"من فرنسا اليوم لم يكن هناك في القرن الخامس سوى الانهار والغابات وخليط بشري غير متجانس لم يصبح "فرنسيا" الا بعد قرون طويلة " .. هذه الجملة هي للمؤرخ الفرنسي لافيس .. ساترك جانبا البعد الابستمولوجي فيها والذي يفرق بين الثابت الجغرافي وبين المتغير السياسي التاريخي ..باختصار شديد: سكان فرنسا القدماء لم يكن يعتبرون انفسهم فرنسيين.. وفرنسا الحالية هي مسار تدجين عنيف لخليط من البشر وفرنسته سياسيا.. وما ينطبق على فرنسا ينطبق على جميع الدول ضمن هذا المنظور النقدي للتاريخ.
ولكن ما يستوقفني في جملة المؤرخ الفرنسي هو شيء اخر .. ما يستوقفني فيها هو انها جملة غير قابلة للتطبيق على العراق اليوم ..ليس لان العراق عمره سبعة الاف سنة كما تردد المحكية الاسطورية السخيفة الشائعة عندنا والتي انتهت بقتل العراق .. لا.. ولكن لان حتى العناصر الجغرافية في العراق اليوم قد تغيرت .. فلا مزارع ارض السواد مزارع (كيف وهو اليوم يستورد الطماطة من الاردن) .. ولا انهاره انهار .. فالفرات في طريقه للجفاف بسبب السدود التركية والسورية .. ومناسيب دجلة لنفس السبب في تقلص مستمر.. خصوصا وان سوريا بدأت مؤخرا بسحب المياه من دجلة الذي يمر بها في بقعة صغير في المثلت التركي العراقي السوري.
ومقال النيويورك تايمز قبل ايام يقول ان ماء الخليج المالح بدأ يصل الى القرنة التي تقع في قمة شط العرب في نقطة التقاء نهري دجلة والفرات لقلة منسوب مياه النهرين.. والسدود الايرانية هي سبب اضافي في هذه الظاهرة .. ونسبة ملوحة شط العرب العالية في طريقها لقتل غابات النخيل والقضاء على الزراعة في البصرة .. مما يشكل كارثة بيئية مخيفة.
فما نحن فاعلون امام هذه الظاهرة التي سببها البشر؟؟ لنستمع لأراء بعض العراقيين التي ترد في مقال الـ نيويورك تايمز تعليقا على هذه الظاهرة : محمد سعدون فلاح من ابو الخصيب يقول ان "الماء من الله ولا يجب على دول الجوار حجزه" .. منطق سعدون هذا هو منطق اسماك صغيرة امام اسماك قرش .. وزير الموارد المائية العراقي يقول ان المشكلة هي "تركة النظام الدكتاتوري" .. لما لا.. هل نتوقع كلام اخر من سكنة كوكب المنطقة الخضراء .. نحن فقط بانتظار اليوم الذي سنسمع فيه من "عباقرة" المنطقة الخضراء ان ظاهرة الاحتباس الحراري هي ايضا تركة النظام الدكتاتوري !! فكل شيء جائز في عراق قاسم عطا !!
حسن علوان حمود رجل في السبعين يعيش في بيت من القصب في الاهوار القريبة من شط العرب يقول بحكمة الشيوخ ان السبب يكمن في ان "حكومتنا ضعيفة ولا تعرف غير الكلام " .. ما قل ودل .. والويل للضعفاء في عالم السياسة الدولية .. ولكن واحد من اغرب الاراء التي ترد في مقال النيويورك تايمز هو لنائب مدير الموارد المائية في البصرة رشيد ثجيل مطشر الذي يقول : "لا نستطيع شيئا امام ارادة الله" :
“We can’t control what God does,” said Rashid Thajil Mutashar, the deputy director of water resources in Basra.
من يقول هذا الكلام ليس كائنا سراديبيا ..لا،لا.. من يقول هذا الكلام هو نائب مدير الموارد المائية في البصرة !! نعم نائب مدير الموارد المائية في البصرة !!
التاريخ العراقي يكمل هنا دورة كاملة ..نعم العراق يجد هنا النقطة التي انطلق منها حديثا .. يجد الاطر الفكرية القرووسطوية التي حاولت الدولة العراقية تحرير الرعاع منها .. فما يقوله مسؤول الموارد المائية في البصرة اليوم عن ظاهرة ملوحة شط العرب ينتمي الى نفس المنطق القرووسطوي الذي كان سائدا في بدايات القرن الماضي حين كانت النجف تقرأ كتاب : "السيف البتار على الكفار الذين يقولون المطر من البخار".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق