أجرت وكالة الصحافة الفرنسية مقابلة مع النحات محمد غني حكمت .. تقول بعض سطورها ان حكمت "ساعد في عمل "نصب الحرية" الذي كان من تصميم استاذه النحات العراقي جواد سليم الذي وافاه الاجل في سن الثانية والاربعين قبل اكتمال هذا العمل .... ورغم ان هذا النصب الذي ازيح عنه الستار في 14 تموز/يوليو 1961، قد تم انشاؤه بعد سقوط الملكية في العراق (1958) ومجيء الزعيم عبد الكريم قاسم إلى السلطة إلا ان حكمت يؤكد بأن "العراق لم يشهد استقرارا امنيا فعليا منذ ذلك الحين".
تستوقفني جملة حكمت الاخيرة .. ليس فقط لانها صادرة عمن ساهم في تنفيذ اهم رموز العهد الجمهوري وهو نصب الحرية .. ولكن لأنها تحتوي على مفارقة كبيرة تخص نصب الحرية ..عندما تقول ان العراق لم يشهد استقرارا امنيا فعليا منذ سقوط الملكية .. فهذا يعني ضمنيا ان العهد الملكي كان يتمتع باستقرار امني فعلي .. وهذا غير صحيح تاريخيا .. العهد الملكي لم يكن مستقرا امنيا وقد شهد اضطرابات سياسية كثيرة كما شهد انقلابين خطيرين .. لا بل نستطيع ان نقول ان العراق منذ منتصف الستينات وحتى بداية الثمانينات شهد "استقرار" امنيا اكبر من استقرار العهد الملكي .. من هنا فان "الاستقرار الامني" ليس هو ما يميز العهد الملكي عن العهد الجمهوري.
ما يميز العهد الملكي هو حيز الحرية .. ما يميز العهد الملكي هي الحرية النسبية التي كانت متاحة للاختلاف السياسي .. في العهد الملكي كانت امكانية التظاهر في الشوارع ضد قرارات الحكومة حقيقة قائمة .. لا بل كانت هناك حتى امكانية اسقاط حكومة من خلال مظاهرة شوارع .. وهو شيء لم يعد ممكنا بعد ذلك .. منذ سقوط الملكية اختفت تلك الحرية .. لقد جعلت الانظمة الجمهورية من السجون المكان الوحيد الذي "يظهر" فيه الاختلاف السياسي و"يغيب" للأبد !!
منذ ذلك التاريخ اصبحت المسيرات المطبلة للسلطة هي النوع الوحيد المسموح به من "المظاهرات" .. والادهى انها اصبحت "مظاهرات" اجبارية .. ليس فقط اننا لم نعد نتمتع بحق الخروج في مظاهرات ضد قرارات الحكومة .. وهو ما كان ممكنا في العهد الملكي .. ولكننا فقدنا حتى حق عدم المشاركة في مسيرة قطيعية.. ليس فقط اننا لم نعد قادرين على فعل ما نريد (الاعتراض سياسيا على قرارات الحكومة) .. ولكننا لم نعد قادرين حتى على عدم فعل ما لا نريد (المشاركة قسريا في مسيرة تطبيلية للحكومة) .. لم نفقد فقط "الحرية الايجابية" ولكننا فقدنا حتى "الحرية السلبية".
وبهذا المعنى فـ تموز 1958 هو مفترق طرق في التاريخ العراقي المعاصر .. وهو ايضا مفارقة كبيرة .. حصلنا على "الاستقلال" ولكننا فقدنا الحرية النسبية التي كانت سائدة في العهد الملكي .. حصل البلد على استقلاله .. وفقد الانسان استقلاليته .."تحرر" الوطن .. وفقد "المواطن" حريته .. فليس هناك استقلال حقيقي من دون حرية .. ذلك لأن ليس هناك وطن من دون مواطن .. وليس هناك مواطن من دون حرية.
عذرا استاذ محمد .. ما فقده العراق منذ تموز 1958 هو ليس الاستقرار الامني .. لا .. ما فقده العراق منذ ذلك الحين هو الحرية النسبية التي كانت سائدة في العهد الملكي .. وعذرا استاذ محمد على المفارقة .. ولكن ما افتقده العراق منذ "نصب الحرية" هو بالتحديد الحرية .. ففي نفس الفترة التي اقيم فيها نصب الحرية كانت الحرية تُذبح في الشوارع .. لقد "عُلقت" الحرية فنيا في عهد جمهوري "علقها" وعطل مفعولها السياسي !! منذ ذلك الحين حضرت الحرية نحتا ورسما وخطابة .. ولكنها غابت واقعا .. وحضور الشيء في الخطاب الرسمي وغيابه في الواقع له اسم في علم الاجتماع السياسي : ايديولوجيا .. منذ ذلك الحين اصبحت الحرية شعار .. شعار نراه في كل مكان .. في الكتب المدرسية .. في الصفوف .. على الجدران .. اما في الواقع فلا .. منذ ذلك الحين اصبحت الحرية شعار في "نصب الحرية".
نشر علاء اللامي يوم امس مقال عنوانه "من أجل هزيمة الطائفيين " يقول فيه ان:" التشكيك بأصول الخصم السياسي تقليد أوجده القوميون العرب والبعثيون منهم بخاصة، يعتبر ساطع الحصري من أوائل مستعمليه حين شكك بأصول الشاعر العراقي محمد مهدي لجواهري واتهمه بالعجمة والأصل الفارسي في وقت كان فيه الجواهري يتبوأ إمارة الشعر العربي ويلقبه طه حسين " برب القوافي".
ساضع جانبا الجزء الاخير من الجملة الذي يقول ان الجواهري كان يتبوأ آنذاك إمارة الشعر العربي .. ففيه من الاستخفاف بعقول الناس ما يكفي لتصنيفه في باب الردحيات .. اكتفي فقط بالقول ان الجواهري آنذاك كان في مقتبل العمر ولم يكن معروفا .. والرصافي والزهاوي كانا اكبر مكانة منه واوسع انتشارا آنذاك.. فمن اين جاءته اذا امارة الشعر العربي .. قليل من الاحترام لعقول الناس لا يضر.. ولكن ليس هنا المهم .. ما يستوقفني في جملة اللامي هو الجزء الاول منها .. اللامي يريد هزيمة الطائفيين ولكنة يستخدم اكاذيب المظلومية التي هي جوهر خطاب الطائفيين .. فحادثة الخلاف بين الجواهري وساطع الحصري هي واحدة من اكثر الهوسات التي ردحت بها الابواق الطائفية كدليل على طائفية الدولة العراقية.
قول اللامي بان الحصري اتهم الجواهري بالعجمة والأصل الفارسي هو ببساطة كذب ومن النوع المحتقر لعقول الناس .. حادثة الخلاف بين الحصري والجواهري لها روايتين رئيسيتين إلتفّت حولهما بعد ذلك تأويلات كثيرة .. الرواية الاولى تقول ان الحصري رفض تعيين الجواهري لانه لا يحمل شهادة مدرسية ..اما الرواية الثانية فتقول ان الحصري رفض تعيينه لانه يحمل الجنسية الايرانية .. الرواية الثانية تقول ان الحصري طلب من الجواهري ان يتخلى عن جنسيته الايرانية .. ولكن الجواهري رفض ذلك .. من هنا رفض الحصري تعينه بوظيفة في وزارة المعارف .. حتى في هذه الرواية فان الحصري لم يتهم الجواهري بالعجمة والاصل الفارسي .. الحصري لم يقل للجواهري" انت فارسي" كما يقول اللامي .. ولم يقل له "انت شيعي ولا يحق لك التعيين في وزارة المعارف" .. الحصري طلب منه فقط ان يتخلى عن الجنسية الايرانية والحصول على الجنسية العراقية.. وهذه تهمة الحصري في "محاكم التفتيش" اللطمية .
حجة حكواتية المظلومية هي التالية : كيف لـ سوري كساطع الحصري ان يطلب من الجواهري ذلك .. كيف للحصري الذي ينطق العربية بلكنة تركية ان يطلب من الجواهري ذلك .. وهنا ايضا، فان قول اللامي بان الحصري كان من اوائل من استعملوا "التشكيك بأصول الخصم السياسي" هو كذب وقلب للحقائق التاريخية .. فاللطميون هنا، وليس الحصري، هم من استخدموا "التشكيك بأصول الخصم السياسي".. فهم قد حولوا سؤال اداري روتيني تقتضيه قوانين دولة ناشئة .. الى تهجم على اصل الحصري السوري .. و ذهبوا حد التشكيك بعروبته لانه يتكلم العربية بلكنة تركية .. وكما يقول موسى الحسيني في مقال "الشيعة والحكم في الدولة العراقية الحديثة" فان الحصري هو من تعرض للابتزاز في هذه الحادثة .. وموسى الحسيني هو عراقي شيعي ونجفي .. وليس وهابي او قومجي.
مشكلة حكواتية المظلومية هو انهم يدخلون الماضي بعقلية المتبضع في السوق .. ينتقون من احداث الماضي ما يناسب طبخة المظلومية فقط .. لذلك فان ايراد بعض المصادر ضروري .. وليام كليفلاند كاتب سيرة الحصري يقول ان الحصري كان مهنيا صارما مع الاساتذة والطلاب .. ريفا سيمون تقول انه خاض خلافات كثيرة خلال تجربته كمشرف على وزارة المعارف ..لانه لم يكن يطيق جهل منتقديه في مجال التعليم .. فهو قد اختلف مع سامي شوكت ومع محمد فاضل الجمالي ومع المستشارين البريطانيين كـ المستر فاريل والمستر سميث وفرض على البريطانيين رؤيته في التعليم .. والمستر فاريل قد استقال نهائيا بسبب خلافه مع الحصري .. والمستر سميث قد استقال اكثر من مرة لنفس السبب ولكنه عاد وعمل من جديد مع الحصري .. و ريفا سيمون تقول ان خصومه البريطانيون، رغم خلافاتهم الشديدة معه، كانوا يقدرون قيمته ومعرفته الهائلة في مجال التعليم وهي تورد ما يقوله عنه المستر سميث :
No other Iraqi combines his enthusiasm, his experience and knowledge of education system, and his fearlessnesses. In, Reeva Simon, The teaching of History in Iraq before the Rashid Ali Coup of 1941
"لم يكن هناك عراقي اخر يجمع حماسته وخبرته ومعرفته بنظام التعليم".
باختصار.. الحصري كان صارما لانه كان يعتقد ان التعليم هو اساس الدولة .. يفشل التعليم تفشل الدولة .. وهذه العصامية كانت لا تعجب واحد من افسد الوزراء آنذاك واكثرهم استهتارا بالمصلحة الوطنية، وهو عبد المهدي المنتفجي (والد عادل عبد المهدي سارق المصارف !!) .. ذلك ان هذا الوزير كان يطلب من الاساتذة بتزويد طلاب شيعة فشلوا في الامتحانات بالشهادات .. وهذا ما ترويه المس بيل في إحدى رسائلها الى أبيها نقلا عن المستر فاريل المستشار البريطاني في وزارة المعارف :
I then spent an hour listening to the woes of Mr Farrell, Director of Education, who has come into serious collision with his Minister, the only Shi'ah in the Cabinet. Poor Mr Farrell! what are you to do with a Minister of Education who when a Shi'ah student fails to pass an examination writes to the examiner and directs him to provide him with a diploma! Letters of Gertrude Bell, 6 December 1921
وهذا ما كان يرفضه الحصري .. علينا ان نتذكر ان خلاف الحصري مع الجواهري حصل خلال الفترة التي كان فيها المنتفجي وزيرا للمعارف .. وموسى الحسيني يقول في مقالته ان المنتفجي كان يريد ان يبتز الحصري من خلال مبالغة خلافه مع الجواهري وتلوينه بالطائفية .. باختصار الحصري كان شديدا مع كثيرين لانه كان مهنيا .. وخلافه مع الجواهري هو واحد من خلافات كثيرة خاضها حفاظا على جودة النظام التعليمي .. وهو تحليليا نموذج للخلاف بين ثقافتين .. ثقافة التكنوقراط وثقافة المحسوبية.. والحقيقة التاريخية هو ان الوزير المنتفجي اراد تعيين الجواهري بالمحسوبية .. والحصري رفض تعيينه لانه لا يحمل شهادة.. وكل ما جرى بعد ذلك هو تأويل طائفي اراد استخدام حادثة الجواهري سلاحا في معركة المظلومية .. والمظلومية هي حطب العداء السايكولوجي بين السنة والشيعة الذي اجج الطائفية الحالية.
وعود على بدء .. لا نريد منكم ان تهزموا الطائفيين.. ولا نريد منكم ان تهزموا الطائفية .. فالطائفية لا يمكن هزيمتها بالهوسات .. اهزموا المظلومية في نفوسكم اولا، ستهزم الطائفية السياسية .. فحطب الطائفية هي اكاذيب المظلومية .. اهزموا المظلومية النائمة في "لاوعيكم" ثم تعالوا بعد ذلك وتكلموا عن الوطنية .. فالعراق الحديث بناه اشخاص كـ ساطع الحصري .. نعم بناه التكنوقراط .. وليس الشعراء الرداحة .. من هنا .. فبين شاعر قدّاح مدّاح .. وبين تكنوقراطي .. نختار التكنوقراطي .. وبين قصيدة "تحرك اللحد" التي أسست لثقافة الانقلابات والحبال والسحل .. وبين " دار داران دور" .. نختار" دار داران دور" الكتاب الذي علّم ملايين الاطفال العراقيين القراءة .. لسنا بحاجة الى شاعر راح في ارذل العمر يطرق ابواب السلطان مادحا "ابن الهواشم" بعد ان مدح قبل ذلك من قاموا بقتل "ابن عمه" في العراق .. مثل هكذا ثقافة ليست جديرة بالاحترام .. خذوا ألف شاعر مدّاح قدّاح كالجواهري .. واعطونا تكنوقراطي واحد من مثل ساطع الحصري.