كنت اعتقد حتى وقت قريب ان أفضل من كتبوا عن العراق وعن "المجتمع " العراقي هُم من غير العراقيين .. ولكن يبدو ان هناك استثناء : شاكر مصطفى سليم ودراسته عن قرية الجبايش في الاهوار .. دراسة شاكرمصطفى سليم عن الجبايش هي اول دراسة انثربولوجية منهجية احصائية في العراق .. وهي "دراسة ميدانية" في الجبايش امتدت من 2 كانون الثاني عام 1953 حتى نهاية شهر ايلول من نفس السنة .. تسعة اشهر بحث ميداني وفي قرية نائية وفي خمسينات العراق .. مدهش .
حدث ذلك ذات "رجعية" .. وقبل ان تتسلق "تقدميات الارياف" اسوار المدينة وتغتال المدينة وجامعتها تدريجيا .. هذه الدراسة تشير وبطريقة غير مباشرة الى "الممكن" الهائل الذي كان يمكن مراكمته علميا وثقافيا .. ما الذي يمكن قراءته اليوم من "ادبيات" الحزب الشيوعي العراقي كوثيقة سوسيولوجية عن العراق !! لا شيء .. "ادبيات" كلمة كبيرة حتى ..شعارات او هوسات هو وصف ادق واصدق .. خصوصا اذا علمنا ان "الرفيق" فهد كان يسرق من "ادبيات" الحزب الشيوعي السوري .. حتى شعار "وطن حر وشعب سعيد" هو شعار مسروق من الحزب الشيوعي السوري .. يبدو ان "الامبريالية" لم تكن وحيدة في سرقة جهود الاخرين !!
هل هي مصادفة ان "رجالات" الشيوعية العراقية موزعين اليوم بين خدمة البسطال الامريكي .. وخدمة ما كانوا يسمونها حتى وقت قريب "صحف البترودولار" .. اقول هذا وانا استحضر مقال فالح عبد الجبار قبل اسبوعين "عن العروبة والعرب" في الحياة السعودية .. لطيف ان يُصفي شيوعي سابق حساباته مع القوميين على صفحات جريدة "بترودولارية" .. والادهى انه شيوعي يريد اليوم ايقاظ العروبة من سباتها !! لم لا .. كوندليزا رايس ايضا تريد ذلك من اجل مواجهة ايران كما قالت قبل اسابيع !! في هذه المقالة يعيب فالح عبد الجبار على ساطع الحصري انتقاله "بعد الحرب العالمية الاولى من فكرة الجامعة الاسلامية، الى الجامعة العربية، في رداء علماني" .. انا اعتقد ان المسافة بين الاسلام والعروبة ليست شاسعة .. وحتما هي ليست انتقالة شاذة او غير منطقية خصوصا اذا ما قارناها بانتقالة فالح عبد الجبار من الشيوعية الى الليبرالية البتروامريكية !! الى الامام رفيق !
وعود على بدء.. عودة الى من خدموا العراق وليس الاتحاد السوفيتي .. عودة الى من حاولوا فهم "الارض" ومشاكل الارض قبل تغييرها .. الارض العراقية التي قتلها قانون الاصلاح الزراعي الشيوعي لانه قانون تم فرضه وتطبيقه بعقلية "الفزعة" .. عودة الى من انتظر خمسة اشهر .. فقط لكي ينال ثقة اهالي قرية الجبايش ..عودة الى شاكر مصطفى سليم .
اول ما يثير الانتباه في كتاب شاكر مصطفى سليم هو الوضوح .. وضوح في البنية ، وضوح في المنهج ووضوح في الاصطلاح ..الفصل الاول من كتاب سليم مخصص لـ"ظروف وميادين الدراسة".. الفصل الاول هو جولة في "مطبخ" سليم حيث يشرح لنا طريقة اعداده لدراسته : لماذا اختار قرية الجبايش وليس قرية اخرى .. ظروف اقامته الطويلة والشاقة وصراعه مع البعوض النهم ..اساليب جمع المعلومات ومرامي الدراسة .. وكيف ان الحكومة لم تسمح له بالاطلاع على بعض الملفات "السرية" رغم محاولاته المتكررة وجهوده للحصول عليها في بغداد .. وكيف انه منع في ربيع 1953 من الذهاب الى الى منطقة معينة في اهوار العمارة بسبب اضطرابات ومصادمات بين الفلاحين والشيخ الخ .. باختصار نحن امام شرح مفصل قل نظيره للاجرائية التي تمت بها الدراسة .
