قبل ثلاثة ايام اوردت وكالة الصحافة الفرنسية خبر خلاف عشائري نشب بسبب مبارة كرة قدم في كربلاء.. طفل من آل الخلخال تُكسر يده "بسبب" لاعب ينتمي الى آل العناد .. وكلاهما من عشيرة الاكرع كما يبدو .. الخلخال تطلب التعويض عن الضرر .. ترفض العناد طلب التعويض .. فينشب قتال بين الجانبين تستخدم فيه الاسلحة الخفيفة ..والحصيلة خمسة جرحى بينهم امرأتين .. انتهى
في كتابه "تاريخ فلورنسا".. يروي ماكيافلي قصة قريبة في مضمونها من خبر الخلاف العشائري بسبب لعبة كرة قدم .. سارويها باختصار وبتصرف .. المكان ريف فلورنسا .. لوري طفل من عائلة كوكليمو وجيري من عائلة برتاكا .. وهما صديقان يلعبان معا دائما .. وحصل ان تشاجرا ذات يوم فجُرح جيري جرحا طفيفا .. وعندما علم والد لوري غضب لذلك ..وطلب من ابنه ان يذهب الى والد جيري ليعتذر منه .. وعندما ذهب لوري لطلب المعذرة من والد جيري .. امسكه والد جيري وقطع يده .. و قال له بعد ذلك "اذهب الى ابيك وقل له ان الجروح يشفيها الحديد وليس الكلمات" .. وهذا الحادث قد اشعل حربا اهليه ليس فقط بين اكبر عائلتي القرية وانما في كل فلورنسا حيث تمتلك العائلتين اقارب وحلفاء .
هذه القصة كما كل تاريخ الشمال الايطالي الذي يسجله ماكيافلي تقول لنا ان "العصبية" ليست حكرا على العرب .. كما تروج الثقافوية الشائعة في الابحاث التي تتطرق "للمجتمعات" العربية وبالخصوص "للمجتمع" العراقي .. وماكيافلي الذي هو رائد الحداثة السياسية في الفكر السياسي الغربي .. والذي لم يكن بعيدا زمنيا عن ظاهرة عراك محلات المدن الايطالية التي غالبا ما كانت تنتهي بحروب اهلية تشمل كل الشمال الايطالي .. ماكيافلي هذا يقول لنا ان اسباب ذلك هي اسباب سياسية تنظيمية مادية وليس ثقافية كما تدعي الثقافوية التحقيرية التي تُرجع كل اسباب ازماتنا الى العامل الثقافي .. وعلى الوردي هو حامل راية هذا الطرح الغبي في العراق .
و إذا كان هناك من مغزى في حادثة الخلاف العشائري بسبب كرة القدم فهو لا يكمن في بعدها الثقافي .. ولكن في بعدها السياسي : فعندما تفرض العشيرة قانونها فهذا يفضح هشاشة الدولة من الناحية التنظيمية الادارية .. و خير من شرح ذلك هو حنا بطاطو .. عندما يقوم آل خلخال بمهاجمة آل العناد بالاسلحة فهذا يدل على الهشاشة الادارية والتنظيمية للدولة .. ولو كانت هناك "دولة قانون" قادرة على فرض قانونها لما تجرأت العشيرة على مخالفة القانون .. باختصار خبر اليوم هو دليل على غياب القانون في "دولة القانون" القرقوزية .
ولكن العشائرية في العراق ظاهرة اجتماعية شاملة وهي ليست وليدة اليوم .. وهي لم تندثر حتى في اقوى فترات الدولة .. نوري السعيد في نهاية الخمسينات كان يظن ان نظام العشيرة في طريقه الى الاندثار .. انذاك كانت حكومات نوري السعيد تخصص ثلاثة ارباع ميزانية العراق لمشاريع البنى التحتية الكبرى .. كيف له ان يعرف ان من حكموا العراق بعده وتحت شعارات التقدمية ومحاربة "الرجعية" قد اعادوا العشيرة اساسا للحكم !! وكيف له ان يعرف ان ثقافة اللطم التي اتهمته بالطائفية وعدم توزيع ثروات العراق بعدالة قد جعلت من العراق اليوم افسد بلد بالعالم .
