارع علنا .. "التقدميات" التي اسقطت تلك "الرجعية" جعلت من اقبية السجون المكان الوحيد الذي يظهر فيه الاختلاف السياسي ويغيب للابد !! المدينة ليست عمرانا فقط .. المدينة سلوكية لم تعرفها "تقدميات" الارياف التي زحفت تشويها للمدينة .
في بداية شارع الرشيد، جهة ساحة الميدان، هناك الكثير من المقاهي .. بلا شك هي البقعة التي تحوي اكبر عدد من المقاهي في العراق .. مقاهي الزهاوي ، حسن عجمي ، والشابندر هي اشهرها بفضل مرتاديها من المثقفين.. ولكن هناك مقهى اخر اقل حضوة عند المثقفين ..هو مقهى ام كلثوم .. كنا نسميه "مقهى السيدة" تحببا او "السيدة" فقط .. مقهى السيدة لم يكن يشبه المقاهي القريبة منه.. ففيه صوت السيدة يشجو من الصباح وحتى المساء .. وما عدا ذلك فهو مقهى بسيط .. جدران زاد دخان السكائر من بنيتها، تتناثر عليها صور السيدة ومقالات الصحف العراقية عن المقهى وصاحبه الذي يحتفظ بتسجيلات نادرة للسيدة .. وهناك ايضا صور قديمة لصاحب المقهى برفقة ام كلثوم.
عندما ابحث في ذاكرتي عن بداية علاقتي بمقهى السيدة .. اجدني برفقة صديق طفولة يكبرني ببضعة سنوات وكان يرتاد المقهى آنذاك .. سادعوه هنا "ميم" .. ميم هذا هو كردي بغدادي .. استذكر اسمه الان واستحضر اسماء اخوته .. فتنتابني مشاعر متضاربة .. قلة من اصدقائي العرب يحملون اسماء تغوص في عمق تاريخ العرب بهذا الالحاح .. اسم ابيهم ايضا قادم من طفولة الحرف العربي .. الكثير من الاكراد يحملون اسماء عربية اسلامية .. اعرف ذلك .. ولكن ان تكون كرديا وتحمل اسماء عربية تعود لما قبل الاسلام !! لا اعتقد انني طرحت على ميم مثل هذا السوأل .. وهل نطرح مثل تلك الاسئلة على اصدقاء تعودنا على ملامح وجوههم منذ الطفولة ؟ لم نكن نعطي تلك الاشياء هذه الاهمية التي تأخذ اليوم .. الاصل، الهوية هي مفردات سياسة ونحن كنا "مجتمع" .. المجتمع العراقي كان اكثر وعيا وتسامحا من ساسته في مسألة الهوية .. من كل ساسته .. القدامى وخصوصا الحاليين الذين يدمرون العراق بطائفيتهم المريضة.
في نهاية سنوات الاعدادية جلست بضعة مرات على مقاعد مقهى السيدة الخشبية .. كنت اذهب لرؤية ميم هناك .. لم يكن يعجبني مقهى السيدة في تلك الايام .. ما كان يستهويني انذاك في تلك البقعة من بغداد هو شارع / سوق ، لايبعد اكثر من مئتي متر عن مقهى السيدة .. شارع المتنبي .. "بورصة" الكتاب العراقي وسوقه الاروع .. هناك كنت اذهب احيانا برفقة بعض الاصدقاء .. وما ان ننتهي من شارع المتنبي حتى نضيع مشيا في شارع الرشيد .. صيادون في شارع "طويل".. وصولا لشارع السعدون .. عندها ندخل الى مطعم ما لنأكل ونستريح قليلا .. ونخرج بعدها لنرمي اجسادنا المتعبة على مقاعد سينما سميراميس.