مثل هكذا وضوح اجرائي غائب تماما عن اغلب الاعمال العراقية التي تطرقت لدراسة المجتمع العراقي .. هناك ايضا عند سليم تسجيلية هائلة لانجد لها مثيل عند على الوردي مثلا .. سليم يُشبع الظواهر الاجتماعية التي يتطرق لها وصفا .. وهو لا "يخبزها" كما يفعل علي الوردي الذي يتطرق لظاهرة محلية ما، والادهى انه يعممها على العراق، مستندا في احيان كثيرة على "قال لي فلان " او سمعت من فلان".. هذا الفرق بين الوردي وسليم يجد اسبابه في المنهج الذي يتبعان في دراستيهما .
دراسة سليم الميدانية تعتمد على الطريقة الاحصائية ..وتتبع قواعد عمل محدد تنتمي الى مدرسة انثربولوجية رصينة .. في حين ان الوردي في كتابة "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"يقول باستحالة اجراء دراسة ميدانية احصائية في العراق .. وحجته هو ان "المجتمع العراقي هو غير المجتمع الامريكي" ويضيف ان "اوساط العامة" كما يسميهم " اذا رأوا افنديا قادما اليهم وبيده قلم ودفتر حسبوه قد جاءهم لجباية الضريبة او التجنيد او لسوقهم الى الحبوس . وهم قد اعتادوا ان يكذبوا في جوابهم له بشتى الطرق خشية ان يصيبهم مكروه " كما يقول في مقدمة كتابه هذا .. دراسة شاكرمصطفى سليم عن الجبايش تكذب تبرير الوردي هذا .
ليس فقط ان سليم قد اجرى تلك الدراسة في قرية نائية ولكنه بقى هناك تسعة اشهر منها خمسة اشهر فقط لكي ينال ثقة اهل القرية .. وهو قد سبق "دراسة" الوردي بعشر سنوات تقريبا .. دراسة سليم بالطبع لم تخلو من تلك الصعوبات التي يبرر بها الوردي عدم قيامة بدراسة ميدانية احصائية .. سليم يتحدث مطولا عن تلك الصعوبات .. ولكنه يستعين بتقنيات طورتها العلوم الانسانية من اجل استحصال الاجابات وفرزها وتحليلها من اجل دقة اكبر .. المشكلة التي يطرحها الوردي هي مشكلة معروفة في البحث الميداني الذي يعتمد على الطريقة الاحصائية .. وكل باحث سوسيولوجي يقوم بهكذا دراسة وفي أي بلد في العالم سيواجه تلك الصعوبات وخصوصا مسألة عدم قول "الحقيقة" .. عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو مثلا يتكلم عن تلك المشكلة كثيرا وهو كان يجري بحوثه في فرنسا السبعينات والثمانيات والتسعينات .. ولكن ذلك لم يدفعه الى تقديم التبريرات والاحكام التحقيرية من مثل "الفرنسي كذاب" كما يفعل على الوردي بخصوص كذب "عامة" العراقيين مبررا كسله البحثي .
دراسة سليم تنطلق من منهجية انثربولوجية تقتضي اختيار عينة صغيرة / مجموعة صغيرة لدراستها .. "فهم" تلك المجموعة يساعد في تسليط ضوء اكبر على المجتمع ككل .. ليس لان تلك المجموعة تمثل المجتمع ككل .. ولكن لانها تساعد على فهم المجموعات الاخرى وبالتالي المجتمع من خلال ابراز التناقض الموجود بينهما.. فرغم ان الجبايش لاتختلف عن باقي قرى الاهوار الاخرى في كثير من نواحي الحياة ولكنها كما يقول شاكر مصطفى سليم في مقدمة كتابه "تختلف في حياتها الاقتصادية اختلافا اساسيا عن بقية قرى الاهوار في العراق. فسكانها يعتمدون في الجزء الاكبر من موارد حياتهم على جمع القصب وحياكة الحصر التي يصدرونها خارج قريتهم، وهم بذلك يختلفون عن البقية الساحقة من سكان الاهوار الذين يعيشون على الزراعة ورعي الجاموس وتربية المواشي .
منهج سليم الانثربولوجي هذا يدلنا على ضعف اخر في "حكواتية" على الوردي .. ففي مقدمة "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" يرد الوردي على من انتقدوه بخصوص تركيزه على العراق وليس على الوطن العربي بالقول :" كيف يمكن دراسة المجتمع الكبير من غير دراسة الاجزاء الصغيرة منه كل على حده..( ص.8) .. وهذه حجة وان كانت تخفي موقف سياسي (على الوردي "عراقوي" سياسيا ) ولكنها حجة مقبولة علميا.. فمن غير الجائز معرفيا تحييد فرضية "علمية" من خلال "ضربها" بحجة سياسية .
نعم دراسة الاجزاء ضرورة لفهم الكل كما يقول الوردي ( رغم ان السوسيولوجيا الحديثة تجاوزت ثنائية الاسنتاجي/ الاستقرائي وتؤكد على اهمية الطريقتين ) ..ولكن ما لم يقله لنا على الوردي هو كيف تمكن هو ان يدرس " المجتمع العراقي" ويعمم فرضيات كثيرة عنه من دون حتى ان يقوم بدراسة أجزاءه او مكوناته الصغيرة ؟؟ هنا تكمن هشاشة الحجة الوردية .. هو يدعو لدراسة الاجزاء الصغيرة من اجل فهم الكبير (الطريقة الاستقرائية كما يسميها) ولكنه فيما يخص العراق يفهم "الكبير العراقي" من دون ان يقوم بدراسة أجزائه الصغيرة المكونة ( وهو بذلك يتبع الطريقة الاستنتاجية التي يعيبها على منتقديه) وهذا يدلل على ان موقف الوردي هنا هو موقف "جدلي" اكثر منه علمي ..( مما يثبت ان وراء حجة الوردي هذه موقف سياسي وليس ابستمولجي) .. ليس مستغربا بعد ذلك ان الوردي يستخدم تعبيرات "المجتمع العراقي" او "الفرد العراقي" كتحصيل حاصل رغم هشاشتهما الاصطلاحية .
كارثة ان علي الوردي الذي اشاع عدد كبير من الاحكام العامة والكليشات المتداولة اليوم في افواه انصاف المتعلمين ، لم ينفذ ولا حتى دراسة ميدانية واحدة بخصوص المجتمع الذي يدرس.. في وقت كانت الظروف السياسية (وهي المعوق الحقيقي ) تسمح بذلك .. الوردي يقول لنا "ان اصح طريقة لدراسة المجتمع العراقي هي تلك التي جاء بها العالم الالماني المعروف ماكس فيبر. وهي التي تعتمد على "التفهم" وتكوين المثال النموذجي" .. ولكنه لايقول لنا لا كيف يقوم فيبر بذلك ولا حتى كيف كوّن هو "مثاله النموذج" عن المجتمع العراقي .. الادهى هو ان الوردي لم يستند الى كتب ماكس فيبر بهذا الخصوص وانما الى كتاب بارنز "تاريخ علم الاجتماع" !! بمعنى ان قراءته هي قراءة لقراءة لماكس فيبر !! وهذا يذكرني بقول احد المختصين الفرنسين بالشان العراقي من ان قراءة الوردي لابن خلدون هي بالاحرى قراءة لقراءة "مفسرين" غربيين .. وهو يقول لنا ان اهتمام على الوردي بابن خلدون قد تجسد في الجامعة الامريكية حيث كرس رسالته للدكتوراه عن ابن خلدون .. انذاك كانت النظرية "الثقافوية" هي النظرية السائدة في الجامعة الامريكية.
اذا فالاختلاف الاجرائي وبالتالي الاسلوبي بين الدراستين هو في الاصل اختلاف منهجي .. شاكر مصطفى سليم تشرّب منهجية المدرسة الانثربولوجية البريطانية الصارمة وفحواها الاجرائي (كنت هناك ..شاهدت ..فسجلت ) .. في حين ان الوردي قد تشرّب النظرة الباثولوجية للمشاكل الاجتماعية والتي كانت سائدة في الجامعة الامريكية في الثلاثينات والاربعينات والخمسينات من القرن الماضي .. تركيز الوردي على باثولوجية / مرضية "الفرد العراقي" و"المجتمع العراقي" هو من مخلفات هذا المنظور الباثولوجي للمشاكل الاجتماعية .. اما الطريقة الاحصائية التي هي اهم ما يميز السوسيولوجيا الامريكية (بالاحري "مدرسة شيكاغو" وعلى الوردي درس في جامعة تكساس ) فهو قد "رفسها" بتبرير ميل "عامة" العراقيين الى الكذب !
عندما نضع دراسة شاكر مصطفى سليم مقابل "دراسة" علي الوردي فان دراسة سليم تبز "دراسة" الوردي منهجيا واجرائيا واصطلاحيا .. لا بل ان قراءة كتاب الجبايش تضعنا بسهولة امام حقيقة ان شاكر مصطفى سليم قد انتج بكتابه هذا افضل دراسة انثربولوجية في "اللغة العربية".. ومع ذلك فهو لم ينل شهرة على الوردي .. هو معروف في اوساط المختصين .. ولكنه غير معروف عند الجمهور العريض .. "السوسيولوجيا العفوية الساذجة" للوردي والمحملة بالكليشات السائدة في المجتمع تجعلة اسهل قراءة .. خصوصا وهو يقدم "محكية" شاملة وبسيطة .. والمحكيات الشاملة مريحة ذهنيا للباحثين عن شرح بسيط للمعقد .. ومثل تلك المحكيات تنجح في ثقافة يسيطر عليها الشعراء "البزاخة" والحكواتية .. ليس غريبا ان الوردي تحول الى صنم في جمهورية عبدة "الاصنام" والمقابر .. في مملكة العميان الاعور ملك !
ولكن .. منذ متى كانت الشهرة معياراً للنوعية .. فـَ سوزان تميم مشهورة .. ومقتدى الصدر مشهور !! والقائمة تطول ..يكفي شاكر مصطفى سليم شهادة حنا بطاطو .. بطاطو لم يشر الى أي من كتب على الوردي الكليشاتية !! ولكن بطاطو يأسف لعدم وجود دراسات عن المجتمع العراقي كدراسة "الجبايش" .."الجبايش" كانت اطروحة دكتوراه .. وشهادة حنا بطاطو هي بمثابة دكتوراه فخرية .. تحية "استاد" شاكر .
الكل يكذب انها فرضية تنطبق على كل البشر انا افترض هذا فقط من اجل الحصول على معلومات ادق !.
ردحذفلكن اغلب الدراسات الاكادمية في العراق تنطلق من خلال ادوات العلم كطريقة المقابلة او الاستبيان ، مشكلة هذه الدراسات انها تنطلق وتتناغم مع الدراسات العالمية دون النظر لاختلاف المجتمع في طريقته للأجابة ، المجتمع العراقي يخلق صورة جميلة عن نفسه دوما ، الباحث الاجتماعي حينما يزور عائلة عراقية من أجل دراستها ، لن يأخذ منها سواء امور بسيطة واغلب ما يصرحون به فهو مخالف للواقع ، فالاب وخلافه مع الابن يتحول ارقى نوع من العلاقة المثالية والاحترام المتبادل ، كذلك الامر مع الأبناء وعلاقاتهم ببعض .
أعرف اب يتحدث عن ابنه دوما بكل خير ، حتى تبين لي مؤخرا بانهم على قطيعة منذ سنوات !.
واعرف بنت تتمرد على امها وتخالف تعلمياتها ، البنت تصف علاقتها بامهما مثالية الى ابعد حد !.
لهذا فاغلب الدراسات الاكادمية سواء الاجتماعية أو الانسانية لن تعكس الواقع بل هي انعكاس للصورة الجميلة التي خلقها الناس عن انفسهم ، كلنا نعلم بان الناس تحب ان تتحدث عن نفسها بشيء جميل ، فهذا يعطيهم شعورا بالاعتزاز وكونهم خارقين ويعيشون في عالم مثالي خالي من كل عيب او نقيصة والعياذ بالله ! .
استثني من الدراسات ما تقدم بها البرفيسور علي الوردي فالرجل لم يتبع هذا النهج : للخصوصية الاجتماعية للمجتمع العراقي ، وكتب دراساته اعتماداً على اسلوبِ الملاحظة الغير مباشر ، فالوردي كان يجلس في المقهى ويدرس الاخرين من دون ان يشعروا او يجلس في المسجد او يمشي مع مواكب السير وكذلك يدخل الى الملاهي من اجل دراستهم ودراسة سلوكهم عن قرب ، وهو كذلك مستمع جيد لاحاديث كبار السن ، بهذه الطريقة البسيطة كتب اهم مؤلفاته .
كان يعتمد على الطبقة الكادحة ومنها يقتنص الحقائق لان الطبقات الارستقراطية لن تعطي رايا صريحا فهي تتناغم مع الموظة التي تاتينا من غيرنا ، بينما الكادحين من عمال وكسبة فهم الانعكاس الحقيقي للمجتمع . فهم من يخرج منهم المجرمين او الموظفين او القادة او .... الخ فهم يخرج منهم كل المجتمع بكافة صوره .
لهذا فلا اظن بان شاكر مصطفى سليم متفوقا على حساب الدكتور الوردي رغم عبقرية كلاهما ....
http://tabee3i.com/topic/2418-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%83%D8%A7%D9%86-%D8%B4%D8%A7%D9%8A-%D9%85%D8%B9-%D8%B4%D8%A7%D9%83%D8%B1-%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%81%D9%89-%D8%B3%D9%84%D9%8A%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AD%D8%B3%D8%A7%D8%A8-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B1/page__gopid__41733&#entry41733