2020/04/17

معنى مفردة "عربي" في القاموس الايراني


كتاب "شاه ايران واكراد العراق وشيعة لبنان" يستحق القراءة .. الكتاب يتطرق لانشطة ايران السرية في دعم حركة التمرد الكردي في شمال العراق ودعم شيعة لبنان لمواجهة المد الناصري.. وهو يركز على الفترة الزمنية الممتدة من عام ١٩٥٨ الى نهاية عهد الشاه ١٩٧٩ .. اهمية الكتاب بنظري تكمن في استناده لارشيف المخابرات الايرانية (السافاك) ايام الشاه .. وهو بذلك يسمح لنا بالاطلاع على خفايا جزء من تلك الحقبة المهمة في تاريخ العراق والمنطقة.. مؤلف الكتاب ايراني يعمل في احدى الجامعات الامريكية .. لا غرابة بعد ذلك انه يقدم وجهة نظر ايرانية تشوبها الكثير من المغالطات التحليلية

المجال لا يتسع في مقال واحد للتطرق لكل هذه المغالطات.. ولكنني ساكتفي فقط بتفنيد الاساس الذي تستند اليه فرضيته العامة في الكتاب.. هذه الفرضية تقول ان تدخل ايران الشاه في شمال العراق ما بعد ١٩٥٨ كان رد فعل على تهديدات "جيوفكرية" (كما يسميها) مصدرها العراق والمنطقة العربية .. بمعنى ان الانظمة السياسية في عراق ما بعد ١٩٥٨ كانت انظمة ثورية قريبة من الشيوعية تارة او من الناصرية تارة اخرى.. وهي من هذا المنظور تمثل "تهديد جيوفكري" للنظام الملكي الايراني بحسب المؤلف.. وهو يبرر تدخل الشاه في لبنان من خلال دعم وتنظيم شيعة لبنان مذهبيا لنفس السبب وهو ان المد الناصري كان "تهديد جيوفكري" لايران.

اولا.. اختيار المؤلف لمنطقة شمال العراق والاكراد هو ليس اختيار بريء.. لانه بذلك يضع "تحت الزولية" تدخلات ايران في مناطق اخرى من العراق وخصوصا في المناطق التي ينشط فيها رجال الدين الشيعة واغلبهم من اصول ايرانية ولهم ارتباطاتهم وشبكات تمويلهم الايرانية.. لذلك فأن المؤلف يمر مرور "الكرام" عن علاقات السافاك مع رجال الدين الشيعة في العراق ويركز على علاقات السافاك مع موسى الصدر الذي اُرسل الى لبنان بدعم وتمويل من السافاك من اجل تنظيم الشيعة طائفيا واحياء روح المظلومية الشيعية من اجل مواجهة المد الناصري العروبي..  ولكن من يعرف تاريخ العراق في تلك الفترة ويعرف تحركات رجال الدين الشيعة آنذاك سوف لن يحتاج الى ذكاء حاد لكي يفهم بالمقارنة ان السافاك  كان يدعمهم لمواجهة المد الشيوعي والقومي العربي في صفوف الشيعة العراقيين.. فتوى المرجع محسن الحكيم بتحريم الانضمام الى الحزب الشيوعي يجب ان تقرأ ضمن هذا الاطار.

ثانيا.. حتى وان ركزنا على شمال العراق.. القول بأن ايران لم تبدأ بدعم وتمويل الاكراد بالمال والسلاح الا بعد انقلاب ١٩٥٨ هو استخفاف بالحقائق التاريخية.. ذلك ان ايران القاجارية حتى ١٩٢٥ ثم البهلوية بعد هذا التاريخ كان لهما مواقف معادية للدولة العراقية الناشئة.. لا بل ان الشاه الاب رضا بهلوي رفض الاعتراف بالمملكة العراقية خلال سنوات طويلة.. والاهم وخلافا لفرضية الكاتب الايراني هو ان ايران دعمت تمرد الشيخ محمود البرزنجي طوال العقد الاول من العهد الملكي.. ومحمود البرزنجي هو قائد اول تمرد كردي في شمال العراق وتلقى دعم لوجستي وتسليح من ايران ومن تركيا انذاك

ثالثا.. المؤلف يقول لنا مستندا الى وثائق السافاك بأن الشاه بعد انقلاب تموز ١٩٥٨ كان يخطط مع الملك حسين ملك الاردن بالتحضير لانقلاب مضاد لاعادة النظام الملكي في العراق .. ولكن الشاه اوقف التعاون مع الاردن لانه اكتشف من خلال مصادر السافاك ان الملك حسين كان يخطط لتولي حكم العراق والاردن في اتحاد هاشمي ملكي بعد الانقلاب المضاد.. وهذا ان دل على شيء فهو يدل على ان ايران الشاه كانت تعتبر كل دولة عربية قوية حتى وان كانت ملكية هو تهديد لايران.. وهذا يدحض حجة المؤلف القائلة بأن ايران تدخلت في شؤون العراق في الشمال لان النظام السياسي بعد انقلاب ١٩٥٨ يشكل تهديد "جيوفكري" لها لانه نظام جمهوري ثوري مناهض للملكية.

هناك جملة مهمة يوردها المؤلف في معرض تبريره لسياسة شاه ايران تجاه مشروع الوحدة العربية بين سوريا ومصر والعراق.. وهي جملة قالها مجتبى باشائي مسؤول ملف الشرق الاوسط في جهاز السافاك .. مجتبى باشائي قال في احدى اجتماعات السافاك :"يجب علينا مقاتلة واحتواء خطر [المد الناصري] في الساحل الشرقي للبحر المتوسط لمنع سفك الدماء على الأراضي الإيرانية".

“We should combat and contain the threat [of Nasserism] in the East coast of the Mediterranean to prevent shedding blood on the Iranian soil ”
  
من هنا خطة الشاه بدعم شيعة لبنان واعادة تنظيمهم طائفيا من خلال احياء المظلومية الشيعية لمواجهة المد الناصري العروبي.. جملة ضابط السافاك هذه تذكرني بجملة  قالها مسؤول في الحرس الثوري الايراني قبل بضعة سنوات ابان الحرب على  تنظيم "الدولة الاسلامية" : "نحارب داعش على ابواب بغداد ودمشق لكي لا نضطر الى محاربتهم على ابواب طهران".

بين الجملتين اكثر من نصف قرن .. تختلف الانظمة السياسية وتختلف تبعا لذلك الايديولوجيات .. ولكن المنظور الجيوسياسي الايراني يبقى ثابتا.. منطق "الدولة" الايراني يعمل بمسلمة ان العربي هو تهديد لأيران مهما تغيرت ايديولوجيته .. لاغرابة ان ضابط السافاك الايراني الذي يخطط لاحياء المظلومية الشيعية في جنوب لبنان لا يرى طابع العروبة الناصرية العلماني الذي قمع الاسلام السياسي السني في مصر.. لأن مفردة "العروبة" في القاموس الايراني هي مرادف فكري لمفردة "السُنة".. وهذه القراءة المذهبية الايرانية هي في صميم الكارثة السياسية التي يعيشها العراق والمنطقة اليوم.

2020/04/01

استكان شاي مع مِس بيل


 

قرأت موخرا كتاب "خيانة القلب" للكاتب البريطاني دافيد برايس جونز..  وهو كتاب مكرس لنقد الشخصيات البريطانية التي يعتبرها جونز خائنة لبريطانيا لانها احبت او تبنت قضايا بلدان اخرى .. وهو يبدأ بِـ توماس بَين الذي ناصر الثورة الامريكية التي انهت الوجود البريطاني في امريكا وينتهي بـِ كيم فيلبي الذي ناصر الشيوعية وتحول الى جاسوس لحساب الاتحاد السوفيتي.. برايس جونز  يعتبر غيرترود بيل (المعروفة عراقيا بـ مِس بيل) واحدة من هولاء الخونة.. لا بل هو يعتبرها الانموذج الامثل "للعروبيين" البريطانيين المتعاطفين مع القضايا العربية .. وهو في الصفحة ١٤١ يقول منتقدا ملايين الاوربيين الذين نزلوا للشوارع عام ٢٠٠٣ في مظاهرات مناهظة للغزو الامريكي للعراق بانهم احفاد غيرترود بيل حتى وان كانوا لا يعرفون من هي

Those who marched in European capitals to demonstrate against war with Saddam Hussein were Gertrude Bell’s heirs, even if they had no idea who she might have been   

كيف حصل ان مس بيل التي يعتبرها الكثيرون عندنا عميلة بريطانية تحولت الى خائنة لبريطانيا.. نحن هنا امام تناقض اضداد.. برايس جونز في ادانته لـ مس بيل لا يعطينا حجج كافية وهو يكتفي باراء عامة عن عدم قدرتها عن التميز بين عاطفتها المنحازة للعرب وبين مصالح الامبراطورية.. ولكن من يطلع على وثائق الارشيف البريطاني والكتب المنشورة عن تلك الحقبة.. سيجد ان تهمة الخيانة لـ مس بيل ليست جديدة .. لا بل هي تهمة قديمة تعود الى السنوات الاولى لاحتلال العراق .. واول من اتهمها بذلك هم زملاءها في العمل من الضباط البريطانيين .. آنذاك كانت هناك رؤيتان تتصارعان في "الخارجية البريطانية" فيما يخص مستقبل العراق.. الاولى تبناها ساسة الحكومة البريطانية في الهند وهي الحكومة التي كانت تشرف عن السياسة البريطانية في الهند والخليج العربي .. وهذه الرؤية كانت تطالب بوضع العراق تحت الوصاية البريطانية المباشرة وتعيين حاكم بريطاني يديره مباشرة.. اما الرؤية الثانية فكانت تطالب بتشكيل حكومة عراقية واختيار حاكم عربي لادارة البلد مع اشراف بريطاني

الرؤية الاولى كانت تبرر مشروعها بالقول بأن العراق بلد غير متجانس اثنيا ومذهبيا وان العراقيين يفتقدون للمؤهلات الكافية لادارة مثل هكذا بلد معقد.. والتيار المدافع عن هذه الرؤية كان يخطط حتى لجلب اعداد كبيرة من الهنود وتوطينهم في العراق وتحويل ارض العراق الخصبة والمهملة من قبل سكانها الى سلة غذاء للمنطقة باكملها.. وقائد هذا التيار في العراق هو ارنولد ولسن الذي عمل حاكما للعراق قبل وبعد ما يسمى بـِ "ثورة العشرين".. وهو كان معروفا باساليبه العنيفة مع العشائر مما اجج التمردات العشائرية لاحقا.. وهو اول من اتهم مس بل بتهمة الخيانة لانها لم تكن توافقه في تحليله للوضع العراقي وثانيا لان ارائِها كان لها صدى في الخارجية البريطانية.

 اما الرؤية الثانية فكان يدافع عنها تيار ثاني مكون من بريطانيين عايشوا العرب ويتكلمون لغتهم ويتعاطفون معهم.. وهولاء وان كانوا يقرون بعدم تجانس النسيج الاجتماعي العراقي وبعدم توفر المؤهلات الادارية والسياسية عند العراقيين انذاك .. ولكنهم كانوا يعتقدون بأن من الممكن تأهيلهم لهذه المهمة ضمن منظور ان الاخطاء هي جزء من مسار التعلّم .. هذا الفريق كان يضم اغلب فريق "المكتب العربي" في القاهرة ومنهم "لورنس العرب".. وممثلته في العراق هي مس بيل .. ورؤية هذا التيار لمستقبل العراق هي التي فرضت نفسها تدريجيا في اروقة الخارجية البريطانية.. وعندما نفهم ذلك نفهم لماذا يعتبر الكاتب دافيد برايس جونز ان المس بيل خائنة ولماذا يعتبرها ممثلة "التيار العربي" في وزرارة الخارجية البريطانية .. لانها بنظره مسؤولة عن مسار "عرقنة" القرار السياسي العراقي.. وبالتالي تهميش الدور البريطاني تدريجيا واخراجه من العراق لاحقا.. وهذه وجهة نظر سياسية شائعة في صفوف اليمين البريطاني الذي يعتقد ان بعض ابناء جلدتهم ساهموا في تدمير الامبراطورية لانهم تبنوا ودافعوا عن قضايا بلدان كانت تحت سيطرة بريطانيا واستقلت تدريجيا بمساعدة  هولاء "الخونة" مما ساهم في نهاية المطاف بتقليص نفوذ الامبراطورية البريطانية وتفتيتها

بلا شك ان غيرترود بيل  هي شخصية فريدة .. فهي اول امرأة بريطانية تحصل على شهادة عليا في التاريخ من اوكسفورد.. من هنا ولعها بالتاريخ العراقي القديم .. وهي تتكلم سبع لغات ومن ضمنها العربية.. وهي بعد ذلك مغامرة جابت نصف العالم انذاك .. وهي متسلقة جبال من الطراز الاول.. واحدة من اصعب قمم جبال الالب في سويسرا لازالت تسمى باسمها ("غيرترود شبيتسه" بالالماني) لانها كانت اول من تسلقها.. لقد قيل وكتب الكثير عنها مدحا وقدحا وهذا قدر الشخصيات التي اثرت في التاريخ .. كل واحد يراها حسب منظوره.. عدد كبير من المختصين بالشأن العراقي انتقدوها كثيرا لانها بنظرهم حالمة ارادت تطبيق فكرة العراق التاريخي على واقع اجتماعي وديني متشظي وغير متجانس.. اما ثلة "محللي" الشأن العراقي الذين استخدمتهم امريكا في التحضير لمشروع غزو العراق فانتقدوها لانها برأيهم همشت رجال الدين الشيعة وبالتالي همشت الشيعة وبالتالي خلقت نظام سياسي غير متوازن طائفيا.. لذلك قُدِّم الاحتلال الامريكي في البداية كتصحيح "للدولة السنية" التي رسمتها المس بيل بحسب رأيهم.

نعم المس بيل كانت تمقت رجال الدين الشيعة وهي قد همشت دورهم السياسي انذاك لانها كانت تعتقد بأنهم اكبر مشكلة سياسية امام مشروع بناء الدولة لان سلطة الفتوى التي يتمتع بها رجل الدين الشيعي هي نقيض لمبدأ القانون.. وهذا ما قالته في احدى رسائلها لوالدها حيث تطلب منه ان يتصور للحظة رجال الكنيسة الانكليزية يتدخلون في الشأن العام ويصدرون فتاوى لها الاولوية على قانون البلد :

It's as you had a number of alien Popes permanently settled at Canterbury and issuing edicts which take precedence of the law of the land  

من يستطيع اليوم ان يلوم المس بيل على هذا التشخيص .. لقد احتاج البعض الى مئة عام ليفهم ما فهمته مس بيل .. مئة عام لكي نحصل على اهزوجة: "منريد قائد جعفري ، تاليها يطلع سرسري".. ماكيافلي له جملة رائعة اذ يقول ان "الزمن هو أب لكل الحقائق".. بمعنى ان الزمن كفيل بكشف وتوضيح الحقائق.. والسنوات السبعة عشر الماضية كشفت ووضحت الكثير من الحقائق .. والاهم هي انها اعادت للدولة التي رسمتها مس بيل بعض ابعادهها الايجابية التي غيبتها ضوضاء المظلومية.. الزمن جعلنا نقارن بين عراقين وبين انموذجين .. بين عراق التكنوقراط الذي بنى دولة عصرية.. وعراق المشعوذين الذي انتج دولة فاسدة .

اتخيل الان  ذهنيا مس بيل .. اتخيلها وهي ترى عراق اليوم .. اتخيلها تستحضر المثل الانكليزي المشهور : 
where ignorance is bliss, it is folly to be wise 
حيثما تكون الجهالة نعيما، من الجنون ان تكون حكيما.