عندما التحقت بجامعة بغداد / باب المعظم .. اصبحت اتردد اكثر على مقهى السيدة .. قرب المكان من الجامعة ..بعض اصدقاء الجامعة من طلاب المحافظات كان يسكن قريبا من المقهى ايضا .. وهو قد اصبح في تلك الايام العنوان الدائم لميم .. كنت اذهب برفقة مجموعة من اصدقائي الطلاب .. لم نكن من "سميعة" السيدة .. نادرا ما كنا نسمع ما تقوله السيدة .. واذا سمعنا وتفاعلنا فمع اغنياتها المتأخرة .. تلك التي وزعت الحانها بآلات غربية .. سهلة التقبل لنا نحن اطفال اذاعة "اف ام" بغداد و"اوكسجين" جان ميشيل جار.. كنا نضيع في نقاشات الطلاب التي لاتنتهي.. وما ان تنتهي حتى نضيع في لعبة الطاولي وضجتها المصاحبه لرهاناتها .. الخاسر كان يدفع "الشايات" كالعادة .. رائعة عصريات تلك الايام رغم كل شيء.
البعض كان يعتبر مقهى السيدة مقهى شعبي وفيه بعض "سوقية" .. انا كنت ولا زلت احب "الشعبي" ولم تزعجني "سوقية" مقهى السيدة .. السيدة كانت "سوق" سوسيولوجي لكل شرائح المجتمع العراقي .. من العامل البسيط مرورا بسائقي الباصات العاملون في محطة/كراج الميدان للباصات القريب .. وللعاطلين عن العمل.. وللجنود وحتى للفرارية .. ولطلبة الجامعات .. ولطلبة اكاديمية الفنون الجميلة /قسم الرسم المتصيدين لوجوه رواد المقهى .. واحد من اقرب اصدقائي كان من هولاء .. جواد سليم علمهم حب "الشعبي" .. نكهة "السيدة" قياسا لمقهى الشابندر الخاص بالمثقفين تكمن هنا .. ثلاثمئة متر تقريبا تفصل ما بين مقهى الشابندر ومقهى السيدة .. وعالم من الواقع لم تعرفه "ثقافة" الشابندر المسافرة غالبا في الماضي ..عندما يتحول الماضي الى اسطورة يصبح الحاضر مبتذل.. شعبي.
في مقهى السيدة التي كان يملكها عبد المعين الموصلي / شيخ وقور يجلس بصمت ازلي خلف طاولة تمتلئ باسطوانات السيدة وجهازي الغرامافون العتيقين .. كان هناك تقليد/ اتفاق ضمني مع شيخوخة عبد المعين .. عندما تنتهي اسطوانة ما .. يقوم رواد المقهى القدامى/ "السميعة" بتغييرها ووضع اسطوانة اخرى .. وهولاء يفضلون غالبا اغاني السيدة الشرقية القادمة من عصر ما قبل "امبريالية" الآله الغربية التي "استولت" على حنجرة السيدة بقيادة "الجنرال" عبد الوهاب .. "سَميعة" السيدة كانوا يفضلون السنباطي شيخا لهم .. ارتياد مقهى السيدة ، وبمرور الوقت، جعلنا نستبطن بلا وعي موسيقى السنباطي .. اصبحنا ومن دون دراية "ميلومانات" لموسيقى السنباطي.
يبدو ان تلك البقعة من بغداد قد اصبحت شبه مقفرة الان .. ويبدو ان شارع الرشيد قد فقد معالمه وخطوات محبيه .. كما هو حال عموم شوارع بغداد .. الى متى ستصمد السيدة في عصر اللطمية هذا .. سيكون من الرائع ان تستمر في الغناء في مثل تلك الظروف.
رائعة "غُلبت اصالح في روحي" في شتاء بغدادي مع استكان شاي وبرفقة "شلة العباقرة" .. "ميم" كان يعشق موسيقى "حديث الروح" .. السنباطي صوفياً .
في بداية شارع الرشيد، جهة ساحة الميدان، هناك الكثير من المقاهي .. بلا شك هي البقعة التي تحوي اكبر عدد من المقاهي في العراق .. مقاهي الزهاوي ، حسن عجمي ، والشابندر هي اشهرها بفضل مرتاديها من المثقفين.. ولكن هناك مقهى اخر اقل حضوة عند المثقفين ..هو مقهى ام كلثوم .. كنا نسميه "مقهى السيدة" تحببا او "السيدة" فقط .. مقهى السيدة لم يكن يشبه المقاهي القريبة منه.. ففيه صوت السيدة يشجو من الصباح وحتى المساء .. وما عدا ذلك فهو مقهى بسيط .. جدران زاد دخان السكائر من بنيتها، تتناثر عليها صور السيدة ومقالات الصحف العراقية عن المقهى وصاحبه الذي يحتفظ بتسجيلات نادرة للسيدة .. وهناك ايضا صور قديمة لصاحب المقهى برفقة ام كلثوم.
عندما ابحث في ذاكرتي عن بداية علاقتي بمقهى السيدة .. اجدني برفقة صديق طفولة يكبرني ببضعة سنوات وكان يرتاد المقهى آنذاك .. سادعوه هنا "ميم" .. ميم هذا هو كردي بغدادي .. استذكر اسمه الان واستحضر اسماء اخوته .. فتنتابني مشاعر متضاربة .. قلة من اصدقائي العرب يحملون اسماء تغوص في عمق تاريخ العرب بهذا الالحاح .. اسم ابيهم ايضا قادم من طفولة الحرف العربي .. الكثير من الاكراد يحملون اسماء عربية اسلامية .. اعرف ذلك .. ولكن ان تكون كرديا وتحمل اسماء عربية تعود لما قبل الاسلام !! لا اعتقد انني طرحت على ميم مثل هذا السوأل .. وهل نطرح مثل تلك الاسئلة على اصدقاء تعودنا على ملامح وجوههم منذ الطفولة ؟ لم نكن نعطي تلك الاشياء هذه الاهمية التي تأخذ اليوم .. الاصل، الهوية هي مفردات سياسة ونحن كنا "مجتمع" .. المجتمع العراقي كان اكثر وعيا وتسامحا من ساسته في مسألة الهوية .. من كل ساسته .. القدامى وخصوصا الحاليين الذين يدمرون العراق بطائفيتهم المريضة.
في نهاية سنوات الاعدادية جلست بضعة مرات على مقاعد مقهى السيدة الخشبية .. كنت اذهب لرؤية ميم هناك .. لم يكن يعجبني مقهى السيدة في تلك الايام .. ما كان يستهويني انذاك في تلك البقعة من بغداد هو شارع / سوق ، لايبعد اكثر من مئتي متر عن مقهى السيدة .. شارع المتنبي .. "بورصة" الكتاب العراقي وسوقه الاروع .. هناك كنت اذهب احيانا برفقة بعض الاصدقاء .. وما ان ننتهي من شارع المتنبي حتى نضيع مشيا في شارع الرشيد .. صيادون في شارع "طويل".. وصولا لشارع السعدون .. عندها ندخل الى مطعم ما لنأكل ونستريح قليلا .. ونخرج بعدها لنرمي اجسادنا المتعبة على مقاعد سينما سميراميس.
عندما التحقت بجامعة بغداد / باب المعظم .. اصبحت اتردد اكثر على مقهى السيدة .. قرب المكان من الجامعة ..بعض اصدقاء الجامعة من طلاب المحافظات كان يسكن قريبا من المقهى ايضا .. وهو قد اصبح في تلك الايام العنوان الدائم لميم .. كنت اذهب برفقة مجموعة من اصدقائي الطلاب .. لم نكن من "سميعة" السيدة .. نادرا ما كنا نسمع ما تقوله السيدة .. واذا سمعنا وتفاعلنا فمع اغنياتها المتأخرة .. تلك التي وزعت الحانها بآلات غربية .. سهلة التقبل لنا نحن اطفال اذاعة "اف ام" بغداد و"اوكسجين" جان ميشيل جار.. كنا نضيع في نقاشات الطلاب التي لاتنتهي.. وما ان تنتهي حتى نضيع في لعبة الطاولي وضجتها المصاحبه لرهاناتها .. الخاسر كان يدفع "الشايات" كالعادة .. رائعة عصريات تلك الايام رغم كل شيء.
البعض كان يعتبر مقهى السيدة مقهى شعبي وفيه بعض "سوقية" .. انا كنت ولا زلت احب "الشعبي" ولم تزعجني "سوقية" مقهى السيدة .. السيدة كانت "سوق" سوسيولوجي لكل شرائح المجتمع العراقي .. من العامل البسيط مرورا بسائقي الباصات العاملون في محطة/كراج الميدان للباصات القريب .. وللعاطلين عن العمل.. وللجنود وحتى للفرارية .. ولطلبة الجامعات .. ولطلبة اكاديمية الفنون الجميلة /قسم الرسم المتصيدين لوجوه رواد المقهى .. واحد من اقرب اصدقائي كان من هولاء .. جواد سليم علمهم حب "الشعبي" .. نكهة "السيدة" قياسا لمقهى الشابندر الخاص بالمثقفين تكمن هنا .. ثلاثمئة متر تقريبا تفصل ما بين مقهى الشابندر ومقهى السيدة .. وعالم من الواقع لم تعرفه "ثقافة" الشابندر المسافرة غالبا في الماضي ..عندما يتحول الماضي الى اسطورة يصبح الحاضر مبتذل.. شعبي.
في مقهى السيدة التي كان يملكها عبد المعين الموصلي / شيخ وقور يجلس بصمت ازلي خلف طاولة تمتلئ باسطوانات السيدة وجهازي الغرامافون العتيقين .. كان هناك تقليد/ اتفاق ضمني مع شيخوخة عبد المعين .. عندما تنتهي اسطوانة ما .. يقوم رواد المقهى القدامى/ "السميعة" بتغييرها ووضع اسطوانة اخرى .. وهولاء يفضلون غالبا اغاني السيدة الشرقية القادمة من عصر ما قبل "امبريالية" الآله الغربية التي "استولت" على حنجرة السيدة بقيادة "الجنرال" عبد الوهاب .. "سَميعة" السيدة كانوا يفضلون السنباطي شيخا لهم .. ارتياد مقهى السيدة ، وبمرور الوقت، جعلنا نستبطن بلا وعي موسيقى السنباطي .. اصبحنا ومن دون دراية "ميلومانات" لموسيقى السنباطي.
يبدو ان تلك البقعة من بغداد قد اصبحت شبه مقفرة الان .. ويبدو ان شارع الرشيد قد فقد معالمه وخطوات محبيه .. كما هو حال عموم شوارع بغداد .. الى متى ستصمد السيدة في عصر اللطمية هذا .. سيكون من الرائع ان تستمر في الغناء في مثل تلك الظروف.
رائعة "غُلبت اصالح في روحي" في شتاء بغدادي مع استكان شاي وبرفقة "شلة العباقرة" .. "ميم" كان يعشق موسيقى "حديث الروح" .. السنباطي صوفياً .
Salam Kareem,,
ردحذفwhat a Beaaautiful article ,, thank u so much,, i was back in time to the days of Bab el Moadham and Baghdad University,, yr words took me there ,, i was walking in the old streets of al Rasheed and al Motanabbee, Sough el Sarai, all the beautiful and wonderful streets of our Baghdad..
u have an amazing way of taking us there back in time,, to visit and re-live the wonderful times we miss terrible now..
even the word (Asreya) touched my heart deeply,, i dont know why this time of day (al - aser) with its wonderful rituals is so different in baghdad than any other place..
u made me feel once more how much i miss Baghdadna,, the one city that i adore..
such a beauuutiful article,,i felt it was actually a painting of baghad..
ashat eedak alef marra.. we salemat yadak..