2025/04/09

بيتكوين قريش .. لماذا انهارت "البورصة" الكوفية؟؟

عِلم الاجتماع السياسي يعلمنا ان الأحداث السياسية لا تحدث بضربة عصى سحرية.. على طريقة "كن فيكون".. الاحداث السياسية تندرج ضمن مسار.. ولها شروط إمكانية.. وتحكمها "قوانين الجاذبية" الاجتماعية والسياسية.. وانت تبعا ذلك لا تستطيع دراسة وفهم حدث ما من دون استحضار المسار الذي انتجه..ولتوضيح مفهوم المسار من دون الدخول في تعقيدات مصطلحيّ "السنكروني" و"الدياكروني" التي يتضمنها مفهوم المسار.. تستطيع ذهنيا ان تضع كوفة الحسن على سكة حديد وتدفعها الى الوراء في الزمن.. وتبدأ بمعاينة محطاتها واحدة تلو الاخرى.. مِن كوفة سعد ابن ابي وقاص.. مرورا بكوفة سعيد بن العاص.. وصولا الى كوفة عليّ بن ابي طالب.. عودة جينيالوجيّة للأصول لفهم "كيف وصلت الأمور الى ما هي عليه" عند استخلاف الحسن.. وإذا ما قمنا بذلك فسوف نحصل على فرصة أكبر لفهم الديناميكية السياسية التي كانت سائدة في كوفة الحسن.. وبالتالي فهم العوامل التي أدت الى انهيار الحسن.. ومن دون ذلك سنبقى في حيص بيصيّة الطبري والبلاذري.. رواية تناقض رواية.. رواية تنطح رواية.  

 الكوفة في نشأتها كانت "مدينة" تسكنها قبائل جاءت من الجزيرة العربية وخصوصا من اليمن أيام فتح العراق.. يختلف المؤرخون في الكثير من تفاصيل نشأة الكوفة.. ولكن هناك اجماع شبه تام على ان "التخطيط العمراني" للكوفة منح كل قبيلة "خطة" او حياََ خاصاََ بها.. وبمرور الوقت شهدت الكوفة هجرات متتاليةمن قبل خليط من القبائل تسميها السرديات الكبرى بـِ "الروادف".. وكثير من هذه الموجات الرادفة كانت من قبائل الردة.. التي لم يُسْمح لها في البداية بالالتحاق بالجيوش الأولى التي ذهبت للعراق.. وعامل انعدام الثقة بهذه القبائل المرتدة آنذاك هو الذي برر هذا المنع.. وعمر بن الخطاب هو الذي سمح لها لاحقا بالذهاب للعراق.. وهذه الهجرات المتتالية سببت "تضخم سكاني" في الكوفة.. وبمرور الوقت أصبح عدد الروادف أكثر من سكانها الأوائل.. وهنا ظهرت أولى بوادر توتر "مناطقي" في الكوفة بين الاولين والمتأخرين.

 وهذا التوتر المناطقي لا يمكن فصله عن توتر "طبقي" ذو دوافع اقتصادية.. فالتراكم الاقتصادي الهائل الذي شهدته الكوفة آنذاك بفضل أموال السواد.. وقصص الغنائم الهائلة لمعارك الفتح الاولى.. جعلت من "العراق" وبالتحديد الكوفة ذات جاذبية مغناطيسية لهجرات القبائل.. ولا تحتاج الى معرفة كبيرة في السايكولوجيا البشرية لكي تفهم ان الدافع المادي كان عنصرا مهما في أسباب مشاركة كثير من هذه القبائل في "فتح" العراق.. المؤرخون القدامى كما الباحثون المعاصرون في الشأن الإسلامي لا يتفقون بخصوص تفاصيل اسباب الصراع الذي شهدته الكوفة آنذاك.. فتناقض الروايات ولا منطقيتها هنا كما في مواضيع أخرى "يشيب له الولدان".. وسلوك من تسميهم السرديات الكبرى بـِ "القراء" وتقلباتهم السياسية لا زال يشكل نوع من الاحجية لكل عقلي منطقي.. ثم كيف لمدينة بحجم الكوفة ان تحوي الاف من قراء القرآن في ذلك الوقت المبكر من الاسلام؟؟ يتساءل باحث معاصر ذهب حد التشكيك بالمعنى الدارج لمفردة القراء في هذا الإطار الكوفي.. وافترض لها اصلا جغرافيا ("اهل القرى" ممن أوكلت لهم ادارة أراضي السواد) لتفسير سلوكهم المنفعي في هذا الصراع.. فموقف القراء من قضية التحكيم لا يمكن فهمه من دون هذا الدافع الاقتصادي.    

 انا شخصيا عندما اسافر في التاريخ واجد نفسي امام مثل هكذا فوضى.. الجأ الى منهجية بسيطة استعيرها من ثوابت الأنثروبولوجيا والتاريخ.. فالتاريخ هو "مختبر" يحوي على عينات هائلة من السلوكيات البشرية.. وهذا المختبر يعلمنا ان البشر وتحت ظروف تاريخية متشابهة يتصرفون بنفس الطريقة.. من هنا المقولة المأثورة: "لا جديد تحت الشمس".. أمس كما اليوم.. انظر من حولك وشاهد كيف يتصرف البشر عندما يجدون أنفسهم فجأة ام مصدر ثروة هائل.. ثم بعد ذلك اربط ذلك بـِ قانون التنافس البشري.. وأخيرا بقانون الندرة (موارد محدودة.. وحاجات ورغبات غير محدودة).. ستحصل دائما على فئة قليلة "رابحة" وشرائح كثيرة "خاسرة".. وبالمحصلة حسد وغيرة وضغائن وصراعات ونظريات مؤامرة ومذاهب الخ.. من الدرهم الى الدولار.. ومن "بستان قريش" الى البيتكوين.. السلوكيات البشرية واحدة.    

 استحضار هذا الثابت التاريخي وربطة بالروايات المتناقضة التي وصلتنا.. سيمكننا من طرح فرضية عامة بخصوص جوهر الصراع الذي عرفته الكوفة آنذاك.. فحوى هذه الفرضية هو ان ثروات ارض السواد مكنت قبائل الفتح الأولى او ما تسميهم السرديات بـِ "اهل الأيام" من ان تعيش في بحبوحة اقتصادية.. فمجموع الغنائم الكبيرة التي حصلوا عليها إضافة لمبالغ الفيء من أراضي السواد.. جعلت من بعض الشرائح (وخصوصا اشراف القبائل وأصحاب الرياسة فيها) تغتني ماليا.. وهناك شرائح اكتفت وقنعت.. اما شريحة الروادف التي وصلت اغلبها متأخرة على "المأدبة" (بعد انتهاء معارك الفتح الكبرى وغنائمها الكبيرة) فهي لم تنل ما ناله الأوائل.. وظلت لهذا السبب تنظر بعين الحسد والغيرة لمن أثرى واغتنى.. ومورد الرزق الوحيد الذي تَبقّى لهؤلاء الروادف هو العطاء.

 وعندما نعرف ان عطاء السواد في الكوفة كان يوزع حسب معيار "السابقة".. بمعنى الاسبقية في المشاركة في معارك فتح العراق.. ومعيار الالمعية فيها (ابلى بلا حسنا).. ستفهم عندها ان "اهل الأيام" (رفاق خالد ابن الوليد) كان لهم "عطاء" أكبر من عطاء "اهل القادسية".. و"اهل القادسية" كان لهم عطاء أكبر من عطاء الروادف الذين وصلوا بعد القادسية.. وهنا نحن امام اول "ضغينة" للروادف.. وعندما نضيف الى ذلك معطى اخر.. وهو ان كثير من الروادف كانوا ينتمون الى قبائل كبيرة ومهمة قبل الإسلام.. واحساسهم بالقوة آنذاك هو الذي دفعهم للردة.. وهؤلاء وجدوا أنفسهم في الكوفة اقل قيمة اجتماعية واقتصادية من "اهل الأيام".. "الذين كانوا ما قبل الاسلام اقل منهم منزلة واهمية بالمنظور القبلي.. وأصبحوا يتمتعون بمكانة اجتماعية واقتصادية أكبر منهم.. بفضل عدم ردتهم واسبقيتهم في فتح العراق.. وهنا نحن امام "ضغينة" ثانية لهؤلاء الروادف.. وانت إذا ما زدت طينة الكوفة بلّة!! واستحضرت ان اغلب قبائل الردة من الروادف لم يُسمح لهم بتبوء مناصب مهمة بسبب الشك بولائهم.. ستعثر على "ضغينة" ثالثة للروادف.. وعندما نذهب الى "الجانب الاخر" من "المفارقة" الكوفية.. عندما نذهب الى كوفة "اهل الأيام" واشرافهم ممن استوطنوا الكوفة من بداية تأسيسها.. ستعثر على تململهم من الضغط السكاني الذي سببه الروادف على الموارد وعلى الجغرافية الكوفية.. باختصار.. سنعثر على تململ "مركز" الكوفة من سلوكيات "الأطراف".. وبالتالي على غيرة وحسد أطراف الكوفة من "المركز".. ونحن هنا امام ثابت سوسيولوجي تاريخي نجده في كل المدن.. أمس في الكوفة كما اليوم في بغداد التي شوهتها عشوائيات الأطراف وسلوكياتهم.  

وانت إذا ما قمت باستحضار كل هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية.. وما انتجته من مظلوميات وشكايات.. وقمت باستيعاب مفاعيلها سايكولوجياََ.. من احباطات وتنافس عشائري وضغائن.. ستجد نفسك في نهاية المطاف جالس برفقة "الاشعث ابن قيس" على برميل بارود اسمه الكوفة!! لا غرابة ان الكوفة كانت مدينة صعبة الحكم.. وكانت تُبَدِّلُ وِلاتها كما تُبَدَّلْ الثياب.. من سعد ابن ابي وقاص.. مرورا بـِ عمار ابن ياسر.. ثم الوليد ابن عقبة.. وصولا الى سعيد ابن العاص.. كانت الشكايات من الولاة ثابت سياسي.. اما الذرائع التي كانت تقف خلف هذه الشكايات فهي متغيرة.. مرة تحت ذريعة ان سعد ابن ابي وقاص "لا يقسم بالسوية".. وأخرى تحت ذريعة ان عمار ابن ياسر "غير كاف ولا مجزِِ ولا عالم بالسياسة".. وثالثة ان الوليد ابن عقبة "صلى بالناس سكران"(الطبري يقول ان هذه الذريعة مفبركة من بعض رجالات الكوفة "بغيا وحسدا").. ورابعة تحت ذريعة ان سعيد ابن العاص قال: "السواد بستان قريش".. باختصار تتغير الذرائع.. ولكنها كلها تقول لنا ثابت صراع المكونات الكوفية على موارد ارض السواد وعدم رضاها "بالمقسوم". 

الغريب.. وهنا نأتي "لرباط سالفتنا".. هو ان هذه الديناميكية الكوفية المتشظية تختفي فجأة في روايات الطبري والبلاذري التي تتطرق لحدث انهيار الحسن في الكوفة.. من هنا شمولية عبارة "اهل الكوفة" في رواية البلاذري والتي تقول لنا: "لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه".. الحسن في هذه الرواية يحصل على نسبة ٩٩٫٩٩٪ من الأصوات في "الانتخابات" الكوفية!!!  لا غرابة ان هذه "الشعبية" الكاذبة لا تصمد سوى بضعة أسطر.. لأننا ما ان نصل الى نهاية الرواية حتى نكتشف ان الحسن تعرض الى محاولة اغتيال من قبل نفس "اهل الكوفة": "فوثب عليه أهلُ الكوفة وانتهبوا ماله، وحرّقوا سرادقه، وشتموه وعجّزوه"!!! من هنا شعور السخافة المنطقية الذي ينتابنا ونحن نقرأ هذه الرواية.. شمولية عبارة "اهل الكوفة" هنا لا تقل سخافة عن شمولية عبارة "اهل العراق" التي يرفضها فلهاوزن في السرديات الكبرى.. لأنها كليشات مختزلة للمعقد ولا تعكس الواقع التاريخي بأمانه.. وبالتالي فهي ضارّة معرفيا.

