في الشهر الماضي نشرت صحيفة الغارديان مقال افتتاحي تناقش فيه مستقبل العراق بعد الانسحاب الامريكي.. وفيه يتساءل الكاتب عن جدية المقولة الامريكية التي تروج بان الحرب في العراق قد انتهت.. كاتب افتتاحية الغارديان يورد امثلة كثيرة تُكذّب هذه المقولة.. من ضمنها تصريح لنوري المالكي في احدى الغرف المغلقة يقول فيه انه شيعي اولا وعراقي ثانيا.. وكاتب مقال الافتتاحية يتسائل " ما هو مستقبل دولة كهذه، اذا كان رئيس وزرائها يضع انتمائه المذهبي قبل انتمائه الوطني.. وهنا النص الانكليزي لهذا المقطع:
A war that is over? Take the answer that the prime minister Nouri al-Maliki gave last week when asked to describe who he thought he was – first a Shia, second an Iraqi, third an arab, and fourth a member of the Dawa party. What chance for a nation state, if its prime minister places his confessional identity above his national one
يوم امس فقط وبعد مضى اكثر من شهر على مقال الغارديان..اصدر المكتب الاعلامي للمالكي بيان يهدد فيه بمقاضاة صحيفة الغارديان لانها نشرت تصريح المالكي هذا..البيان يتهم الغارديان بان تغطيتها للشأن العراقي لاتتسم بالحياد والمهنية.. ويضيف ان المالكي "لم يدل بهذا التصريح لا لهذه الصحيفة ولا لغيرها".. بيان المكتب الاعلامي للمالكي وبلغته الخشبية المعهودة لم يذكر مقولة "عراقي اولا، شيعي ثانيا" ولكنه اشار فقط الى عنوان مقال الغارديان الذي ورد فيه تصريح المالكي.
ساضع جانبا، سالفة المهنية والحياد.. فرئيس وزراء ديمقراطية الاعترافات التلفزيونية هو اخر من يحق له الحديث عن المهنية !! ورئيس وزراء دولة تستخدم قاسم عطا متحدثا رسميا هو اخر من يحق له الكلام عن الحياد !! ولكن ما يستوقفني في بيان المالكي هو انه يقول لنا انه لم يدل بذلك التصريح لا لصحيفة الغارديان ولا لغيرها.. بتعبير اخر، المالكي لا ينفي انه قال ما قال في الغرف المغلقة.. ولكنه فقط ينفي انه قال ذلك لصحيفة الغارديان او لصحيفة اخرى.. بمعنى ان المالكي يعتقد ان الصحفي عليه ان ينشر فقط ما يقوله له المسؤول السياسي..الصحفي في هذا الفهم الستاليني يجب ان يسجل فقط ما يقال له في الاجتماعات الرسمية.. اما ان يذهب الصحفي في الكواليس باحثا عن ما يقال في الغرف المغلقة.. فهو بنظر المالكي سلوك لايتسم بالحياد والمهنية..من هنا غضب المالكي من صحيفة الغارديان التي نشرت ما لم يكن مخصصا للنشر.
غضب المالكي مفهوم اذا ما استحضرنا دور الصحافة في ديمقراطية المنطقة الخضراء.. فالمالكي قد تعود ان يستدعي الصحفييي العراقيين ويعطيهم المواد الاخبارية.. الصحفي في ديمقراطية الاعترافات التلفزيونية هو بوق يقف خاشعا امام اكاذيب قاسم عطا ويذهب بعد ذلك لنشرها.. الصحفيين في مزرعة المالكي هم قطيع يتم استدعائهم من اجل تصوير واستجواب متهمين بالارهاب يرتدون بدلات برتقالية.. وهذا ما قامت به حكومة المالكي قبل ثلاثة اسابيع حين وضعت متهمين بالارهاب اما قطيع من الصحفيين العراقيين في مسرحية ميلودرامية على الطريقة الفلمهندية التي تعشقها الذائقة الشيعية.. وقمة الوضاعة في هذا العرض المسرحي كانت صورة الطفل الباكي الذي يواجه ما قيل انه قاتل ابيه.. وهي صورة تذكرنا بصورة الام مع اطفالها في احدى المحاكمات الستالينية.. حين دخل الاطفال في نوبة بكاء مكيلين الاتهامات لوالدهم (المعارض السياسي) الذي كان في قفص الاتهام ومطالبين بانزال اقصى العقوبات بحقه.. عندما شاهد البير كامو هذا المشهد كفر بالشيوعية وبكل شعاراتها.
المذهل ان من صدعوا رؤوسنا بقصصهم عن جمهورية الخوف البعثية وبشرونا بعهد جديد لم يعترضوا على هذا الاسلوب الستاليني..اما صحافة "شيعي اولا وعراقي ثانيا" فقد صفقت لهذه المسرحية المبتذلة وشاركت فيها بابتذال مخيف.. وهو شيء غير مستغرب من صحفيي العراق حيث تحولت مهنة البحث عن المتاعب الى مهنة البحث عن قطعة ارض سكنية !! اما الاعلام الامريكي فقد مر مرور الكرام على هذا "الانجاز" المخجل للديمقراطية المحمولة جوا.. النيويروك تايمز نشرت باستحياء مقال نقدي للمسرحية المالكية المبتذلة ولكن مع عنوان بارع :
Iraq Turns Justice Into a Show, and Terror Confessions a Script
فقط صحفي وضيع يقبل ان يقف امام شخص متهم بالارهاب ومحاط بجلاديه ويسأله عن جرمه.. خصوصا وان ابسط عراقي اليوم يعرف كيف يتم انتزاع الاعترافات من هولاء المتهمين.. ومقال غيث عبد الاحد الذي نشرته الغارديان قبل اسبوعين عن حال السجون العراقية هو وثيقة بارعة ودامغة في هذا الاطار.. وانا شخصيا اعتقد ان مقال غيث عبد الاحد هذا هو ما اثار المالكي وعصابته ضد الغارديان اكثر من مقولة "شيعي اولا وعراقي ثانيا".. فمقال غيث يرسم صورة مخيفة للسجون العراقية اليوم.. سجون يقايض فيها ضابط اُم تريد استرجاع ابنها الذي تمت تبرئته قضائيا منذ شهور ولكن الضابط يتصل بالام الفقيرة ويطلب منها مبلغ مالي ضخم من اجل الافراج عنه واذا لم تجلب هذا المبلغ فهو يهددها بتعذيب ابنها..وعلينا ان نتذكر هنا ان المالكي سبق وان رفع قضية ضد الغارديان امام القضاء العراقي لانها نشرت تحقيق سابق لـِ غيث عبد الاحد مع ثلاثة من جهاز المخابرات العراقي اتهموا فيه المالكي بالنزعة الدكتاتورية.
البير كامو يقول:"اذا اردت ان تعرف مستوى تحضر بلد ما، فانظر الى سجونه".. وبنفس المعنى، اذا اردت ان تحكم على العراق اليوم فانظر الى سجونه ودعك من كل الخطابات الرسمية.. واذا اردت ان تحكم على مستوى الديمقراطية في العراق اليوم فانظر الى نظامه القضائي الذي يسمح باسلوب الاعترافات التلفزيونية التي تتنزع تحت التعذيب.. واذا اردت ان تعرف مستوى الحرية في العراق اليوم فانظر الى مستوى الاعلام الشيعي الذي يتناقل الخطاب الحكومي بميكانيكية البرافدا السوفيتية.. اما اذا لم تقتنع بكل هذا وبقيت مصرا على تصديق "وكالة انباء قاسم عطا".. فعليك عندها ان تأخذ نفسا عميقا .. وتهيء نفسك لاستيعاب حقيقة تحاول بلا وعي دفنها تحت تبريرات مختلفة.. وهي انك شيعي اولا.. وعراقي عاشرا.