في كتاب "التاريخ" يروي المؤرخ اليوناني هيرودوت قصة عن ملك ليديا كريسوس .. هذا الملك اراد ان يخوض حربا ضد امبراطورية مجاورة ..ولكنه كان مترددا.. لذلك اراد ان يستشير الآلهة بخصوص مشروع الحرب.. فارسل الرسل محملين بالنذور والعطايا الى وسيط روحي يدّعي الاختصاص باسرار الالهة ومعرفة مشيئتها.. هذا الوسيط الروحي ارسل الى الملك الاجابة التالية : "اذا هاجمت هذه الامبراطورية ستدمر دولة كبيرة".. وهي جملة حمّالة اوجه .. ولكن الملك اخذ منها المعنى الذي يتوافق مع ما يعتمل في نفسه معتقدا ان الآلهة ستعينه على تدمير هذه الدولة الخصم .. وهكذا كان .. الملك شن الحرب ولكنه خسرها ووقع في الاسر ودمر بذلك دولته الكبيرة.
قصة هيرودوت طويلة وهو يقول لنا ان الملك الاسير ندم بعد خراب مملكته على استشارته للوسيط الروحي.. والمذنب هو "الملك" الذي صدق لغة "العرافيين" .. كيف للملك ان يطلب من شخص عاش كل حياته معزولا عن العالم بالاجابة عن سؤال الحرب والسلام !! كيف للملك ان يطلب من شخص عاش كل حياته في قبو يردد الادعية وينشر البخور ان يجيب على سؤال الحرب والسلم !! هذا سؤال خطير يتطلب معرفة بفن الاستراتيجيا .. فن التخطيط لحرب استنادا الى معطيات جيوسياسية بشرية واقتصادية .. سؤال يحتاج الى مقارنة واقعية لميزان القوى.. كيف لشخص لم يبارح صومعته .. كيف لشخص لا يعرف غير خطب وخطابات مبهمة.. كيف لشخص لا يعرف ثمن رغيف الخبز في السوق .. كيف لشخص كهذا الاجابة على سؤال الحرب والسلم!! الوسيط الروحي في ورطة امام هكذا سؤال .. وامام هذه الورطة يتبع الوسيط الروحي دائما نفس السلوك .. مماشاة طالب "الفتوى" في مطلبه .. والرد عليه بلغة حمالة اوجه .. لغة ملتبسة، لغة غامضة، لغة مبهمة .. لغة تقبل القسمة على الف تفسير .. لغة تسمح للوسيط الروحي بانقاذ نفسه في حال خطأ احدى توقعاته المدحوسة في اللغة الملتبسة.. باختصار .. كل ما فعله الوسيط الروحي امام رغبة الملك بالحرب هو مماشاة الملك في طلبه .. ومنحه لغة حمّالة اوجه دمرت مملكته.
تعالوا الان وخذوا كل كلمات "الوسيط الروحي" في النجف والتي وردت مؤخرا في خطب الجمعة (عبر ممثله الكربلائي ) مخاطبا المتظاهرين الذين يريدون اسقاط النظام السياسي واخراج ايران من العراق.. تمعنوا في لغة السيستاني ستجدون نفس خصائص لغة الوسيط الروحي اليوناني : المماشاة واللغة الحمالة الاوجه .. تريد مظاهرات اخذ مظاهرات (ويا حبذا سلمية) .. تريد قانون لمفوضية جديدة للانتخابات .. "اخذ" "ينبغي إقرار قانون جديد لمفوضية جديدة للانتخابات" .. تريد ادانه للحكومة الفاسدة خذ "ادانة لكبار الفاسدين" .. تريد ان ترضي الحكومة خذ "ادانه لمن يعتدون على القوات الامنية".. تريد مساعدة قوات "مكافحة الشعب" بتطويق المظاهرات.. خذ "عدم الاضرار بالمنشآت الحكومية"(نسخة منه الى وزارة الداخلية مع الشكر) !! تريد ادانة ايران خذ عبارة " التدخلات الخارجية ممنوعة " .. عبارة "التدخلات الخارجية" الحمالة الاوجه هنا تسمح بضرب "عصفور امريكا بحجر ايران" لمن يريد ادانة امريكا .."سماحة" الوسيط الروحي في خدمة الجميع.
ولكن بما ان "الملك" اليوم هو المتظاهر .. لذلك يجب مماشاه المتظاهر بالدرجة الاولى.. مداعبته بلغة حمّالة اوجه .. من اجل تطويق مظاهراته قبل ان تتحول الى تسونامي سياسي.. ولفهم لغة سماحة الوسيط تجاه المتظاهر.. عليك اولا التمييز بين عباراته الواضحة المستجدية لعواطف المتظاهرين ( المماشاة / التلاعب السايكولوجي) .. وبين عباراته التثويلية (اللغة الحمالة الاوجه/التلاعب السياسي).. ثانيا، عليك ان تسأل نفسك.. ما هي مطالب المتظاهرين في البداية .. وكيف اصبح شكل هذه المطالب بعد ركوب "الوسيط الروحي" لموجة المظاهرات واصبح بقدرة "جاهل" المتحدث الرسمي بأسمها.. فمطالب المتظاهرين في البداية كانت "تغيير كل المنظومة السياسية الفاسدة" .. وفجأة ومع بعض البهلوانيات الخطابية المداعبة للمتظاهرين اصبحت غايتها في لغة سماحة الوسيط "استعادة ثقة الجمهور في النظام" و"استبدال القادة السياسيين الحاليين بـوجوه جديدة".
في هذه اللافته نجد مطالب المتظاهرين .. في البدء كان المتظاهر يريد تغيير محرك "التريلة" العراقية الخربانة.. اما "سماحة الوسيط" ومن خلال اللغة التثويلية فهو يريد تغيير "الباتري"/البطارية فقط .. يريد وضع "عبد الزهرة" محل "عبد المهدي" .. والمتظاهر الفطن (للاسف هو ليس اغلبية) يريد نسف كل المنظومة السياسية والفكرية التي شرعنت هذا الفساد وتماهت معه .. هل ترون الان محاولة الالتفاف التي قام بها سماحة الوسيط من خلال لغته الحمالة الاوجه .. باختصار .. ما يقوم به سماحة الوسيط هنا هو ليس فقط تزييف المطالب الاولية للمتظاهرين.. ولكنه ومن خلال لغة حمالة اوجه يقوم بعملية احتيال ونصب فكري ..عملية اغتصاب فكري للرعية .. اذ يقوم برمي الكرة في ملعب الحكومة ويٌحَمِّل السياسين اسباب الفساد.. وينسل بخفة فهلوي .. يسحب نفسه من المساءلة .. رمتني بدائها وانسلت .. غريب.. الم يكن هو الراعي لهذه العملية السياسية .. الم يشرف عليها ويشرعنها من خلال فتاويه وخطبه .. اشششششش .. المتظاهر"القافل على المرجعية" لا يريد "دوخة راس" ولا يريد طرح الاسئلة المزعجة ..اسئلة الازمة.. ومن لا يطرح اسئلة الازمة والخراب بطريقة جدية.. من لا يقوم بمراجعة نقدية مؤلمة .. جارحة بعض الشي .. لن يذهب بعيدا في طريق التغيير.
في خطبة الجمعة الاخيرة وردت عبارة خطيرة ومهمة جدا لفهم عقلية سماحة الوسيط .. انتباه رجاء .. الجملة القادمة ملغومة :"ان سفك الدماء قد يؤدي الى ضعف وهوان الحكم وقد يؤدي الى زواله وانتقاله الى آخرين"!! عليكم ان تشاهدوا خطبة الكربلائي الاخيرة صوتا وصورة .. لكي تفهموا دلالات هذه الجملة .. الكربلائي لفظ مفردة الآخرييييين بانتكاسة صوت خافتة ومحذرة .. ولسان حاله يقول للرعية: "كل ما جاء في الخطبة في كفة ومفردة الاخرين (التي ترمز بابهام مبطن الى "اخوانا السنة") في كفة اخرى".. وكالعادة بعد كل خطبة جمعة.. دخلت "الرعية" في انذار "فكري".. في حيص بيص .. تراشق بالحجج والشتائم .. من اجل تفسير مفردة الاخرييييييين .. والسبب كالعادة هو لانها لغة حمالة اوجه .. القافلون على المرجعية انقسموا في تفسيراتهم الى عدة فرق وبالتالي عدة روايات .. منهم من قال بأن "الاخرين" ترمز للبعثيين .. ومنهم من قال انها ترمز للدواعش . ومنهم من قال انها ترمز لكلاهما .. ومنهم من قال انها ترمز للامريكان.. وهكذا دواليك .. اما بعض "القافلين على القضية" الغير مُعرّفة والغير محددة المعالم .. فهم ايضا اختلفوا في موقفهم من مفردة "الاخرين" .. منهم من استغرب بحياء .. منهم من "غلس" .. ومنهم من راح كعادته في سياسة التثويل الجماعي يخلط فقه وجناس وطباق في تغريدة تثويلية .. تاركا القارىء التويتري المستعجل تحت صدمة مصطلحات لارابط بينها.. باختصار .. خطبة واحدة هدفها التوجيه والارشاد .. انتجت معركة جمل خطابية .. انتباه رجاء ..هي خطبة منقولة صوتا وصورة .. وعمرها لا يتجاوز اربعة ايام ونصف .. لكم ان تتخيلوا صِحة ومصداقية رواياتنا التاريخية التي كُتبت بعد قرون من الحدث .. حروبنا المذهبية هي نتاج هذه المنهجية الحيص بيصية في التعامل مع التاريخ.
وعود على بدء .. ما يهمني شخصيا في جملة "ان سفك الدماء قد يؤدي الى ضعف وهوان الحكم وقد يؤدي الى زواله وانتقاله الى اخرين".. هو ليس مفردة "الاخرين" .. ما يستوقفني فيها هي عِبارة "هوان وزوال الحكم" .. نحن هنا امام شيء اهم .. نحن هنا امام عِبارة من العيار الثقيل .. نحن هنا امام منطلقات "العقلية" السياسية لسماحة الوسيط .. وهذا اهم بمئات المرات من مفردة الاخرين .. علينا اولا ان نستحضر ونفهم الظرفية التي قيلت فيها عبارة "هوان وزوال الحكم" .. هذه العبارة قيلت في خطبة الجمعة الماضية.. في الايام التي كانت فيها ايران (الاخت الكبرى مذهبيا) تعيش هزة سياسية بسبب الاحتجاجات الاخيرة .. هذه الظرفية في غاية الاهمية لفهم مغزى العبارة .. نحن هنا امام ما يسميه علم النفس التحليلي بـ "زلة لسان" فاضحة للمُضْمَر .. وزلة اللسان من هذا المنظور النفساني تَظْهَر فقط في حالات الاضطراب والقلق .. وهي فاضحة لما يراد اخفائه في العادة .. في مثل هذه اللحظات تنكشف الدواخل .. لهذا السبب فان عبارة "هوان وزوال الحكم" يجب قرأتها وفق هذا السياق .. اي ان سماحة الوسيط اراد ان يحذر من "هوان وزوال الحكم الشيعي" .. وهنا نحن امام تفليش وهدم فكري للمقولة التثويلية الشائعة والتي تقول بأن سماحة الوسيط يؤمن بدولة مدنية لأنه لا يؤمن بولاية الفقيه ..باختصار.. عبارة "هوان وزوال الحكم" تثبت بشكل قاطع بأن سماحة الوسيط لا يؤمن بحكم مدني ودولة مدنية ..لا.. سماحة الوسيط يريد حكم شيعي ودولة شيعية .. نقطة في نهاية السطر .. (نسخة منه الى "محللي" الشأن العراقي ممن "حللوا" وفتتوا عراقنا بمقولة ان سماحة الوسيط يريد دولة مدنية لأنه لا يؤمن بولاية الفقيه.. المحللون الذين استخدمتهم امريكا لـ "تفكيك" العراق).
كاشاني خطيب جمعة طهران قال في الخطبة ما قبل الماضية: "توجد في العراق مرجعية قوية، والشعب العراقي بوعيه واهتمامه بالمرجعية، تمكن من وأد الفتنة التي تم التخطيط لها في العراق".. اذا قالت "حذام" فصدقوها فان القول ما قالت حذام !!ومظلة سماحة الوسيط تُفْتَح كلما امطرت السماء في طهران .. من هنا عبارة "هوان وزوال الحكم" الشيعي..امس تم حرق قنصلية ايران في النجف من قبل المتظاهرين.. انتظروا خطبة الجمعة القادمة .. انتبهوا للكلمات .. انتبهو للغة التثويلية .. وسترون كيف تفتح مظلة سماحة الوسيط لحماية الحكومة "الارجنتينية" من نار المتظاهرين .. ما يخيف سماحة الوسيط اليوم هو ليس حرق قنصلية ايران في النجف .. ما يخيفهم هو ما حصل في ذي قار.. يقال ان المتظاهرين في ذي قار احرقوا مبنى تابع للمرجعية.. لذلك فالمتظاهر في ذي قار هو اخطر بكثير من المتظاهر الذي حرق قنصلية ايران في النجف ..المتظاهر في ذي قار يريد تغيير "المحرك" .. اما المتظاهر الذي يريد "ايران برا برا" ولكنه بنفس الوقت يريد مرجعية .. مثل هكذا متظاهر لا يشكل خطرا على "المحرك".
تعالوا الان نقول الاشياء بطريقة اخرى .. من اجل وضوح اكبر.. "افتوني يرحمكم الله" .. فأنا حائر امام بعض المتظاهرين "القافلين على المرجعية" .. كاشاني الايراني يدعم سماحة الوسيط من اجل تطويق المظاهرات .. المتظاهر "عبد الحسين" يريد "ايران برا برا" .. سماحة الوسيط يقود ويوجه المتظاهر "عبد الحسين" .. ما هذه الاحجية الفنطازية .. ما هذا التناقض الفكري والسياسي .. ما هذا الغياب المفزع للاولويات .. تريد وطن كن مواطنا ..اما انك تريد وطن وتريد مرجعية و"تصاوير ودعابل" .. فهذا موقف زعطوطي لا يليق بك ولا يليق بالوطن .
المشهد العراقي اليوم لازال مفتوحا على كل الاحتمالات .. ولكن اذا ما استمر بعض المتظاهرين في موقفهم الزعطوطي من الوطن .. اذا لم يحددوا ويعرفوا مفهوم وشكل "الوطن" الذي ينشدون .. فأن "سماحة الوسيط" سيطوق مطالب المتظاهرين تدريجيا .. عندها سيقوم المتظاهر "القافل على المرجعية" بازاحة المتظاهر "القافل على القضية" الغير واضحة المعالم .. آنذاك .. سيقوم "ابو التوك توك" بالتنفيس عن غضبه لبعض الوقت.. سيردد بضعة ابيات شعر مؤثرة .. سيدخن سيكارته منهكا على الجسر الملطخ بدماء اصدقاءه .. ولكنه سيعود مكسورا الى هوامش المدن المليئة بالقمامة ومستنقعات الماء الاسن برعاية شركة "تكتيك حبيبي" .. اما ابناء واحفاد "سماحة الوسيط" فسوف يستمرون بالعيش في بحبوحة تجارة "التصاوير المقدسة".. اما ابناء واحفاد الخوئي (الوسيط السابق) فسوف يستمرون.. من شققهم الفارهة في لندن .. بنشر المقالات والتغريدات عن الزهد والتقشف الشيعي .. نامي جياع الشعب نامي حرستك "عمامات" الاوهام.
القافل على "قضية" لاتملك اولويات سياسية واضحة لن يذهب بعيدا في طريق التغيير .. هو سيغير حكومة .. حكومتين .. عشر حكومات .. ولكن الفساد لن يزول بوجود نفس المنظومة الفكرية التي مكنت للفساد.. تجربة العراق المعاصر تعلمنا اشياء كثيرة .. أهَمَها ان القافل على القضية لن ينتج وطن .. المتحزب لن ينتج وطن .. المنغلق على العقائد لن ينتج وطن.. لأنه ليس مواطنا.. ومن دون ان تكون مواطنا بالمفهوم السياسي للمفردة ..لك ان تضرب راسك بحائط الاستعمار والامبريالية والرجعية والليبرالية والقومية والطائفية الخ من الشعارات .. كما ضربه القافلون السابقون على القضايا المغلقة .. ستجد نفسك في النهاية مضرجا بالدماء على قارعة التاريخ .. مع لافتة مكتوب عليها : "حادث سير سياسي مروع .. سببه "سائق" قافل على قضية غير واضحة المعالم"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق