2020/06/01

غمامة هارون الرشيد ومعطف القيصر .. استكان شاي مع دكتور جيفاكو

 
روسيا .. نهاية القرن السابع عشر .. في ساحة عامة وسط موسكو اجتمع عدد كبير من الناس لمشاهدة عملية حرق شخص بتهمة الهرطقة الدينية لأنه كان يؤمن بالبروتستانتية .. آنذاك كانت موسكو الارثوذوكسية محكومة بالخرافات والاساطير والغيبيات القرووسطوية .. وحفلات حرق الناس المشكوك بمعتقداتهم كان تقليدا شائعا.. هذا البروتستانتي كان اخر شخص يحرق بسبب تهمة الهرطقة الدينية في روسيا .. حدث ذلك في عام ١٦٨٩

روسيا .. بداية القرن العشرين .. قبل وصول الشيوعيين للسلطة .. في امسية من امسيات مدينة سان بطرسبورغ .. اجتمع عدد من المفكرين والادباء الروس (من ضمنهم المفكر نيكولا برداييف الذي يروي هذه الحكاية) في جلستهم الاسبوعية للنقاش في مواضيع فكرية وسياسية .. وكان ذلك تقليدا شائعا في سان بطرسبورغ التي كانت تعج بالصالونات الثقافية آنذاك.. في ذلك المساء تم التطرق لموضوع ميتافيزيقي .. موضوع خلق الكون .. وكالعادة كان النقاش محموما واستطال حتى وقت متأخر من الليل .. عند ذاك اقترح احدهم انهاء النقاش والعودة الى المنازل .. فرد عليه شخص اخر قائلا : " لا يمكن ان نذهب الان، فنحن لم نقرر بعد فيما اذا كان الله موجودا أم لا".

مشهدان يختصران مسار التطور الحضاري في روسيا.. كيف حصل ان روسيا انتقلت خلال قرنين تقريبا من مشهد حرق البشر بسبب معتقداتهم الدينية الى مشهد النقاش الحر الذي وسم ظاهرة الانتلجنسيا الروسية .. وهي ظاهرة ثقافية وسياسية ابهرت العالم بحيويتها الفكرية .. كيف حصل ان روسيا التي لم يكن فيها حتى بداية القرن التاسع عشر سوى حفنه ادباء مغمورين ( بحسب الشاعر والمؤرخ الروسي نيكولاي كارامازين الذي ألَّف "انطولوجيا" الادب الروسي في عام ١٨٠٢)  .. كيف حصل بعد ذلك ان روسيا هذه منحت الادب والشعر والفكر السياسي اسماء من عيار بوشكين .. دوستويفسكي .. تولستوي .. تورغينيف .. هيرزن .. باكونين .. كروبوتكين والقائمة تطول .. كيف حصل ان روسيا التي كانت الموسيقى فيها محرمة من قبل الكنيسة التي لم تكن تسمح بغير الانشاد الديني .. كيف حصل ان روسيا هذه منحت فن الموسيقى اسماء من مثل  رحمانينوف.. تشايكوفسكي .. كورساكوف .. وهكذا دواليك في حقول الرياضيات والفيزياء والرسم الخ .

في عراق كان يا ما كان  ..كانت كتب الادب الروسي تحتل جزء كبير من المكتبات العراقية.. وكانت مفردات الحياة الروسية تشكل جزء من عالمنا..الكاتب الاوكراني فلاديمير كورولينكو كان يقول "روسيا ليست بلدي، بلدي هو الادب الروسي".. الادب الروسي في يوم ما كان ايضا بلدي.. لا اذكر انني طرحت على نفسي آنذاك سؤال ما هي الشروط التي انتجت هذا النتاج الفكري البارع.. بالطبع كنا نسمع عن اهمية بوشكين كـأب روحي للادب الروسي.. وكنا نعرف المقولة التي تنسب لـ تورغينيف و دوستويفسكي : " كلنا خرجنا من معطف غوغول" .. وهي مقولة  تشير الى دور القاص البارع نيكولاي غوغول صاحب قصة "المعطف" وأثره في الادب الروسي .. ولكن كل هذه المقولات هي كليشات تدور حول ذاتها .. مقولات تفسر الماء بعد الجهد بالماء .. تفسر النتاج الادبي بعد الجهد بالنتاج الادبي .. وهي بذلك تضع الحقل الادبي الروسي خارج "قوانين الجاذبية" الاجتماعية والسياسية.. تضعه خارج الإطار التاريخي الذي مَكّنَ لهذا النتاج.. وهذه المقولات هي من مخلفات النظرية الرومانتيكية التي كانت سائدة في اوساط المثقفين .. يحلو لنرجسيات "المثقفين" عزو ازدهار الحركة الثقافية الى عبقرية شاعر او روائي ما.. ولكن هذا الطرح لا يقول لنا لماذا ظهر دوستويفسكي في روسيا القرن التاسع عشر وليس روسيا القرن الخامس عشر.. او حتى لماذا لم تنتج روسيا السوفيتية ظاهرة ادبية كالتي ظهرت في القرن التاسع عشر.. كيف ولماذا ازدهرت الحركة الثقافية الروسية في القرن التاسع عشر بحيث انها انتجت قامات ادبية من عيار بوشكين غوغول دوستويفسكي وتولستوي تورغينيف في نفس الحقبة التاريخية ؟؟ هذه الاسئلة هي اسئلة السوسيولوجيا التاريخية .. اسئلة التاريخ الاجتماعي الروسي.

كل من يقرأ التاريخ الروسي من منظور سوسيولوجي.. سيفهم ان دوستويفسكي وتولستوي تورغينيف وتشيخوف لم يخرجوا من معطف غوغول.. وانما من "معطف" القيصر بيتر الاكبر الذي تبنى مشروع الحداثة الروسية .. و هو المشروع الذي فتح ابواب روسيا امام تأثير عصر النهضة الاوربي .. و نظام التعليم الروسي الحديث الذي كان ثمرة هذا المشروع هو "المصنع" الفكري الذي انتج ظاهرة الانتلجنسيا الروسية في القرن التاسع عشر .. بضعة أرقام لا تضر .. عدد عناوين الكتب المطبوعة في القرن السادس عشر كان بضعة كتب فقط .. في القرن السابع عشر وحتى سنة ١٦٨٩ ارتفع العدد الى ٥٠٠ كتاب.. بعد قرن من هذا التاريخ ارتفع عدد عناوين الكتب المطبوعة في روسيا الى عشرة الاف كتاب ..وهذه الارقام يوردها المؤرخ غاري ماركر في كتابه "النشر والطباعة و أصل الحياة الثقافية في روسيا".. وهنا نحن امام مؤشر سوسيولوجي لسوق الكتاب وازدهاره المرتبط بازدياد عدد المتعلمين..  وكل من يقرأ كتاب المؤرخ أورلاندو فيجز البارع "رقصة ناتاشا".. سيفهم ان بوشكين ولغة بوشكين وأدب بوشكين هم نتاج مناخ صالونات مدينة سان بطرسبورغ التي كانت مختبر مفتوح لمشروع الحداثة الروسي.. باختصار .. في البدء لم يكن بوشكين .. في البدء لم تكن "الكلمة" كما تقول العقلية اللاتاريخية .. في البدء كان "الفعل".. في البدء كان القيصر بيتر الاكبر

لقد زار القيصر بيتر الاكبر اوربا في شبابه وتجول في عواصمها.. ويقال حتى انه عمل  في احدى ورش صناعة السفن في هولندا كمتدرب متخفيا بأسم مستعار.. وهذه الزيارة الاستكشافية جعلت القيصر يقيس حجم تخلف روسيا علميا وصناعيا وعمرانيا.. وهو بعد ان عاد الى روسيا لم يتفوه بعبارات غبية من مثل العبارة التي تنسب لـ محمد عبدة بعد عودته من اوربا مبهورا :" رأيت في أوروبا إسلاماً بلا مسلمين، وفي بلدنا مسلمين بلا إسلام".. وهي عبارة  شعبوية مستحقرة وجاهلة بالأسس الفكرية للنهضة الاوربية .. لا .. لا ..القيصر الذي عاد من أوربا لم يقل "رأيت في أوروبا إرثوذوكسية بلا  إرثوذوكسيين" و حمص بلا فلافل الى اخره من التفاهات التي لا زالت تجتر عندنا وكأنها فتوحات فكرية .. لا ..القيصر كان اكثر امانة واكثر صدقا مع ذاته ومع كنيسته وشعبه.. القيصر عاد واعترف بتفوق أوربا العلمي والصناعي والتنظيمي وأقَرْ بتخلف روسيا عن اوربا.. وهو كمسؤول عن دولة بحجم روسيا لم يكن يملك الوقت للخوض في حزورة القيم المحلية ام القيم المستوردة وهي حزورة شبيهة فكريا بحزورة ايهما اسبق البيضة ام الدجاجة.. القيصر توصل الى قناعة عملية يفرضها الواقع وهي ان كل ادعية وبخور وايقونات الكنيسة الارثوذوكسية لن تحمي روسيا امام بارجة انكليزية واحدة.. القيصر عمل بمقولة الواقعية السياسية : "الله" هو دائما مع الكتائب الاقوى".

ومن اجل جعل كتائب روسيا منظمة وقوية تبنى القيصر مشروع تحديث الدولة الروسية .. وضمن هذا المشروع استدعى القيصر الآلاف من الخبراء والأساتذة والمهندسين الأوروبيين.. وشيد المدارس والمعاهد على اسس علمية حديثة .. وهذا النظام التعليمي الحديث هو الذي انتج تدريجيا ظاهرة الانتليجنسيا الروسية والتي بدورها انتجت الحركة الثقافية في روسيا القرن التاسع عشر.. الثقافة والحضارة ليست هبات تنزل من السماء .. هناك شروط امكانية لكل شيء .. اللغة الروسية الادبية ما كانت لتكون كما هي لَوْلا تأثير اللغة والثقافة الفرنسية على الصالونات الادبية.. وثقافة الصالونات ما كانت لتكون لَوْلا مدينة سان بطرسبرغ ..  وسان بطرسبرغ ما كان لها ان تكون لَوْلا القيصر بيتر الاكبر الذي اسسها في بداية القرن الثامن عشر.. بعض النبلاء الروس الذين انتقلوا للعيش في مدينة سان بطرسبورغ بعد تأسيسها جلبوا مواشيهم لقصورهم الجديدة .. مما دفع القيصر بإصدار مرسوم يمنع المواشي في داخل المدينة .. حفاظا على النظافة والصحة العامة للمدينة .. وهذا يعطينا فكرة بسيطة عن مسار تحول السلوكيات الاجتماعية في روسيا ودور سان بطرسبورغ في ذلك المسار.. الحضارة والثقافة ليست هبات تسقط من السماء حسب العرق و الاصل الاثني والاجتماعي كما يقول لنا رفعت الجادرجي (انظر مقالتي السابقة بهذا الخصوص) .. الحضارة هي سلوكيات ونوازع بشرية تم تدجينها بقوانين وقواعد اجتماعية.. وخلف القوانين هناك دائما دولة قوية.

سان بطرسبورغ القرن التاسع عشر.. باريس القرن السابع عشر .. بغداد القرن التاسع .. المقارنة التفصيلية لا تجوز .. ولكن المسار التاريخي العام واحد.. هناك مقولة تنسب لهارون الرشيد يخاطب فيها غمامة ان " امطري حيث شئتِ فإن خراجك عائد إلي" .. ما لا تقوله هذه المقولة الشاعرية هو ان خلف غمامة هارون كانت تركض كتائب وخيول العباسيين .. وهذه "الخيول" هي من مكنت هارون الرشيد من مخاطبة الغمام بهذه الطريقة.. وبهذا المعنى فان فحوى قصة غمامة هارون هي دولة فرضت نفسها بـ "كتائب" وجيوش منظمة وقوية قادرة على تتبع "الغماماتوتحديد اماكن "مطرها" .. ثم بعد ذلك أمطرت هذه الغمامات فسقت الزرع .. وقام المزارعون بقطف الثمار وبيعها .. و دفعوا الضريبة صاغرين لامراء الاقاليم .. وارسلها هؤلاء على شكل دراهم و دنانير الى حيث يقيم "الامير" في بغداد .. تريد بعد كل ذلك ان تعرف سبب ازدهار الحركة الثقافية لبغداد العباسيين ..اذا عليك ان تركض وراء الغمامات و تحصيها.. و تُصَرِّف حاصل "مطرها" بالدراهم والدنانير .. وتَصْرف الدنانير والدراهم على شكل هبات وعطايا ومنح و قصور ونبلاء وقادة وندماء وبلاط وحفلات وشعراء و ادباء يرتادون "صالونات" الامراء .. ستفهم عندها ان الازدهار الثقافي لبغداد العباسيين هو قبل كل شيء غمامات وخراج الغمامات وما بينهما خيول أرهقت الجغرافيا بحوافرها.. فقط عندما نفهم ذلك سنفهم لماذا "امطرت" بغداد انذاك ثقافة وادب وشعر وترجمة وعلم الخ .. حيث تظهر الثروة الإمبراطورية تميل الثقافة.

 وسان بطرسبورغ التي ظلت لقرنين محل سقوط "مطر" غمامات القيصر.. لا تشذ عن هذه القاعدة السوسيولوجية.. بوشكين ولغة بوشكين و شعر بوشكين ولدوا داخل صالونات سان بطرسبورغ .. لاغرابة ان اغلب الجيل الذهبي لظاهرة الانتليجنسيا الروسية .. من تورغينيف مرورا بـ تولستوي وانتهاء بالفوضوي النبيل كروبوتكين هم من طبقة النبلاء.. الثقافة كظاهرة اجتماعية لا تحب الفقر .. الثقافة والفقر لا يجتمعان.. و إن اجتمعا فالمُنْتَجْ ثقافة ضغينة .. نيتشه في كتابه البارع "جينالوجيا الأخلاق" لا يقول أكثر من ذلك : الثقافة "برجوازية" .. أثينا روما بغداد باريس .. كل هذه المدن تؤكد هذه الحقيقة التاريخية المزعجة من منظور اخلاقي بحت.. شتان بين الادب الروسي في القرن التاسع عشر .. وبين الأدب الروسي الشيوعي في القرن العشرين .. ثقافة الواقعية الاشتراكية المنفوخة حد التخمة بالعواطف الفلمهندية والتي قامت عليها  "مناجل ومطارق" شيوعية محرومة هي تطبيق عملي لمقولة اندريه جيد الشهيرة والتي اترجمها بتصرف:" العواطف الجميلة تنتج ادب سيء".
C'est avec les beaux sentiments qu'on fait de la mauvaise littérature

باختصار .. روسيا "تعلمت القراءة" بفضل سياسة القيصر بيتر الاكبر .. وهذه السياسة هي التي انتجت تدريجيا وتراكميا العصر الذهبي للادب الروسي في القرن التاسع عشر .. وهذه حقيقة تاريخية تم اغفالها في السابق لاسباب ايديولجية .. وهذا الادب الروسي.. ومن حيث لا يريد وبأثر رجعي .. يعيد اليوم الاعتبار لهذه الحقيقة التاريخية .. بوريس باسترناك  في رواية "دكتور جيفاكو".. والتي هي اسلوبيا وفكريا نقدا للواقعية الاشتراكية ولحقبة الشيوعية.. باسترناك ومن خلال شخصية جيفاكو النبيل كان من اوائل المثقفين الروس ممن فهموا متأخرين ما فقدته روسيا ثقافيا مع وصول "المنجل" الشيوعي للسلطة.. فمع وصول المنجل الشيوعي القاطع للرؤوس للسلطة انتهت واحدة من الظواهر الثقافية الفريدة في تاريخ الثقافة العالمية .. وهي ظاهرة الانتلجنسيا الروسية بشقيها الادبي والسياسي .. باسترناك في رواية "دكتور جيفاكو" وعلى لسان احدى شخصياته يعبر عن ذلك بجملة رمزية :" نحن لا نفتقد قبعاتنا الا بعد ان تقطع رؤوسنا"


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق