نشر موقع "بي بي سي" العربي مقال عن المهندس رفعت الجادرجي الذي توفي قبل اكثر من ثلاثة اسابيع .. كاتب المقال يقول بخصوص تعرض العديد من أعمال الجادرجي الهندسية في العراق للتشويه والهدم بأن الجادرجي وفي "إحدى مقابلاته الأخيرة توقع أن تهدم كل بناياته في العقد القادم، منتقدا بشدة وألم ما يراه نقصا في الوعي التاريخي في مجتمعاتنا وعدم حفظها لذاكرتها وإرثها الحضاري.".. بحثت عن هذه المقابلة وشاهدتها ووجدت ان كاتب مقال "بي بي سي" ينقل أقوال الجادرجي بطريقة "محتشمة" ربما لكي لايخدش مشاعر القُرّاء العرب .. فالجادرجي يستخدم مفردة "البداوة" وليس الوعي التاريخي كسبب في عملية الهدم والخراب.. وهو يقول بأن "المجتمع العراقي لا يحافظ على تراثه لأنه مجتمع بدوي".
عبارات "نقص الوعي التاريخي" و" المجتمع البدوي" تستوقفني لأن فيهما ضوضاء صوتية أكثر مما فيهما من جدية تحليلية لأسباب الخراب الحالي في العراق.. لقد اصبحت "نظرية" البداوة في العراق تعويذة سحرية شبيهة بتعويذات الـ"مانا" التي تستخدمها بعض القبائل البدائية لتفسير كل شيء.. هناك من يستخدمها بطريقة عفوية ساذجة غير واع لدلالاتها السياسية.. ولكن هناك من يستخدمها بطريقة سياسية للنيل من العربي المختفي تحت مفردات البدوي او الاعرابي .. ونظرية البداوة عندما تستخدم سياسيا فهي نسخة حديثة للشعوبية.
"نظرية" البداوة في تفسير التاريخ تنتمي فكريا للنظرية "العرقية" التي تفسر التاريخ من منظور عرقي (العرق الآري متحضر باني للحضارات والعرق السامي متخلف هادم للحضارات هو المثال الأكثر شهرة لهذه النظرية التي سادت الأوساط الفكرية الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واستمرت حتى منتصف القرن العشرين).. وهي كالنظرية المناخية التي تفسر التاريخ البشري تبعا للظروف المناخية (المناخ البارد يساعد على التفكير والمناخ الحار الصحراوي يساعد على الكسل الخ من الترهات).. علماء التاريخ بينوا خطأ وعنصرية هذه الطروحات منذ عقود طويلة .. وهم قد أظهروا بالوقائع التاريخية أن كل الأعراق انتجت حضارات .. وفي ذلك لا يختلف الآري عن العربي او الاوروبي عن الاسيوي.. وهم قد أظهروا ايضا ان كل "المناطق" المناخية الحارة كما الباردة والجافة كما الرطبة انتجت ايضا حضارات.. رغم ان اغلب صروح هذه الحضارات قد هدم وزال لاسباب ليس لها علاقة بالوعي التاريخي او البداوة كما يقول الجادرجي بسذاجة منقطعة النظير في المقابلة المذكورة.. والنظريات العرقية والمناخية مركونة اليوم في ادراج "متربة" ولا احد يستخدمها في الجامعات الرصينة.. لانها تنتمي الى منهجية السببية الاحادية ( سبب واحد وراء انتاج او فشل حضارة ما) .. العلوم الانسانية اليوم تعمل بمنهج السببية المتعددة في تفسير الظواهر الاجتماعية .. لأن الظواهر الاجتماعية معقدة ولا يمكن فهمها إلا من خلال توظيف نظريات كثيرة .. علم الاجتماع السياسي اليوم لا يرفض تأثيرات عوامل الثقافة والعرق والجغرافيا والمناخ في الظواهر الاجتماعية.. ولكنه لا يقبل اليوم ان يأتي باحث في التاريخ السياسي لبلد شديد التعقيد مذهبيا واثنيا كالعراق ويقع في منطقة صدعية من الناحية الجيوسياسية ويقول ان الدمار الحالي سببه بداوة الشعب العراقي.. لأن هذه الفرضية من منظور علم الاجتماع السياسي هي سخف فكري مستحقر للمعقد الاجتماعي والجيوسياسي.. وفقط مشهد ثقافي عراقي بائس اضافة الى غياب حقل أكاديمي رصين سمح ويسمح لنظرية البداوة (التي اشاعها علي الوري بين انصاف المتعلمين) بالاستمرار في السير على عكازاتها في سوق السراي.
"نظرية" البداوة في تفسير التاريخ تنتمي فكريا للنظرية "العرقية" التي تفسر التاريخ من منظور عرقي (العرق الآري متحضر باني للحضارات والعرق السامي متخلف هادم للحضارات هو المثال الأكثر شهرة لهذه النظرية التي سادت الأوساط الفكرية الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واستمرت حتى منتصف القرن العشرين).. وهي كالنظرية المناخية التي تفسر التاريخ البشري تبعا للظروف المناخية (المناخ البارد يساعد على التفكير والمناخ الحار الصحراوي يساعد على الكسل الخ من الترهات).. علماء التاريخ بينوا خطأ وعنصرية هذه الطروحات منذ عقود طويلة .. وهم قد أظهروا بالوقائع التاريخية أن كل الأعراق انتجت حضارات .. وفي ذلك لا يختلف الآري عن العربي او الاوروبي عن الاسيوي.. وهم قد أظهروا ايضا ان كل "المناطق" المناخية الحارة كما الباردة والجافة كما الرطبة انتجت ايضا حضارات.. رغم ان اغلب صروح هذه الحضارات قد هدم وزال لاسباب ليس لها علاقة بالوعي التاريخي او البداوة كما يقول الجادرجي بسذاجة منقطعة النظير في المقابلة المذكورة.. والنظريات العرقية والمناخية مركونة اليوم في ادراج "متربة" ولا احد يستخدمها في الجامعات الرصينة.. لانها تنتمي الى منهجية السببية الاحادية ( سبب واحد وراء انتاج او فشل حضارة ما) .. العلوم الانسانية اليوم تعمل بمنهج السببية المتعددة في تفسير الظواهر الاجتماعية .. لأن الظواهر الاجتماعية معقدة ولا يمكن فهمها إلا من خلال توظيف نظريات كثيرة .. علم الاجتماع السياسي اليوم لا يرفض تأثيرات عوامل الثقافة والعرق والجغرافيا والمناخ في الظواهر الاجتماعية.. ولكنه لا يقبل اليوم ان يأتي باحث في التاريخ السياسي لبلد شديد التعقيد مذهبيا واثنيا كالعراق ويقع في منطقة صدعية من الناحية الجيوسياسية ويقول ان الدمار الحالي سببه بداوة الشعب العراقي.. لأن هذه الفرضية من منظور علم الاجتماع السياسي هي سخف فكري مستحقر للمعقد الاجتماعي والجيوسياسي.. وفقط مشهد ثقافي عراقي بائس اضافة الى غياب حقل أكاديمي رصين سمح ويسمح لنظرية البداوة (التي اشاعها علي الوري بين انصاف المتعلمين) بالاستمرار في السير على عكازاتها في سوق السراي.
ويبدو أن الجادرجي الذي يقول لنا انه درس الأنثروبولوجيا والفلسفة في هارفارد لم يسمع بمفردات تنتمي لعلم الاجتماع السياسي من مثل التنوع الاثني والديني في العراق او الموقع الجغرافي الصدعي بين ثقافات متصارعة أو عدم الاستقرار الجيوسياسي في منطقتنا التي تفتقد لمنظومة سياسية الخ من الاسباب الاخرى.. وهو لم يسمع بمصطلحات تحليلية من مثل مسار بناء الدولة او شروط التراكم الحضاري او شروط امكانية تحقيق سلم واستقرار مجتمع ما.. في عرف الجادرجي مفرقعة "البداوة" تكفي ولا داعي لدوخة الراس.. الحضارة والثقافة والتراكم والوعي من منظور الجادرجي هي هبات تنزل من السماء وتوزع وفقا للعرق والأصل الإثني : انت امريكي وعندك ناطحات سحاب عمرها مئة عام اذا انت متحضر.. انت عراقي ولم تحافظ على "طابوقات" الجادرجي اذا انت بدوي متخلف".. الجادرجي يربط سببيا بين البداوة وبين عدم الحفاظ على التراث لأنه مسجون في نرجسيته التي تركز باثولوجيا على نصب الجندي المجهول القديم والذي هُدم في بداية الثمانينات ( وصدام هو مرادف فكري للبدوي في منظور الجادرجي.. لما لا ) .. ولكن أعمال الجادرجي الاخرى واهمها مبنى دائرة البريد والاتصالات في بغداد، ومبنى اتحاد الصناعات العراقي في الموصل لم يشوهها او يهدمها بدوي.. وإنما "كاوبوي" استخدم احدث منتجات الحضارة الامريكية لقصف البناية الاولى في ١٩٩١ وقام بتدمير البناية الثانية في عملية التدمير الشامل لمدينة الموصل التاريخية قبل بضعة سنوات.. ومع ذلك فإن الجادرجي يُحَمِّل بداوة الشعب العراقي مسؤولية هذا التدمير.. كما لو ان الاحتلال الامريكي حصل لكوكب زحل وان سياسة "الفوضى الخلاقة" الامريكية انتجها بدو قادمين من مجاهل الصحراء.. لا غرابة انك لا تجد في مقابلة الجادرجي كلمة "احتلال" واحدة.
عدم تطرق الجادرجي للعامل الخارجي في عمليات الهدم والتدمير وبالتحديد للاحتلال الأمريكي ليس مستغربا.. خصوصا من شخص صفق للاحتلال الامريكي وكان قريبا من "لملوم" المعارضة العراقية في لندن ممن تصدروا المشهد السياسي بعد احتلال العراق.. وهو شخص اوكلت اليه مهمة تصميم علم مرحلة "التحرير" والذي جاء شبيها بالعلم الاسرائيلي مما أثار أعتراضات شعبية كبيرة ادت الى رفض علم الجادرجي الازرق .. الجادرجي في المقابلة المذكورة حاول ان يبرر هذه القطيعة اللونية باسباب تصميمية بحتة لكي يعطي انطباع بأنه فنان محايد لا يملك توجّه ايديولوجي او سياسي.. لذلك تراه يسافر في نوبة استغفال ذاتي عن عدم تناسق المثلث مع المستطيل في بعض الإعلام العربية.. متناسيا أن العلم العراقي ليس فيه لا مثلثات ولا هم يحزنون .. وان السؤال هو سؤال القطيعة اللونية.. لماذا ؟؟ هذه القطيعة اللونية مع الوان العلم العراقي التقليدية فيها من منظور علم النفس التحليلي إمكانيات كشف هائلة لمكنونات الجادرجي.. ونحن اذا ما وضعناها اليوم ضمن طرح البداوة المستحقر والذي يستخدمه الجادرجي في تفسير التاريخ العراقي .. فإنها تحفزنا على البحث تحت الطرح الجمالي التصميمي في كلمات الجادرجي عن البُعد السايكولوجي.. ضمن هذا الإطار يمكن قراءة القطيعة اللونية مع الوان العلم العراقي كقطيعة أرادها الجادرجي مع ألوان علم الثورة العربية.. والتي جاءت للعراق مع الملك فيصل الأول ..الوان العلم العراقي التقليدية من هذا المنظور النفساني هي الوان البداوة .. الوان قبيحة .. باختصار.. خلف المبرر الجمالي يختفي السياسي .. وعلينا هنا ان نستحضر التاريخ الاجتماعي والسياسي لعائلة الجادرجي لفهم ذلك بشكل اكبر.. شيء من التاريخ.
واحدة من أهم الوقائع التي لا يحب العراقيون التطرق لها في العادة هو التشظي العرقي والمذهبي الذي كان سائدا في العراق الذي احتله الانكليز .. كتب التاريخ المدرسية ومن خلال ترنيمة "سياسة فرق تسد" علمتنا كتلاميذ أن الخلافات العرقية والمذهبية هي من اختراع المستعمر .. ولكن الحقيقة التاريخية تقول إن هذه الخلافات كانت موجودة قبل دخول الانكليز.. هم استخدموها نعم .. ولكنهم لم يخترعوها.. وهذه الخلافات السياسية عبرت عن نفسها عندما طُرح آنذاك سؤال الشكل السياسي للعراق الذي خرج من السيطرة العثمانية.. زعماء اليهود العراقيون كانوا يطالبون بالجنسية البريطانية .. الجالية الايرانية من تجار ورجال دين ممن كان لهم تأثير اقتصادي و"فكري" كبير كانوا يطالبون بضم العتبات الشيعية الى ايران .. الاكراد كانوا يطالبون بدولة كردية ..اعيان البصرة السُنة كانوا يطالبون بالانفصال وتكوين امارة البصرة .. شيوخ العشائر كان كل واحد منهم يغني على ليلاه .. عفوا على ليراته.. منهم من كان يركض وراء الليرات التركية و منهم من كان يركض وراء "الليرات" الايرانية (بني لام انموذجا) ومنهم من كان يركض وراء "ليرات" ابن سعود..العشائر ليست للبيع.. للايجار فقط.. باختصار .. هذا هو الواقع السياسي في عراق ذلك الزمان.. ولكن التاريخ العراقي نادرا ما يتطرق الى موقف ودور التيار العثماني التركي في الصراع السياسي آنذاك.. وهذا التيار كان مكون من عوائل اغلبها ذات أصول تركية.. وهولاء كانوا من المعارضين لمشروع الأمير العربي (فيصل الاول) في العراق .. لانهم كانوا يطالبون بامير تركي على العراق.
عائلة الجادرجي كان لها موقع اجتماعي وسياسي مرموق في العهد العثماني.. وهي تنتمي لطبقة الآغوات الُملّاك التي جمعت ثروة كبيرة بفضل قربها من السلطة العثمانية.. وهي سياسيا تنتمي الى هذا التيار التركي المعارض لمشروع الدولة العراقية الحديثة تحت سلطة أمير عربي وهو الملك فيصل.. علينا هنا ان نستحضر ذهنيا المناخ الاجتماعي والفكري آنذاك لكي نفهم ما يعنيه ذلك لابناء واحفاد الباشوات.. هذه العوائل كانت تتصدر الواجهة الاجتماعية والسياسية في بغداد وفجأة وجدوا أنفسهم في دولة جديدة يحكمها أمير عربي بدوي .. والأدهى من ذلك هو ان هذا الامير الذي نُصب ملكا اعتمد في ادارة الدولة الناشئة على مجموعة من الضباط العراقيين بعضهم فر من الجيش العثماني (عامل مهم لشرح العداء لنوري السعيد) إبان الحرب العالمية الأولى والتحقوا في صفوف "الثورة العربية" في الحجاز .. وعلى رأس هولاء جعفر العسكري ونوري السعيد.. وهولاء كانوا من اصول اجتماعية متواضعة وهذا كان نوع من الشتيمة لأبناء واحفاد الباشوات والآغوات آنذاك .. فقط عندما نفهم هذه الخلفية التاريخية سنفهم العداوة التي يكنها كامل الجادرجي (الأب) وحكمت سليمان لجعفر العسكري ونوري السعيد.. وفقط عندما نفهم ذلك سنفهم اصطفاف كامل الجادرجي خلف انقلاب ١٩٣٦ المدعوم من تركيا وتم فيه قتل جعفر العسكري .. و فقط عندما نفهم هذه الخلفية التاريخية سنفهم اصطفاف عائلة الجادرجي ابا وابناء خلف انقلاب تموز ١٩٥٨ الذي اطاح بـ"نوري السعيد" وجاء بالعسكر.. وهو الانقلاب الذي جعل من الدبابة مفردة من مفردات "الغزل" السياسي في العراق.
عائلة الجادرجي كان لها موقع اجتماعي وسياسي مرموق في العهد العثماني.. وهي تنتمي لطبقة الآغوات الُملّاك التي جمعت ثروة كبيرة بفضل قربها من السلطة العثمانية.. وهي سياسيا تنتمي الى هذا التيار التركي المعارض لمشروع الدولة العراقية الحديثة تحت سلطة أمير عربي وهو الملك فيصل.. علينا هنا ان نستحضر ذهنيا المناخ الاجتماعي والفكري آنذاك لكي نفهم ما يعنيه ذلك لابناء واحفاد الباشوات.. هذه العوائل كانت تتصدر الواجهة الاجتماعية والسياسية في بغداد وفجأة وجدوا أنفسهم في دولة جديدة يحكمها أمير عربي بدوي .. والأدهى من ذلك هو ان هذا الامير الذي نُصب ملكا اعتمد في ادارة الدولة الناشئة على مجموعة من الضباط العراقيين بعضهم فر من الجيش العثماني (عامل مهم لشرح العداء لنوري السعيد) إبان الحرب العالمية الأولى والتحقوا في صفوف "الثورة العربية" في الحجاز .. وعلى رأس هولاء جعفر العسكري ونوري السعيد.. وهولاء كانوا من اصول اجتماعية متواضعة وهذا كان نوع من الشتيمة لأبناء واحفاد الباشوات والآغوات آنذاك .. فقط عندما نفهم هذه الخلفية التاريخية سنفهم العداوة التي يكنها كامل الجادرجي (الأب) وحكمت سليمان لجعفر العسكري ونوري السعيد.. وفقط عندما نفهم ذلك سنفهم اصطفاف كامل الجادرجي خلف انقلاب ١٩٣٦ المدعوم من تركيا وتم فيه قتل جعفر العسكري .. و فقط عندما نفهم هذه الخلفية التاريخية سنفهم اصطفاف عائلة الجادرجي ابا وابناء خلف انقلاب تموز ١٩٥٨ الذي اطاح بـ"نوري السعيد" وجاء بالعسكر.. وهو الانقلاب الذي جعل من الدبابة مفردة من مفردات "الغزل" السياسي في العراق.
مذهل بعد ذلك ان تجد رفعت الجادرجي وفي مقدمة الترجمة العربية لكتاب جيني سنغلتون عن حزب السيد الوالد يصور باستهبال صراع والده مع نوري السعيد كصراع بين "قطب العقل العسكري" الذي يمثله نوري السعيد وقطب "العقل المدني المتعلم" الذي يمثله السيد الوالد.. رهيب هذا "العقل المدني" الذي دعم كل الانقلابات العسكرية التي عرفها العراق.. ولكن ما يستوقفني هنا هي صفة "المتعلم" التي يمنحها الابن رفعت لتيار الوالد.. لانها تدلنا عن المكنونات السايكولوجية .. العواطف والاهواء البشرية هي المحرك الاساس للتاريخ كما يقول هيغل .. ونحن هنا في صميم العواطف والاهواء التي غالبا ما تضيع تحت طبقات من الضوضاء اللغوية .. فمفردة "متعلم" تعني بمنظور الجادرجي "الارستقراطي" ان نوري السعيد والضباط الشريفيين كانوا غير متعلمين (متخلفين ).. في حين ان المس بيل تقول لنا مثلا ان جعفر العسكري كان يتكلم سبع لغات ونوري السعيد كان شعلة ذكاء.. ولكن الابن رفعت يزودنا هنا بنموذج محتشم عن نظرة ابناء الباشوات المتعالية والمستحقرة تجاه من جاءوا مع الملك فيصل.. نحن هنا امام متتاليات البداوة والحضارة..المتخلف والمتعلم !! باختصار.. رفعت الجادرجي مؤرخا هو مثل رفعت الجادرجي مصمما للأعلام .. يستخدم دائما "اللون الازرق" لِتلوين الاشياء التي لا تعجبه .. لا غرابة بعد ذلك أن تقرأ في هذا الكتاب "العائلي" جدا (والذي أشرف على ترجمته وقدم له الابن رفعت لا بل وقام بأجراء تعديلات كثيرة على محتوى الكتاب كما يقول لنا في المقدمة شاكرا "المؤلفة" على قبولها بذلك.. مذهل كيف يُكتب التاريخ اليوم ..كل واحد يكتب تاريخ عائلته كما يشاء) .. اقول لا غرابة بعد ذلك أن تقرأ في هذه الكتاب جُمل "بدون غلوتين" من مثل ان عائلة الجادرجي " تنتمي الى ارستقراطية بغداد القديمة من الموظفين، وذات جذور قد تكون تركية".. عبارة "قد تكون تركية" (وهي حتما من ضمن تعديلات الأبن رفعت) ذكرتني بالمقولة الشكسبيرية الشهيرة : التاريخ هو حكايات مجانين تروى لِأغبياء.
التاريخ السياسي لبلد ما هو قبل كل شيء تاريخ صراع النخب على السلطة .. هذا ما يقوله لنا عالم الاجتماع السياسي كايتانو موسكا في كتاب "الطبقة الحاكمة" وهو واحد من كلاسيكيات العلوم السياسية .. موسكا ينتمي لتيار الواقعية السياسية الإيطالي الذي طور وحدّث منهج ماكيافيلي الذي يركز على الوقائع ولا يعير اهمية للخطابات الايديولوجية التي غالبا ما تخفي النوايا الحقيقية.. موسكا يذكرنا بحقيقة سوسيولوجية مهمة في كتابه وهي أن العامل المادي هو ليس دائما المحرك الاساس عند النخب المتصارعة على السلطة وإن ما يحركهم غالبا هو رغبة التفوق أو الوجاهة الاجتماعية والسياسية التي تمنحها السلطة .. من هنا قوله : "ان الصراع من أجل الوجاهة هي ظاهرة بشرية ثابتة نجدها في جميع المجتمعات البشرية، من الأكثر حضارة وصولاً إلى تلك التي خرجت بالكاد من [الطور البدائي] المتوحش":
The struggle for pre-eminence is a constant phenomenon that arises in all human societies, from the most highly civilized down to such as have barely issued from savagery
وصراع الجادرجي الاب مع نوري السعيد هو في أصله صراع على الوجاهة الاجتماعية والسياسية .. صراع ارتدى بعد ذلك اقنعة ايديولوجية مختلفة حسب الظروف السياسية.. لان الجادرجي ابن "الباشا" العثماني لم يتقبل تَبَوّء نوري السعيد ذو الأصول الاجتماعية المتواضعة موقع الوجاهة والسلطة.. وهو ايضا صراع بين التيار التركي (الجادرحي وحكمت سليمان) الذي كان يحلم حتى نهاية الثلاثينات بإرجاع العراق الى تركيا.. وبين الضباط الشريفيين من مثل نوري السعيد ذو الولاء الملكي "العروبي" .. عندما نفهم هذه الدوافع سنفهم محركات انقلاب ١٩٣٦ الذي جاء بحكمت سليمان والجادرجي الى السلطة.. وكامل الجادرجي الذي دعم أول انقلاب في كل منطقة الشرق الأوسط عام ١٩٣٦ وشارك في حكومة هذا الانقلاب .. هو نفس كامل الجادرجي الذي دعم انقلاب تموز ١٩٥٨ وشارك في حكومة هذا الانقلاب .. بسبب نفس العداء المستديم لنوري السعيد وأن اخفى الجادرجي عداءه هذا تحت أزياء تنكرية سياسية .. الازياء التنكرية السياسية من شعارات وافكار جميلة غرضها اخفاء قبح الضغينة التنافسية على الوجاهة .. اياك ان تصدق خطاب سياسي.. السياسي هو "انا" منتفخة تغطي "كرشها" القبيح بازياء ايديولوجية جميلة.. ماكيافيلي مر من هنا.
لكن الواقع انتقم من ديماغوجية "القطب المدني" (كما يحلو لحفيد الباشا أن يسمي تيار والده) شر انتقام .. التاريخ فقط هو من يحكم على التاريخ .. وهكذا كان.. فكامل الجادرجي الذي كان يمارس العمل السياسي بحرية نسبية في العهد الملكي.. تم منعه وحزبه نهائيا من ممارسة العمل السياسي بأمر من "الزعيم الأوحد" عبد الكريم قاسم.. كامل الجادرجي الذي صفق لكل الانقلابات العسكرية استلم بهذا المنع شهادته العليا في الغباء السياسي وبامتياز.. حدث ذلك بعد ان قام الابن رفعت بالتخطيط والإشراف على نصب الحرية الذي يتوسطه العسكري كاسر القضبان وفاتح عهد الحرية الجديد.. إنها مفارقة نصب الحرية .. الحرية التي لم نرها منذ نصب الحرية.. لان هذا العسكري كاسر القضبان فتح عهدا من الانقلابات والانقلابات المضادة .. الضغائن المتنكرة بالمبادئ والأفكار النبيلة تقتل .. الافكار الكاذبة تقتل كما يقول البير كامو .. العسكر والحرية هما تناقض أضداد فلسفي وعملي.. الدبابة والحرية هما مفارقة ( جذر الكلمة "فَرَّقَ بين شيئين" مفيد هنا).. مفارقة لم يفهمها ابن الباشا وحفيد الباشا لانهما كانا سجناء ضغينتهم لنوري السعيد.. الدبابات التي صفقت لها عائلة الجادرجي.. الدبابات التي تركت ثكناتها ذات صباح اسود وفتحت حفلة جنون سياسي مستديمة .. هذه الدبابات هي المسؤولة عن مسار الخراب والهدم السياسي .. لانها كانت المعول الذي هدم أسس الدولة المدنية الناشئة .. وحفيد الباشا وعائلته ساهموا في وصول هذا "المعول" العسكري الى السلطة.
باختصار.. الخراب في العراق هو خراب سياسي قبل ان يكون خراب عمراني..انه منطق الأولويات.. بلا دولة واستقرار سياسي ليس هناك لا حضارة ولا "بطيخ".. بلا دولة .. الخراب هو المنتج الوحيد ..اعطني دولة وامنحني مئة عام استقرار سياسي ساعطيك حضارة.. هكذا تكلمت السوسيولوجيا التاريخية .. بمعنى ان الاستقرار وبالتالي التراكم بكل أشكاله هو شرط انتاج الحضارة وليس العرق.. ورفعت الجادرجي المولع بالدبابات وبقدرة الدبابات على "التغيير" و"التحرير".. رفعت الجادرجي الذي صفق في شبابه للدبابة التي اطاحت بالنظام الملكي وجاءتنا بالعسكر وثقافة الانقلابات.. رفعت الجادرجي الذي صفق في شيخوخته للدبابة الامريكية التي جاءتنا بـ"شعيط ومعيط" والاربعين الف حرامي الذين نهبوا ودمروا العراق.. رفعت الجادرجي هذا هو آخِر من يحق له بالحديث عن الإرث الحضاري العراقي.. لأنه ساهم وعائلته في هدم ما هو أهم بملايين المرات من أعماله الهندسية.. ساهم وعائلته في هدم أسس الدولة المدنية الناشئة في العراق.. وهي الدولة التي قام عليها الملك فيصل الاول.. انسان في قمة الاعتدال والحكمة السياسية.. وهو انسان بدوي .. لا عزاء لضغينة احفاد الباشاوات.
السلام عليكم ورحمة اله وبركاته
ردحذفلنسمع ما يخص الجادرجي من التاريخ
لقاء مع طالب عبدالوهاب مرجان في شهادات للتاريخ تقديم د.حميد عبدالله
https://www.youtube.com/watch?v=EG3WEBs1Sb0