واذا كان نفوذ العشيرة لم يختفي حتى في قمة سلطة الدولة .. فنفوذها اليوم اكبر من اي وقت مضى في تاريخ الدولة العراقية الحديثة .. لان الدولة في العراق اليوم تعيش اضعف فتراتها .. وكما ان الطائفية هي واقع العراق اليوم فان العشائرية هي ايضا واقع في عراق اليوم .
ولكننا في العادة نرفض مواجهة واقعنا .. ماضينا الاسطوري يكفينا .. اذهب واخبر اي "مثقف" عراقي عن حادثة الخلاف العشائري حول كرة القدم .. هو سوف لن يعيرك اي اهتمام .. سيعتبره موضوع تافه .. وهناك نسبة 99 بالمئة من الحظ انه سيقول لك جملة " يمعود درووووح ..العراق عمره سبعة الاف سنة حضارة" !! ولا تتعب نفسك بطرح سؤال: كيف حصل ان بلد عمره سبعة الاف سنة حضارة وفيه اليوم "عشيرة" ترفع السلاح بوجه اخرى بسبب حادث كرة قدم بين اطفال !! صدقني سؤالك مشروع .. ولكنه بالنسبة لمثقفنا المتجول وهميا في الجنائن المعلقة .. هو "لا سؤال" .. ان تكون "حمورابي او نبوخذنصر" او لاتكون ..هذا هو السؤال !!
اسطورة الهوية العراقية كانت دائما اجابة جاهزة .. موقفنا امام "الانا" العراقية وبالتالي الهوية الوطنية كان دائما ينبع من منظور تقديسي .. الهوية العراقية هي "مقدس" ويجب نحتها واظهارها كايقونه جميلة .. حتى وان كانت هشة سهلة الكسر كما يظهر حاليا بوضوح .. العراق في هذا المنظور ماهية ازلية، غير تاريخية .. ولا تخضع للشروط التاريخية .. من سومر الى علاوي الحلة .. العراق واحد .. يكفي ان "تصدق" بهذا العراق الاسطوري لتصبح الهوية العراقية موجودة .
خطورة هذا الموقف الايقوني والقامع لكل ما عداه يكمن في انه منع موقف اخر اكثر صحة تجاه "الانا" العراقية /الهوية العراقية : كان بالامكان طرح "الانا" العراقية كواقع معقد .. كمشكل .. وبالتالي كسؤال ومحاول اجابة عن السؤال من خلال عرضه ومناقشته وربما ايجاد حلول له .. ولكن لا .. المقدس لا يناقش .. حتى وهو يقتل .. ربع شعب العراق مهجّر ومهاجر وهناك من لازال ينام في دفء الهوية الاسطورية .. سؤال الواقع المتشظي سحقته النظرة الاسطورية للهوية: العراق عمره سبعة الاف سنة !
واحدة من اخطر مخلفات النظرة الاسطورية للماضي تكمن في تحقيرها للحاضر .. لقد منعتنا هذه النظرة الغير واقعية الى نبذ ظواهرنا الاجتماعية الحاضرة .. الى اعتبارها غير مهمة قياسا للاسطورة .. تركيزنا على الماضي "الغير عادي" جعلنا نهمل واقعنا العادي المعاش .. تركيزنا وبمرضية على تفاصيل الماضي الاسطورة جعلنا لانطيق النظر الى تفاصيل حياتنا العادية .. فعندما يتحول الماضي الى اسطورة .. يصبح الحاضر مبتذل وغير جدير بالاعتبار .
لسنا بحاجة للتوغل في الماضي القديم للتدليل على تحضرنا .. فواقعنا ورغم فقرنا المادي لم يكن خاليا من الحضارة .. فالحضارة ليست فقط امبراطوريات ومحاربين وقصور وجنائن معلقة .. ان يكون جارك من مذهب اخر هو حضارة .. اين يكون صديقك من قومية اخرى هو حضارة .. ان تكون زوجتك او ان يكون زوجكِ من طائفة اخرى هو حضارة .. ان تترك مقعدك في الباص لشيخ مسن هو حضارة .. ان يؤدي الموظف عمله بلا رشاوى هو حضارة .. وتاريخنا المعاصر على فقره لم يكن خاليا من تلك السلوكيات الحضارية .
لم نكن بحاجة للسفر في الماضي للتدليل عن حضارتنا او تحضرنا .. ولسنا بحاجة للعودة الى بابل حمورابي او نبوخذنصر للتدليل على تحضرنا .. فبغداد النصف الاول من القرن العشرين ورغم فقرها اكثر حضارة من بابل نبوخذنصر الفاحشة الغنى .. بغداد التي كان ثلت سكانها من العراقيين اليهود هي حضارة .. واذا كان لابد من الاختيار بين بابل السبي اليهودي وبغداد التعايش مع اليهود فانا اختار بغداد الفقيرة ماديا والغنية روحيا .
ولكي اكون اكثر مشاكسة ساقول .. لسنا بحاجة للرجوع الى اشور لندلل على تحضرنا ..كبة الموصل هي حضارة.. واذا كان لابد من الاختيار بين كبة الموصل والامبراطورية الاشورية فانا اختار كبة الموصل !! واذا كان ولابد من الاختيار بين عربة سرجون الاكدي الحربية وبين عربانة بائع اللبلبي امام مدرستنا ..فانا اختار عربانة بائع اللبلبي وخصوصا مع رائحة الرارنج الساحرة !! هويتنا الحقيقية هي تفاصيل حياتنا التي عشنا ونعيش .. والاهم اننا نجد في تفاصيل حياتنا مشتركنا الاهم .. فمشكل الهوية يكمن في ايجاد مشترك بيننا.. وتفاصيل حياتنا العادية هي اكثر ما يجمعنا .. واكثر ما فرقنا ويفرقنا هو الماضي .. بتعبير اخر اننا نجد في واقعنا مشترك حياتي لا نجده في ماضينا المفخخ بالنزاعات الايديولوجية .
فريدريك نيتشه في مقاله "منافع ومضار التاريخ" يورد قول رائع لسقراط فحواه : ان ادعاء التحلي بفضائل او بخصال لا نمتلكها هو مرض قريب جدا من الجنون .. ونيتشة يقول تعليقا على فكرة سقراط هذه : ان مثل هكذا وهم هو اخطر من وهم الاعتقاد ان فينا مساوئ او عيوب ما .. لان الوهم الثاني قد يحفزنا على ان نكون افضل .. في حين ان الوهم الاول يجعلنا اسؤ يوما بعد اخر .
وليس هناك ما يصفع الانتباه في العراق من هذا التقهقر الى الوراء .. من سيء الى اسوأ .. وليس غريبا ان اسوأ الحكومات التي مرت على العراق هي تلك التي رفعت شعارات بعيدة كل البعد عن الواقع .. الكارثة العراقية بدءت حين اعتقد "عبد حمود" انه امتداد لنبوخذنصر.. من هنا حلم التوسع وبناء امبراطورية ..حلم واهم ارجعنا الى العصر الحجري .. وثقافة اللطم ذات العقلية الاخروية الاسكاتالوجية قد بزّت كل من جاء قبلها في هذا المضمار .. فهي قد رفعت شعار ارساء حكم وتعاليم "ال البيت" وكانت النتيجة انها نهبت البيت وشردت اهل البيت !! ومن الوهم ما قتل .
الوهم خطأ منهجي .. يبدأ خطأ في زاوية النظر وينتهي خطأ في الحكم على الاشياء .. وصورة الوهم في الادبيات الفلسفية هي : عندما تقترب ذبابة من عيوننا ونتصورها طير كبير !! نستطيع ان نقول ان تاريخ العراق المعاصر منذ خمسين سنة تقريبا هو تاريخ عيوننا التي استعمرها الذباب .
أستاذي العزيز
ردحذفمن خلال متابعتي لمدونتك لاحظت مدى معرفتك وعلمك بالشأن العراقي. فوددت أن تقترح علي بعض الكتب التي تتناول تاريخ العراق الحديث سواء بلغة الانجليزية أو العربية. أوحييك على مجهودك، السلام.
email: mrdash916@gmail.com