سنة العراق يفشلون في التكتل لخوض الانتخابات .. هذا هو عنوان احدى المقالات التي قرأتها مؤخرا ..في هذا المقال هناك قراءتين حول سبب فشل السنة في التكتل لخوض الانتخابات .. الاولى لـ رايدار فيسر الباحث المتخصص في الشؤون العراقية والذي يقول لنا ان السنة "فعلوا ذلك لانهم يعتقدون ان هذه الاستراتيجية سيكون لها صدى لدى الناخبين وعلى هذا تمنحهم أصواتا أكثر من استراتيجية قائمة على الطائفية" .. اما القراءة الثانية فهي لـ جوست هيلترمان من المجموعة الدولية لمعالجة الازمات الذي يقول لنا ان "المسألة لا تتمثل في أن السياسيين من العرب السنة قرروا عدم تشكيل تحالف موحد لكن المسألة هي أنهم لا يستطيعون ان يتخذوا قرارا مشتركا بشأن أي شيء".
قراءة رايدر فيسر المنفعية تتضمن قبول بمسلمة شائعة في الدراسات التي تتطرق للعراق .. وهي ان السنة يشكلون مجموعة متجانسة مذهبيا .. وبالتالي يمتلكون رؤيا سياسية تحتم سلوكية سياسية مشتركة .. قراءة هيلترمان على العكس تؤكد ان السنة رغم "انتمائهم المذهبي" ليسوا على وفاق سياسيا مما يجعلهم غير قادرين على اتخاذ قرارا مشتركا.. ولكن هيلترمان ينطلق هنا من منظور تقني بحت .. اي انه يريد ان يقول لنا ان هناك خلاف بين الشخصيات السياسية السنية مما ينتج عدم اتفاق فيما بينهم .. اي انه يقبل ضمنيا بوجود مجموعة سنية متجانسة تحت طبقة الساسة السنة.
ما يعاب على قراءات "خبراء الشأن العراقي" هو انها تتخذ مفردات "سنة" و"شيعة" كمسلمات .. مفردات السنة والشيعة في تلك القراءات هي انعكاس امين للواقع ولا يمكن التشكيك بها .. ما تتجاهله تلك القراءات هو ان مفردات سنة وشيعة هي ادوات في الصراع السياسي .. وفرض تلك المفردات وبالتالي التصورات التي تتضمن هو ليس معطى طبيعي .. ولكنه توظيف ايديولجي ضمن مسار صراع سياسي .. تلك المفردات هي اسلحة في معركة سياسية.. من هنا لا يجوز للباحث ان يقبلها كتحصيل حاصل.
ان تقول لفقير من مدينة الثورة "انت فقير لان الحكومة فاسدة" هو شيء .. ولكن ان تقول له : "انت فقير لانك شيعي محكوم من حكومة سنية" ..فهو شيء اخر مختلف تماما يفرض تصورات اخرى ..تصورات تقتل العراق اليوم تحت شعار المظلومية .. من هنا فالباحث الاكاديمي مطالب بالارتفاع من المستوى التسجيلي الاولي الى المستوى التحليلي المفكك .. والا فما معنى لقب باحث اكاديمي اذا لم يقم ذلك الباحث بنقل المفردات من الاستخدام السياسي الايديولوجي الى الاستخدام الاصطلاحي العلمي؟
لو كنت "خبيرا بالشأن العراقي" وجاءني صحافي حاملا كليشة : "سنة العراق يفشلون في التكتل لخوض الانتخابات القادمة ، فما هو رأيك بذلك ؟ " .. فسوف ارُد على هذا الصحفي : ومتى نجح السنة في التكتل سياسيا سابقا ؟؟ خذ كل تاريخ العراق المعاصر .. وقل لي متى كان السنة كتلة سياسية واحدة ؟ الدولة العراقية الحديثة ولدت بسبب وقوف قيادات سنية ضد الدولة العثمانية السنية .. انقلاب حركة مايس قام به ضباط "سنة" ضد نظام ملكي يُنعت بالسني من قبل ثقافة اللطم .. انقلاب تموز قام به ضباط اغلبيتهم "سنة" ضد نظام ملكي يُنعت بالسني من قبل ثقافة اللطم .. وحنا بطاطو يقول لنا ان اغلب الشيوعيين الذين قاوموا انقلاب 1963 في بغداد كانوا من السنة .. وهو الانقلاب الذي ينعت بالسني من قبل ثقافة اللطم .. وكثير من "السنة" عارضوا نظام صدام حسين الذي ينعت بالسني .. ما يعني ان "السنة" وخلافا للطرح الشمولي لمفردة السنة لم يكونوا في يوما ما كتلة سياسية واحدة .. وجود حاكم من نفس طائفته لم يمنع "السني" من معارضة ذلك الحاكم .. بتعبير اخر، ان "انتماء" السني المذهبي لم يحتم عليه ولاء سياسيا.
نعم هناك سنة في العراق .. ولكن تاريخ العراق المعاصر يقول لنا انهم لم يشكلوا يوما كتلة سياسية واحدة .. الانتماء المذهبي السني لم يحتم لا ايديولجيا ولا رؤيا ولا سلوكية سياسية مشتركة .. لقد كان فيهم القومي والشيوعي والبعثي والليبرالي والملحد الخ .. وهم قد تقاتلوا ايديولوجيا حد الدم .. بتعبير اخر، نعم هناك سنة وشيعة في العراق .. ولكنهم في الواقع ليسوا كما تقدمهم شمولية المفردات .. وهذا الشيء ينطبق على العراقيين الشيعة .. اقول "العراقيين" الشيعة وليس "الشيعة" العراقيين!! لان هذا الصنف الاخير من الشيعة والذين يقدمون ولاءهم المذهبي على عراقيتهم .. حاولوا ومنذ عقود تسييس "المقدس" الشيعي من اجل فرض الولاء المذهبي كأساس للعمل السياسي .. من هنا اصرارها على فرض قراءة مذهبية للتاريخ العراقي المعاصر من خلال طرح شمولي لمفردات شيعة وسنة .. وخطاب المظلومية الشيعية الضدي هو جوهر هذا الطرح .
السنوات الاخيرة اثبتت بوضوح قاتل ان شمولية مفردة "الشيعة" ليس لها وجود على ارض الواقع .. سبع سنوات كانت كافية لتفتيت شعار "البيت الشيعي" الى "مشتملات" متصارعة .. الشيعة في المفردة السياسية شيء وعلى الواقع شيء اخر .. الشيعة في المفردة مجموعة متجانسة مذهبيا وبالتالي سياسيا .. ولكن الشيعة على الواقع احزاب وتيارات وخلافات وصراعات تصل حد القتل والحرق .. باختصار، لمفردة "الشيعة" شمولية ليس لها وجود في الواقع المتشظي .. وهذا ثابت سوسيولوجي تاريخي .. وفشل "السنة" في التكتل لخوض الانتخابات ما هو الا تأكيد لهذا الثابت السوسيولوجي التاريخي .. السنة كمفردة شاملة لا يشبهون السنة كواقع.
وعود على بدء.. ربما "ان غياب صوت متجانس للعرب السنة في الانتخابات القادمة قد يكلفهم الكثير على الصعيد السياسي" كما يقول جوست هيلترمان في نفس المقال .. ولكن ما لا يراه هيلترمان هو حجم الخسارة التي اصابت الاحزاب الشيعية التي اصطفت طائفيا .. فالسياسة قبل ان تكون مغانم مادية هي رمزية .. وكل مغانم الارض المادية لن تفيد حين تخسر رمزيا .. وما فتت وسيفتت طروحات الاحزاب الطائفية الشيعية هو سقوط تصوراتهم رمزيا .. نعم السياسة رمز قبل كل شيء .. من هنا فما يعتبر خسارة سياسية للسنة على المدى القريب .. هو انتصار للعراق على المدى البعيد .
هناك في قرية نائية في العمارة .. زارها مؤخرا الصحافي انطوني شديد .. شاب اسمه صدام .. صدام هذا زار النجف مؤخرا .. وهو ببساطة ابن الريف يقول لانطوني شديد "انها مدينة جميلة .. وشوارعها مبلطة .. ولكنه يضيف بتذمر المحروم "وماذا عنا نحن ؟" .. اي متى سيلتفتون الينا .. اما شيخ القرية فيقول " الا نستحق مدرسة ؟" .. هل ترون ما ارى ؟ بالامس كانوا يقولون للفقير الشيعي انت فقير لانك شيعي تعيش في دولة سنية .. ترى ماذا سيقولون لهم بعد اليوم !!