 و"غربتنا" المعرفية امام رواية "أحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه" تزداد أكثر حين نستحضر شيء اخر.. وهو ان "ابيه" ايضا لم يحصل على هذه الكمية المبالغ فيها من الحب عندما جاء الكوفة!! وهناك قرائن كثيرة تقول لنا ان الكوفة التي اتخذها عليّ عاصمة خلافته (لكي يكون قريبا من أموال السواد) لم تكن كلها "علوية".. فعندما أرسل عليّ عمار ابن ياسر للكوفة قبل معركة الجمل ليطلب المدد.. "لم يخرج [معه] الا جزء من اهل الكوفة" كما يقول لنا هشام جعيط.. وموقف والي الكوفة آنذاك أبو موسى الاشعري الرافض للفتنة يعبر عن موقف اغلب الكوفيين الذين لم يشاركوا في حرب الجمل.. لان شرائح كثيرة في الكوفة كانت تدين بولائها لعثمان.. ومنهم من كان يملك علاقات مصاهرة مع والي عثمان في الكوفة سعيد ابن العاص.. وهؤلاء من ذوي الرياسة في قبائلهم ولهم اتباع ومريدين ومنتفعين.. بمعنى كان لهم ثقل اجتماعي وبالتالي سياسي.. وهناك شرائح اخرى وان لم تكن عثمانية الهوى كانت ضد الانقلاب الدموي والطريقة البشعة التي قتل بها عثمان.. وعليّ جاء الكوفة برفقة هؤلاء القتلة.. ثم هناك شرائح كان لها مصالح اقتصادية كبيرة في السواد وخصوصا طبقة الاشراف.. وهؤلاء كما "الرأسماليين" في كل زمان ومكان كانوا ضد كل اضطراب سياسي وفوضى.. لذلك كانوا ضد الاضطرابات السياسية التي احدثتها "فتنة" قتل عثمان وحرب الجمل.. لا غرابة بعد كل ذلك ان كثيرين من سكان الكوفة "اعتزلوا" عليّ وحروبه.. هناك من غادر الكوفة.. وهناك من رفض القتال في صفوف عليّ (المجمل بن سماعة وسماك ابن مخرمة على سبيل المثال).. وهناك من تم تهجيره قسرا.. وهناك من بقيَّ فيها على مضض.. حيث بيوتهم ومصالحهم.. ولكنهم لم يكونوا "علويون".. لا هم ولا عشائرهم.

 السرديات الكبرى تغص بتفاصيل صراع عليّ مع الخوارج.. ولكنها تمر مرور "الكرام" على معارضة هذه الشرائح الكوفية لـِ عليّ.. وعليك ان تقرأ مئات الكتب والاف الروايات لتجد إشارات عابرة ومتناثرة هنا وهناك.. تقول لك ان الكوفة التي وصلها عليّ بعد معركة الجمل كان فيها أنصار وموالين لعثمان.. وعليك بعد ذلك ان تقرأ ما بين سطور مئات الكتب والاف الروايات لتفهم ان علي بن ابي طالب مارس ضد هؤلاء سياسات قمعية تليق بدكتاتور من القرن العشرين.. من حرق البيوت وهدمها الى التهجير القسري.. وعليك بالابتعاد عن "جادات" السرديات الكبرى والدخول في "درابينها".. لتجد تفاصيل كثيرة ومتناثرة ما بين السطور تدلك على كوفة أخرى.. على سبيل المثال لا الحصر: ستجد ان عشيرة باهلة لم تكن مؤيدة لـ عليّ.. لهذا السبب "ابعدها [عليّ] الى الديلم".. وستجد ان جرير بن عبد الله (زعيم قبيلة بجيلة والتي كانت من أوائل العشائر التي سكنت الكوفة و"ابلت بلا حسنا" في معركة القادسية).. جرير هذا انشق مع نصف عشيرته وقاتل الى جانب معاوية في معركة صِفيّن.. وبسبب ذلك "غضب عليّ عليه فَشعّث داره وحرق مجلسه".. ونفس الشيء حصل لبيت أبي اراكة التي كانت "دارا مشهورة في الكوفة" وقام عليّ بحرقها.. لأنه كان من الاشراف المعارضين لـِ عليّ.. وستجد ان بني جسر (من عشيرة محارب) لم يطيعوا عليّ "فغضب عليهم وامر بهدم دورهم".

وانت إذا ما كنت تتمتع بلياقة فكرية عالية.. وذهبت أكثر في عملية "الحفر" هذه.. فأن "معولك" سيرتطم بروايتين من العيار الثقيل.. وستجد في الرواية الاولى (وهنا ارجو ان تمنحني كل انتباهك) ان بنو الارقم رفضوا لعن وشتم عثمان بن عفان من على منابر مساجد الكوفة!!! (نسخة منه للكويتب الشيعي الذي يريد ان يقنعننا ان ظاهرة السب والشتم بدأت في الدولة الاموية !!!).. اما في الثانية فستجد ان مساجد كوفية كانت تسمى "بالمساجد "الملعونة" لأنها معارضة لـِ علي!! وهنا ستتوقف عن "الحفر" لالتقاط انفاسك ومعاينة خريطة الكوفة "اركيولوجياََ".. ستجد ان كل حي كوفي كبير كان فيه مسجد.. عندها وعندها فقط.. ستفهم بالاستنتاج المنطقي ان الكوفة كان فيها احياء كثيرة معارضة لـِ عليّ!! وهذا ما لا تقوله لك رواية: "لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه "!!

وعلينا اخيراََ.. للحصول على صورة مجسمة أكثر وضوحا لكوفة عليّ.. ان نضيف عامل اخر مهم وهو العامل الاقتصادي.. فـَالفتوحات التي بدأت في التناقص في عهد عثمان.. توقفت كليا في عهد عليّ بسبب مفاعيل "الحرب الاهلية".. أضف الى ذلك ان الكثير من الامصار الغنية والبعيدة خرجت تدريجيا عن سيطرة عليّ.. مصر وقعت تحت سيطرة معاوية.. والأحواز التي كانت تحت امرة الخريت ابن راشد الناجي (العثماني الهوى والذي كان يطالب بدم عثمان) توقفت عن دفع أموال الجباية.. وانت عندما تضيف الى كل ذلك.. الإدارة الاقتصادية السيئة لـِ عليّ والتي تركت بيت المال "بلا عملة صعبة".. ستفهم سبب انهيار "البورصة" الكوفية.. مما ترك كوفة عليّ على حافة الإفلاس.. الروايات الشيعية تبرر "تبخر" بيت المال بعدالة علي في توزيع ما في بيت المال!! كما لو ان عليّ كان يدير جمعية خيرية وليس دولة تحتاج الى سياسة اقتصادية رصينة وتدبير مالي.. (وهنا مداخلة سريعة.. فنحن نمتلك قرينة تدلنا على "كرم أخويّ"بعيد عن معيار "السابقة" الاسلامي.. فاختة شقيقة عليّ وكنيتها "ام هاني" والتي كانت من الطلقاء بمعنى انها اسلمت بعد فتح مكة.. كما اغلب أقارب عليّ.. "ام هاني" هذه كانت تملك واحد من أفضل بيوت الكوفة!! وهذه المعلومة تقول لنا ان "قانون" "الاقربون أولى بمعروف السلطة" كان سائدا في كوفة عليّ.. وهذا "القانون" ثابت تاريخي نجده في كل زمان ومكان.. على كوكب الأرض ليس هناك ملائكة).

 فقط عندما نستحضر كل هذه العوامل سنفهم لماذا تحولت الكوفة.. بعد أربع سنوات من حكم عليّ.. من اغنى الامصار الى أفقرها.. وسنفهم أيضا تململ وغضب اشرافها من "انهيار البورصة" الكوفية (و اشراف الكوفة هُم المعادل النخبوي لـِ "وول ستريت" اليوم)!!  وسنفهم سبب الانشقاقات الكثيرة التي شهدتها الكوفة في السنة الأخيرة من حكم عليّ كما تقول لنا المستشرقة الإيطالية لورا فيتشيا فاليري.. امس كما اليوم.. المدن والدول الفقيرة تُصَدِّر سلعة وحيدة.. وهي المهاجرين.. أمس كما اليوم.. السلوكيات واحدة: "ماكو" نفط.. "ماكو" رواتب.. "ماكو" رواتب.. نقمة ومظاهرات وفوضى.. وهنا  سنفهملماذا بدأ اشراف الكوفة آنذاك بالتواصل مع معاوية كما يقول لنا طه حسين.. لأنهم  وبخبرة "الرياسة" التي يمتلكونها فهموا علامات "الانهيار" التي كانت امامهم.. فهموا ان عليّ بلا بوصلة سياسية.. "لا رأي له" بحسب سعد بن قيس الذي كان مقرباََ من عليّ.. مصنع الأحاديث الشيعية أنتج لاحقا مقولة مضادة لهذه المقولة نسبها لـِ عليّ: "لا رأي لمن لا يطاع"!! لتبرير فشل عليّ في الكوفة.. نحن امام إقرار غير مباشر بـِ فشل عليّ في إدارة الكوفة.. ولكن "الامام" لا يتحمل أي مسؤولية في ذلك الفشل.. مفهوم القيادة في الإسلام يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".. اما مقولة "لا رأي لمن لا يطاع".. فهي تقول لنا ان "الرعية" الكوفية هي المسؤولة عن ضياع وفشل "الراعي"!! لا جديد.. "الائمة" في السردية الشيعية هم دائما ضحايا رعيتهم.. من هنا الحديث المفبرك "ما غلبني معاوية ولكن حمقى القوم خذلوني".. كل خصال ومعارف وقدرات الائمة الاسطورية تختفي فجأة امام "حمقى القوم"!! كما لوان معاوية كان يحكم ملائكة!!

  باختصار.. تفكيك عبارة "اهل الكوفة" يضع امام اعيننا كوفة أخرى لا نراها في رواية "لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه".. يضع امامنا كوفة مغايرة نجد فيها أشياء أخرى غير الحب والطاعة لـِ عليّ.. نجد فيها ولاء لعثمان.. نجد فيها أُناس يرفضون لعن عثمان من على منابر المساجد.. نجد فيها مساجد ملعونة لأنها معارضة لـِ عليّ.. نجد هدم وحرق لبيوت المعارضين.. نجد تهجير قسري.. وبالتالي.. نجد عليّ في "المحيط" الكوفي التقليدي المتلاطم الذي عرفناه في ولاية سعيد ابن العاص.. نجد عليّ بحجمه الطبيعي الانثروبولوجي.. عليّ الغير أسطوري.. علي لا يمتلك قدرات قيادة.. عليّ "محدود" وبلا قدرة على التحكم بعنان "الفرس" الكوفي الجامح.. عليّ عاجز على إدارة مدينة كالكوفة.. وصدى هذا العجز نجده في مقولتي "لا رأي له" و "لا رأي لمن لا يطاع"!! و"النقد الداخلي" لهاتين المقولتين يقول لنا بطريقة غير مباشرة.. ان عليّ كان محاطاََ بشخصيات قوية (من عيار الاشعث بن قيس) يمتلكون كاريزما وتحالفات عشائرية قوية مكنتهم من فرض آرائهم وسياساتهم على عليّ.. لا بل ان أحد الباحثين المعاصرين في التاريخ الإسلامي يقول لنا ان سلطة عليّ وهيبته سقطت في صِفّين.. عندما فرض عليه الاشراف (وبالتحديد الاشعث بن قيس) قرار التحكيم.. بمعنى ان الاشراف سحبوا منه اهم قرار "سيادي" وهو قرار الحرب والسلم.. وهو يقول ان "فيتو" الاشراف هذا هو الذي منع عليّ من محاربة معاوية خلال السنوات اللاحقة.. لا غرابة ان هذا الباحث يقول لنا ان فشل عليّ في الكوفة هو فشل "مثير للشفقة".. والتعبير الإنكليزي الذي يستخدمه أكثر وقعاََ.

Pathetic failure

و"عودة الى اغنامنا".. كما يقول التعبير الفرنسي.. عود على بدء.. عودة للحسن ابن "ابيه".. تفكيك عبارة "اهل الكوفة" كشف لنا ديناميكية كوفية متشظية.. وهذه الديناميكية تُبَيَنُ لنا شيئاََ في غاية الأهمية.. وهو ان فشل الحسن السياسي لم يأتي من فراغ.. فكل ما تقدم يُبَيَنُ لنا ان فشل الحسن السياسي يندرج ضمن مسار فشل ابيه.. ومرتبط ارتباطاََ عضوياََ بـِ فشل ابيه.. وهنا نكون قد انتهينا من تحضير خلفية "لوحتنا".. وعلينا الان البدء برسم مشهد سقوط الحسن ضمن هذه الخلفية السوسيولوجية للكوفة.

يتبع 

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق