يُحكى ان رجلاً من جزيرة كريت قال ذات يوم ان الكريتيين (سكان جزيرة كريت) كذابين .. ولكن بما انه هو ايضا من سكان تلك الجزيرة فهذا يعني بنفس المنطق انه هو ايضا كذاب ..وبالتالي فيجب اعتبار مقولته عن كذب الكريتيين نوع من الكذب ولا يجب الأخذ بها !! فلاسفة اليونان يستشهدون بتلك الحكاية مثالا على فخ اللغة الاطلاقية التعميمية .. استحضر تلك الحكاية وانا اطالع مقال طالب الشطري المعنون "سمات المجتمع العراقي".. حيث يقول فيه ان العراقيين كذابين لانهم بحاجة الى الكذب .. العراقيون كذابون .. لنفترض .. ولكن "اخينا بالله" هو ايضا عراقي .. مما يعني بنفس المنطق انه هو ايضا كذاب .. وبالتالي فان مقولته الاطلاقية غير مقبولة .. لانها صادرة عن كذاب .
ومثل هذا الحكواتي يسمونهم عندنا مثقفين !! ومثل هذه البهلوانيات الخطابية تسمى عندنا ثقافة !! لنستمع لبعض بهلوانيات الشطري حيث يقول :"الاعتقاد ان العنف ناتج عن المشكلة السياسية بينما الحقيقة التي اراها هو ان المشكلة السياسية سببها الحاجة الى العنف".. الشطري يريد "تفكيك" المجتمع العراقي وتحديد سماته ولكنه يستخدم درنفيسات "اراها" .. هو يعتقد انه يكفي ان يقول "اراها" لكي تتحول الخطابة الى حجة مقنعة..عندما اقرأ لهولاء الحكواتية افهم كيف ولماذا اصبح شخص كمقتدى الصدر قائدا للملايين في بلد يدّعي ابوة الحضارة وامومة الكتابة .
واحدة من مسلمات علم الانثربولوجيا هو ان الخلاف في المجتمعات البشرية ثابت تاريخي .. وان العنف يظهر فقط عندما تنعدم امكانيات حل الخلاف .. حتى الحيوانات لا تلجأ للعنف من اجل "الحاجة الى العنف" .. بل تلجأ اليه لضرورات حيوية كالغذاء او الدفاع عن حدود اراضيها .. بمعنى ان العنف ليس حاجة وانما وسيلة لاشباع حاجة او للدفاع عن حاجة .. العنف/الحرب تندلع عندما يتعذر حل خلاف ما .. من هنا قول منظّر الحرب كلاوزفيتز : ان "الحرب هي ممارسة السياسة بطرق اخرى" .. بمعنى ان الحرب هي محاولة للتأثير على طرق حل خلاف ما او من اجل خلق ارضية او علاقة قوة تهدف الى حل الخلاف لصالح طرف ما .
لقد عودتنا ثقافة الحكواتية على طُرُق لطرح الاسئلة تُغيّب معنى الاسئلة .. وعلى طُرُق لطرح المشاكل تحجب اسباب المشكل .. وهذا ما يقوم به الشطري هنا حين يقول : "سنظل بلد مسدسات وبنادق ومكاوير وجيوش جرارة من الحمايات بسبب فراغنا الروحي وحاجتنا الى مظاهر القوة".. نحن هنا امام ما يمكن تسميته بثقافة الحكواتية التي لا تملك من حجة غير حكم القيمة .. فواحدة من سِمات ثقافة الحكواتية هي انها لا تقول لنا كيف توصلت الى استنتاجاتها .. وما هي المُسَلَّمات والحجج التي مهدت الى ذلك .. في ثقافة الحكواتية يكفي ان تقدم كليشة مُريحة للرؤوس الاسفنجية لكي تُقيم حجتك .
لو كان الفراغ الروحي كما يقول الشطري هو المسؤول عن تحول بلد ما الى " بلد مسدسات وبنادق" لكانت البلدان الاسكندنافية اليوم في فوضى عارمة .. ولو كانت الروحانيات هي المعيار لكانت سويسرا اليوم كـ قندهار طالبان .. فرنسا القرن الخامس عشر كانت اغنى "روحيا" من فرنسا اليوم .. اثر الدين المسيحي كان قويا في نفوس الناس.. ولكنهم كانوا يعيشون في حرب دائمة وفي خوف وتربص دائم .. وغياب الامن هذا هو ما كان يُجبر الناس على حمل أسلحتهم أينما ذهبوا.. بمعنى ان غياب الامن هذا هو ما جعل فرنسا انذاك "بلد مسدسات وبنادق" .. المقاطعات الفرنسية كانت تقاتل بعضها بعضا .. المدن الفرنسية كانت في خصومة دائمة وعراك دائم .. احياء المدينة الواحدة كانت تتقاتل فيما بينها .. وتفاصيل ذلك التاريخ نجدها في كتاب نوربرت الياس "مسار الحضارة".
السؤال الان هو : اذا كان الدين المسيحي وروحانياته غير كافية لخلق "غنى روحي" وبالتالي سلم مدني في فرنسا ذلك الزمان .. فما الذي ساعد اذا على تكوين هذا السلم .. كيف حصل ان فرنسا التي كانت تستمتع بحفلات حرق القطط وقطع الانوف هي فرنسا اليوم .. وبلغة الشطري، ما الذي حصل لكي تتغير فرنسا تدريجيا من "بلد مسدسات وبنادق" الى فرنسا اليوم ؟ طرح السؤال بهذه الطريقة يوجه الاجابة الى افاق اخرى تغيبها اسئلة الحكواتية.
نوربرت إلياس وهو عالم الاجتماع الأشهر في القرن العشرين يقول ان فرنسا كانت تعيش آنذاك في فوضى "لانه لم يكن هناك قوة رادعة قادرة على فرض الاعتدال والنظام بين الناس. وعندما ظهرت سلطة مركزية قوية في بعض المناطق، وبدأت بإجبار الناس على ترك العنف، بدأت فرنسا تشهد تغييراً تدريجيا في سلوكيات الناس وقيمهم".. وبحسب نظرية إلياس فان السلوكيات المتحضرة هي مسار تدريجي وتراكمي نتج عن نشؤ الدولة وتحكمها "بوسائل العنف المشروع" .. هكذا تكلمت السوسيولوجيا التاريخية.
باختصار .. وخلافا لما تقوله اللغة التحقيرية لحكواتية فاشلين فكريا .. العنف ظاهرة كونية ..وهو ليس حصرا على ثقافة بدوية او عراقية او عربية كما تردد الاسطوانة التحقيرية التي اشاعها امثال علي الوردي بين انصاف المتعلمين .. والدولة القوية القادرة على فرض سلطتها هي شرط اختفاء العنف الاجتماعي .. وليس الروحانيات والخزعبلات .. نحن"بلد مسدسات وبنادق" ليس لاننا نعاني "فراغ روحي".. اخر ما نحتاجه هي الروحانيات .. ماذا اعطتنا قرون من قراءة نهج البلاغة ؟ .. رجال دين يسرقون، يغتصبون الاطفال، ويتحرشون جنسيا بـ "الزايرات" !!
لا،لا.. لسنا بحاجة الى روحانيات .. نحن بحاجة الى قوانين ودولة قادرة على فرض هذه القوانين ..نحن بحاجة الى قيم اجتماعية تنظم شؤون الارض التي نعيش عليها .. وليس الى روحانيات وغيبيات.. فارض الرافدين تموت اليوم قحطا بسبب سموم "الروحانيات" .. ما نحن بحاجة اليه هو انسان يحترم القواعد الاجتماعية ولا يسرق او يحرق ممتلكات المجتمع .. وقرون من روحانيتكم فشلت في انتاج مثل هكذا انسان .. فروحانيات مبدأ الشفاعة لم ولا ولن تخلق غير رعاع معاقين اخلاقيا .. لذلك ومن اجل خلق انسان لا يسرق .. يجب ان يفهم الافراد ان كل تجاوز على المجتمع وقواعد المجتمع وممتلكات المجتمع سَيُحاسب ويُعاقب من قبل سلطة رادعة هنا وألان وعلى كوكب الارض .. وليس في يوم القيامة وبحضور محامي دفاع من "آل البيت".
العراق عندما تخلى عن "خزعبلات الملا" انجز وخلال عقود ما انجزته دول اخرى خلال قرون .. ولكن الاسلامجية الشيعة خرجوا علينا يكفرون الدولة العراقية لانشغالها بالماديات واهمالها روحانيات الشعب وحقوقه في اللطم والتطبير .. وهاهم قد غلبّوا "روحانياتهم" وخزعبلاتهم فماذا كانت النتيجة : حرامية مصارف وعلاسة وسرسرية .. آن الأوان للحكواتية الذين ساروا ذات يوم في مواكب ثقافة اللطم وصرخوا بهوسة دولة "آل البيت" الشيعية في الجنوب ..آن الاوان لهولاء لكي يفهموا ان دولة تُديرها ثقافة مفاتيح الجنة لن تنتج غير الحرامية والعلاسة.. وان "روحانيات" صكوك الغفران لن تنتج غير الارواح الميتة والسرسرية.