لك ان تجند كل الائمة والقديسين .. لك ان تجتر ليل نهار خطب وخطابات نهج البلاغة.. لك ان تدعي انك من "فروخ النبي" .. ولك ان تدعي انك تملك وكالة مفاتيح الجنة ودكاكين صكوك الغفران .. ولك بعد هذا وذاك ان تستخدم الفزاعة البعثية لكي تقمع الفقراء فكريا .. لك كل هذا .. ولكن بما انك فاسد .. بما انك في الواقع حرامي .. فان الناس لن تصدقك .. طالما انك حرامي .. طالما انك فاسد ومن العيار الثقيل .. فان خطابك مصاب بمرض فقدان القدرة على الاقناع .. بقاء الاسلامجية الشيعة اربع سنوات اخرى .. سيعني حتميا اربع سنوات فساد .. واربع سنوات فساد اخرى تعني سقوط نهائي لكل شعارتهم .. وبالتالي انتفاء قدرتهم على الشحن الطائفي .. وهنا يكمن شرط ظهور احزاب وطنية عابرة للطوائف .. لن يكون هناك احزاب وطنية "عبرطائفية" علمانية في العراق ما لم يفشل خطاب الاسلامجية الشيعة فشلا ذريعا .. ولن يكون هناك فشل ذريع من دون سنوات فساد اخرى .
هذا الكلام اعلاه كتبته نصيا قبل حوالي عشر سنوات وبالتحديد قبل انتخابات عام ٢٠١٠ في مقال عنوانه "امنحوهم اربع سنوات اخرى" .. كنت اعتقد آنذاك ان اربع سنوات فساد اخرى ستكون كفيلة بفضح تجار المظلومية .. تقديراتي الزمنية كانت خاطئة .. الجمهور الشيعي احتاج الى عشر سنوات اخرى .. ولكن تحليلي السياسي كان صائبا.. البشر أكلوا خبز قبل كل شيء كما يقول فلاسفة اليونان.. ليس بالشعارات وحدها يحيا الانسان.
هذه لافته من المظاهرات الحالية .. اتوقف عندها لانها تحمل مضامين سياسية وسايكولوجية مهمة لفهم ما يجري في تظاهرات العراق اليوم .. في هذه اللافته مفردة الفاسدون وان جاءت مُعَرّفة قواعديا ولكنها لا تكشف عن هوية الفاسدين المذهبية .. ما يدلنا على هويتهم هو اختفائهم خلف المقدس الشيعي .. ثم هناك غضب حامل النعال وهو ايضا شيعي وسأسميه هنا "عبد الحسين" الذي يحاول معاقبة الفاسد "ابو بريص" .. ولكن العقوبة تؤجل لان الفاسد يختفي خلف صورة "الامام" .. أمام صورة "الامام" ينحني عبد الحسين .. المقدس الشيعي يقف عائقا امام "عبد الحسين" ورغبته بمعاقبة الفاسد .. سايكولوجية عبد الحسين الشيعية تتغلب على مطلبه السياسي الوطني وهو معاقبة الفاسد.
خروج عبد الحسين اليوم الى الشارع هو تكفير عن ستة عشر عاما من الاستغفال الطائفي .. الحضور الكبير للشعارات الوطنية العابرة للطائفة ( وهو اهم ما في هذه التظاهرات) هو ايضا تكفير عن استغفال محكية المظلومية .. اليوم وبعد ستة عشر عاما ما عاد عبد الحسين يصدق ان اسباب فقره وفقر عائلته هي اسباب طائفية كما كانوا يقولون له آنذاك .. قبل بضعة ايام نشرت صحيفة "البايس" الاسبانية مقال عن ما يحدث في العراق .. ترجمة المقال هنا في هذا الرابط .. مراسلة الصحيفة تحدثت الى عدد كبير من المتظاهرين ..احدهم استاذ جامعي واسمه ابراهيم تحدث بمرارة عن الأوضاع المأساوية التي آلت إليها مدينة بغداد قائلا: "لقد عَمَرَ صدام هذه المدينة، لكن ماذا فعلت الحكومات التي تعاقبت على العراق منذ سنة ٢٠٠٣ ؟ " و المراسلة تُذَكّر قراء الصحيفة بعد ذلك أن إبراهيم ليس سنيا أو بعثيا يحن للنظام السابق، بل مواطنا شيعيا ومتدينا بشكل معتدل عانت أسرته مثل بقية الأسر العراقية من عواقب حروب الديكتاتور.
لقد احتاج"عبد الحسين" الى ستة عشر عاما لكي يستفيق على واقع السلطة الشيعية الفاسدة .. غضب عبد الحسين هو غضب شخص تم استغفاله .. قالوا له آنذاك انت فقير لأنك شيعي في دولة يحكمها السنة..قالوا له ابشر فحكم احفاد آل البيت قادم .. قالوا له ان السماء ستمطر مُصلحين.. قالوا له ان السماء ستمطر "مُخَلصين" .. لقد انتظر عبد الحسين طويلا سقوط "الخير" .. ولكنها امطرت "ابو بريصات" فاسدة .. لقد فهم عبد الحسين اخيرا .. ومتأخرا جدا.. ان حكومة من نفس مذهبه ليست بالضرورة حكومة "المعذبين في الارض" كما وعدته محكية المظلومية .. عبد الحسين يقبل ويتقبل اليوم حقيقة ان الحكومات الشيعية هي افسد حكومات عرفها تاريخ العراق المعاصر.. وهذا "ورب الكعبة" انجاز تاريخي ولو بعد خراب البصرة .. لهذا السبب خرج عبد الحسين الى الشارع .. هو اليوم يرفع شعار "نريد وطن" .. بعد ان رفع ابوه بالامس شعار "نريد حاكم جعفري".. نحن هنا امام متغير ثقافي وسياسي هائل .. لقد احتاج فقراء الشيعة الى ستة عشر عاما من الفساد والخراب لكي نصل الى شعار "نريد وطن" .. ستة عشر عاما من الفساد والخراب هو ثمن باهض لشعار "نريد حاكم جعفري".. شعار من بضعة كلمات !! الشعارات تقتل .. الافكار الكاذبة تقتل كما يقول البير كامو.
لهذا السبب ولكي لا نخسر ثلاثة عقود فساد اخرى علينا ان نتحرر من سحر شعار "نريد وطن" .. اذا كنا فعلا "نريد وطن" .. فعلينا ان نعرف ما هي شروط الوطن .. ماذا يقتضي الوطن.. لكل شيء شروط امكانية من دون توفرها لن يتحقق هذا الشيء .. وشرط الوطن الاهم من بين شروط كثيرة .. هو المواطن .. فقط عندما يصبح عبد الحسين مواطنا .. يصبح الوطن ممكناً.. مفهوم "المواطن" مصدره القانون الروماني وهو يعني "الانسان الحر" .. اذا المواطن هو انسان حر .. انسان مستقل .. انسان بالغ فكريا لا يقبل الوصاية .. ومثل هكذا انسان لا يحتاج الى اصنام ورجال دين يقولون له ماذا عليه ان يفعل .. الانسان الحر لا يحتاج الى فتوى تقول له كيف يعيش وكيف ينكح وكيف يتظاهر وكيف ينتخب .. الفتوى هي نقيض وجودي للمواطن .. وبالتالي للوطن.. "المرجع" في الوطن هو القانون وليس المرجعية الدينية اي كان مذهبها.
في الايام الاخيرة بدأت سرايا السلام (جيش المهدي سابقا) تكثف من حضورها في ساحة التحرير .. الصدر يحاول تطويق المظاهرات قبل ان تخرج عن السيطرة وتذهب به وبكل العمامات الفاسدة .. فالصدر هو "ابو بريص" اخر شارك في تشكيل كل الحكومات التي نهبت العراق.. وشقاواته قد بدأت بمنع الشعارات التي لاتعجبها .. قبل يومين ضربوا وطردوا متظاهر لانه كتب في نفق ساحة التحرير عبارة " لا مقتدى ولاهادي" تعليقا على اقتراح عبد المهدي لتفاهمات بين الصدر والعامري على تشكيل حكومة جديدة .. مثل هكذا متظاهر يخيفهم لانه انسان حر لا يقبل وصايتهم .. هذا المتظاهر يريد ان يكون مواطن عراقي فقط .. وهذا ما لا يريده تجار المظلومية.
بين المتظاهرين الشيعة اليوم عدد كبير من مثل المواطن العراقي الذي كتب عبارة "لا مقتدى ولا هادي" .. وهم الشريحة الاكثر وعيا من الناحية السياسية والفكرية .. و لكن هناك بين المتظاهرين عدد كبير ايضا ينتمي لما يمكن تسميته مجازيا بجماعة "فاصل تظاهر ونعود للطاعة" .. والى مثل هولاء ينتمي عبد الحسين .. عدم تدخل المتظاهرين في ساحة التحرير لنجدة المواطن الشجاع الذي انتقد مقتدى .. يدفعني للاستنتاج ان عبد الحسين ذو النعال الذي لا يجرؤ على محاسبة "ابو بريص" لانه يختفي خلف صورة الامام.. هو نفسه عبد الحسين الذي لا يجروء على مواجهة شقاوات مقتدى لانه من "فروخ النبي".. المقدس الشيعي اقوى عند امثال عبد الحسين من الواجب الوطني.. واذا ما صح هذا الاستنتاج .. فأن اي "فتوى" حرباوية من المرجعية المتقلبة حسب اتجاه الريح والظروف .. سَتُحيّد هولاء ..عندها سينتظر الوطن ثلاثة عقود فساد اخرى قبل ان يجروء عبد الحسين على منح الحرية للنعال لكي يقتص من "ابو بريص" .. اتمنى من كل قلبي ان اكون مخطئا في هذه الفرضية المحتملة .. لا احد يستطيع التنبؤ بما سيحصل في الايام المصيرية القادمة .. هناك "امكانية" لظهور "المواطن " عبد الحسين الذي غيبته شعارات المظلومية .. الوطن انتظر ستة عشر عاما .. الوطن لازال ينتظر .. تحت نصب الحرية .. "المواطن" عبد الحسين.
عوداً حميداً .. اشتقينالك استاذ كريم الذهب
ردحذفعودة ميمونه .
ردحذف