ديفيد ساترفيلد، منسق الشؤون العراقية ومستشار وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس قال اول امس أن القيادة الإيرانية تتحرك «على أعلى المستويات»، وربما بقرار سياسي، للجم الميليشيات الشيعية التي تدعمها في العراق، وهو ما يفسر التراجع الكبير في الهجمات بالعبوات خلال الأشهر الماضية .. في نفس اليوم قال السفير الامريكي لدى العراق رايان كروكر ان واشنطن تعتقد أن ايران ربما كانت وراء وقف لاطلاق النار أعلنه رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر وانها ساعدت في ضمان سريان وقف اطلاق النار في مناطق تتمتع فيها بالنفوذ .. واضاف " رأينا تراجعا في أعمال العنف من ميليشيات متطرفة.. ليس توقفا بل تراجعا. رأينا دعوة مقتدى الصدر للتجميد ثم دعوته لاستمرار ذلك التجميد. أشار الايرانيون.. ليس لنا لكن لاخرين.. الى أنهم لعبوا دورا في كل هذا.
لمن اشار الايرانيون .. لم يعد سرا اليوم ان قناة الاتصال الاوثق بين واشنطن وايران هي عبد العزيز الحكيم .. زيارة الحكيم الاخيرة الى البيت الابيض حتما كانت ضمن هذا الاطار .. السؤال هو لماذا التهدئة الان؟ .. ترى ما الذي استجد على الساحة العراقية في الاشهر الاخيرة ؟ هناك جملة في تصريح ساترفيلد تسترعي الانتباه حيث يقول ان ايران اتخذت قرارالتهدئة في العراق لانها "تنبهت الى ان المجموعات التي تدعم في العراق قد تضر بمصالحها "ذات المدى البعيد :
Satterfield agreed that Iran was not acting out of "altruism" but rather from "alarm at what was being done by the groups they were backing in terms of their own long-term interests."
جملة "مصالحها ذات المدى البعيد" هي جملة غامضة تشير من دون ان تدل .. ما هو واضح ان فيها لهجة تهديد مبطن لايران .. ويبدوا ان هذا قد ازعج الايرانيين رغم ان لهجة كروكر كانت الطف بحسب تقرير رويترز .. ما هي تلك المصالح الايرانية الحيوية في العراق التي يرسل الملا الايراني من اجلها التلميذ مقتدى لدراسة فقه النكاح .. بينما يرسل عبد العزيز الحكيم الى واشنطن "لاستكمال العلاج" ؟ ماذا وراء التهدئة الايرانية لبيدقها المشاكس في هذه المرحلة ؟؟ قد اكون مخطئا ولكنني لا ارى غير مستجد واحد ذو اهمية على الساحة العراقية يجعل ايران تهدئ اللعبة وتحاول عدم الضرر "بمصالحها ذات المدى البعيد" في العراق: الاستدارة الامريكية نحو السنة بالاحرى نحو الشيخ السني.
لقد فتحت ايران مجالها الجوي لامريكا في حربها في افغنستان .. اسقاط طالبان وبعد ذلك صدام كان هدية لم تحلم بها ايران يوما .. في السنوات الاولى من الاحتلال حاولت امريكا ان تتوافق مع الاجنحة الايرانية "المعتدلة" وتلميذها عبد العزيز الحكيم وهذه دوائر بازارية لا ترفض "التعامل" بسعر السوق الذي تفرضه امريكا .. ولكن الاجنحة المتشددة رأت ومع تقادم التخبط الامريكي انها تستطيع مضاعفة الربح .. وحجتهم ان بضاعة امريكا في العراق كاسدة ويمكن شراها بابخس الاثمان .. وهناك فرصة تاريخية لايران في السيطرة على المنطقة و يجب ان لاتضيع تلك الفرصة التي قد لا تتكرر خلال قرون.
وامريكا ادركت منذ فترة ورطتها و خصوصا مع اعتمادها على حلفاء هم لايران اقرب .. "كيف حصل وبعد اربع سنوات احتلال اننا لم نكن نسيطر على شارع حيفا الذي لا يبعد اكثر من كيلومتر عن المنطقة الخضراء؟" .. هذا هو السؤال المدمر الذي طرحة الامريكي العادي في السنة الماضية .. وكان جواب جنرالاته قبل ساسته انهم قد اعتمدوا على "حلفاء" ليس فقط غير قادرين على الاعتماد على انفسهم اداريا و سياسيا وعسكريا ولكن ، وهنا الاهم، انهم "ارهف سمعا" لمتطلبات الاجندة الايرانية .. الاستدارة اكثر نحو السنة جاءت نتيجة لهذا الاستنتاج .. استمالة الشيخ وبالتالي تكوين قوات "الصحوة" ما هي الا تجسيد لتلك الاستدارة .. او بالاحرى هو تجسيد لصفقة مع بعض فصائل المقاومة السنية ذوي الارتباطات العشائرية.. في السياسة الامريكية ليس هناك اعداء دائمين ..هناك مصالح ..هكذا تكلمت كوندليزا رايس اول امس في اشارة كودية مبطنة الى ايران.
المعنى العسكري الميداني لاعتماد الامريكي على قوات الصحوة هو اعلان غير مباشر بفشل قوات الجيش والشرطة الحكومية .. والمعنى السياسي لها هو اعلان عدم ثقة بالحكومة الشيعية .. هذا هو المعطى الاهم على الساحة العراقية في الاشهر الاخيرة .. ايران تستطيع عرقلة عمل امريكا في العراق وهي خلال السنوات الماضية قد فعلت ذلك .. ولكن امريكا تستطيع توزيع الادوار من جديد في الداخل العراقي وفي الاقليم ..هذه هي الرسالة الامريكية لايران.. ومن هنا قرار التهدئة الايرانية الاخيرة الذي اتخذ على اعلى المستويات كما يقول ساترفيلد .. ومن هنا قرار ارسال مقتدى الى المدرسة.
سؤال الساعة الان في الساحة العراقية هو كيف سيتم التعامل مع قوات الصحوة او كيف ستوظف تلك القوة داخل الاجهزة الحكومية .. فقط ساذج سيعتقد ان الحكومة الشيعية ستسمح لهولاء بالالتفاف عليها من الداخل .. افراد الصحوات باقون على الارض في كل الاحوال .. وهم سيرتدون الاقنعة من جديد في اسؤ الحالات !! اجهزة الشرطة والجيش وبرغم الدعم الامريكي لم تستطع مواجهة تلك الفصائل بالامس ، وهي حتما لن تستطيع مواجهتها اليوم وامريكا تسلحها وتدفع لها .. ولكن السؤال ليس هنا.. اعتقد ان السؤال الاهم هو ما ستفعله امريكا بورقتها الرابحة هذه ؟ اعتقد ان هجرة الصحوات الى الجنوب هي الخطوة الامريكية القادمة .. احياء دور عشائر وشيوخ الجنوب سياسيا هي الخطوة القادمة.
تشييع عشائر الجنوب العراقية في القرن التاسع عشر(انظر اسحاق نقاش .. شيعة العراق) كان مصلحة صفوية حيوية بمواجهة الدولة العثمانية .. كل الباحثين الذين تطرقوا لهذا الموضوع من اسحاق نقاش الى بيير جان لويزار يذكرون ان من اهم اسباب التشيّع انذاك كانت النقمة على الحكومة العثمانية وقد استغل الصفويون ذلك احسن استغلال .. مكونات الهوية تتفاعل مع الظروف التاريخية وهذه مسلمة انثروبولوجية .. وهناك اليوم في الجنوب نقمة .. الاصوات بدءت تعلو ضد فقر الانجازات في المدن والمحافظات الجنوبية .. قبل اسابيع تم خطف شيوخ عشائر شيعة تحالفوا مع شيوخ عشائر سنة وتم قتل ابرزهم .. الاشارة الاهم أتت من بيان بعض عشائر الجنوب المندد بالتدخل الايراني .. ذلك البيان كان بمثابة اعلان حرب .. وخصوصا مع ظهور بوادر انشقاقات عشائرية داخل التيار الصدري .. ابناء البيوتات الشيعية فهموا الرسالة وايران كذلك .. هناك اعادة رسم للادوار في العراق .. الجنوب مقبل على موسم ساخن جدا.