في الصين القديمة كانت هناك وظيفة اسمها "موظف الاشياء الصغيرة" .. مهمة هذا الموظف هو التجول في الطرقات والاسواق وتسجيل ما يقوله الناس عفويا من اجل اعطاء الامير فكرة عن الرأي العام .. وهذا كان الهدف السياسي الوحيد من هذه الوظيفة .. وهي بذلك تختلف عن ما تسميه الادبيات التاريخية العربية "بالعيون" او ما يُعرف في سجلات الدولة الحديثة بالمخبر او الجاسوس.. مهمة "موظف الاشياء الصغيرة" الصيني كانت اكثر نبلا من مهام العيون والمخبرين .. فموظف الاشياء الصغيرة يسجل ما يقوله اشخاص غير محددين مسبقا وبلا اسماء وغير مهمين سياسيا ..اشخاص عاديون .. من اجل منح الحاكم فكرة عن الراي العام فقط .. ووظيفته بهذا المعنى تشبه استطلاع الاراء السائد اليوم في الديمقراطيات من اجل منح السياسي وجهات نظر "الشارع".. هذا النمط في التسجيل يصبح مع الوقت مصدر تاريخي فريد لانه يحفظ لنا اراء الناس العاديين التي غالبا ما تغيب عن كتب التاريخ الرسمية التي تُكرس للملوك والامراء والقادة وحاشياتهم .
نستطيع ان نقول بقليل من "التجني" اللغوي بأن "موظف الاشياء الصغيرة" الصيني هو رائد التيار التسجيلي في علم التاريخ الحديث والذي يسمى بـِ"ألتاريخ من الاسفل".. كنقيض "للتاريخ من الاعلى" الذي يركز حصريا على تاريخ الملوك و"فتوحاتهم" وقادة الانقلابات و"ثوراتهم" وهو تاريخ غالبا ما تشوبه المبالغات وانصاف الحقائق وارباعها لانه مكتوب من قبل "نخب فكرية" لها مصالحها و ميولها الايديولوجية .. اما"ألتاريخ من الاسفل" فهو تسجيل "مونوغرافي" لحياة الناس العاديين لاغراض معرفية بحتة مما يعطينا صورة "امينة" عن الجو الفكري والسايكولوجي للناس في حقبة ما بعيدا عن ضوضاء ومبالغات الخطاب السياسي المأزوم.
المونوغرافيا تعني في اللغة اليونانية "تصوير لموضوع واحد" .. وهي في علم الاجتماع تمارس كدراسة متعمقة تقتصر على موضوع اجتماعي واحد وتستند إلى الملاحظة والتسجيل المباشر من خلال المعايشة الحية.. شاكر مصطفى سليم هو اول من قام بهذا الجهد التسجيلي في العراق.. ودراسته عن قرية الجبايش في جنوب العراق هي اول وأخِر دراسة "منوغرافية" في العراق.. وهو بمعنى من المعاني اول مؤرخ "اشياء صغيرة" عراقي.. شاكر مصطفى سليم قام بدراسته في العهد الملكي .. انذاك كان بامكان الباحث ان يقوم بدراسة تسجيلية دقيقة من دون ان يتهم بأنه جاسوس او عميل الخ من التهم التي سادت بعد انقلاب ١٤ تموز ومجيء "جمهوريات الاسلاك الشائكة" للحكم .. في "جمهوريات الاسلاك الشائكة" اصبح من المستحيل القيام بمثل هكذا دراسات ميدانية في العراق لان الكلام بعفوية اصبح مغامرة قد تؤدي بحياة الانسان الى التهلكة.. وبلا عفوية ليس هناك موظف اشياء صغيرة.. في مثل هذه الاجواء التي سادت فيها وظيفة المخبر السري اصبح السكوت من ذهب.. لهذا السبب تم اهمال ونسيان جزء كبير من الذاكرة الاجتماعية العراقية.
قبل سنوات تعرفت على "موظف اشياء صغيرة" عراقي اسمه حجي محمد .. حجي محمد هذا كان والد صديق تعرفت عليه في الغربة .. حجي محمد قضى حياته عاملا في معمل نسيج "فتاح باشا" في بغداد .. وهو قد شهد العهد الملكي شابا وعاش بعد ذلك في جمهوريات الاسلاك الشائكة بجميع اشكالها .. حجي محمد كان شيخا وقورا .. صامت في اغلب الاحيان.. ولكنك ما ان تتطرق امامه لموضوع العراق.. حتى تراه يخرج بهدوء من صمته ويبدأ برواية قصص من ذاكرته الخصبة عن العراق الذي عرف.. والعراق الذي عرفه حجي محمد بشكل جيد هو معمل فتاح باشا.. لهذا السبب فان حكاياته ومشاهداته هي نوع من المونوغرافيا العفوية لهذا العراق المصغر .. انا نادم لأنني لم اسجل كل الحكايات التي سمعتها من "حجي محمد".. سجلت بعضها انذاك ولكن كسلي منعني من الاستمرار.. كان يمكن عمل كتاب رائع عن مشاهداته.. حجي محمد توفي قبل بضعة سنوات بعيدا عن بلده.
قبل ذلك .. كنت كلما التقي بصديقي اسأله مداعبا عن صحة الوالد: "شلون الحجي سميث" و"شَخبار الحجي سميث"؟ .. واصبح لقب حجي محمد بيني بين صديقي هو "حجي سميث".. لان حجي محمد كان معجبا بمهندس انكليزي كان يعمل خبيرا في معمل "فتاح باشا" اسمه مستر سميث .. ويبدو ان مستر سميث هذا هو جنتلمان حقيقي لانه ترك انطباع لا يمحى في مخيلة حجي محمد.. سلوك مستر سميث في العمل وافعاله اصبحت معاير اخلاقية ومهنية يزن من خلالها حجي محمد سلوك وافعال الاخرين.
مشهد من مشاهدات حجي محمد .. ذات يوم وفي احد جولاته التفقدية في المعمل يمر مستر سميث من أمام "لمبة محروكة" .. "ماذا تتوقع في مثل هذه الحالة من "ملاحظ" عراقي وليس من مهندس؟" .. يسألك حجي محمد وهو يروي القصة باسلوب المقارنة المحبب لديه .. ويجيبك متذمرا:" سيصرخ بوجه احد العمال من دون ان ينظر له ويطالبه بتغيير "اللمبة المحروكة" ثم يبتعد متبخترا.. اما مستر سميث فكل ما قام به في ذلك اليوم هو انه جلب سلم وتسلقه وبدل "اللمبة المحروكة" بنفسه .. واستمر بجولته بكل هدوء وتواضع .. هذه البساطة المتواضعة من شخص ذو مرتبة وظيفية عليا هو شيء لم يراه حجي محمد لاحقا في حياته المهنية.. مشهد اخر.. ذات يوم توقفت احدى الماكنات عن العمل وتجمع حولها العمال يحاولون اصلاحها بلا نتيجة .. وهنا يأتي مستر سميث .. يبدأ بمعاينة الماكنة .. يشمر عن ساعدية اردان قميصه الابيض .. يقوم بتفكيك قطعها.. وينتهي من اصلاحها ويداه ووجهه ملطخة بالدهون وقميصه الابيض تنتشر عليه بقع سوداء .. هذا الاخلاص المهني زائد تواضع سلوك مستر سميث كرسته انموذجا للاخلاص الوظيفي المتواضع في مخيلة حجي محمد.
دبابات عبد الكريم قاسم طردت مستر سميث من فتاح باشا لانه "مستعمر".. "الرفاق" الذين "استعمروا" معمل فتاح باشا بعد ذلك التاريخ كان كل همهم هو النشاطات الحزبية ومضايقة العمال من اجل تنظيمهم حزبيا.. لا بل انهم كانوا يعطلون المعمل ويجبرون حجي محمد وزملائه على الخروج في مظاهرات داعمة للثورة .. تعطيل "فتاح باشا" من اجل الثورة ؟؟ "ما صايرة بالتاريخ" يقول حجي محمد جملته الاثيرة تعليقا على هذه المفارقة.. مستر سميث عَلَّمَ حجي محمد ان ماكنة معطلة هي خسارة للمصنع وبالتالي للبلد.. اما ابناء البلد فهم يعطلون مصنع كامل من اجل مظاهرة.. اعجاب حجي محمد بمستر سميث كان يزداد اكثر فاكثر مع تقادم الثورات وتقادم الرفاق المناضلين وتقادم المفارقات في فتاح باشا.
حجي محمد رجل اُمّي لا يعرف القراءة والكتابة.. وهو رغم كل مضايقات الرفاق لم ينتمي لحزب في حياته.. "الحزب" الوحيد الذي "اختاره" حجي محمد هو حزب "فتاح باشا"!! و"فلسفة" هذا الحزب بسيطة : من يساهم في اصلاح ماكنة "خربانة" في فتاح باشا هو عراقي حتى وان كان انكليزيا.. من يمر امام "لمبة محروكة" ولا يبدلها هو "مستعمر" للوطن حتى وان كان جده نبوخذنصر.
هذه هي باختصار شديد قصة حجي محمد ومستر سميث.. تاريخ من الاسفل .. اشخاص ادّوا "ادوارهم الصغيرة" واختفوا من مسرح التاريخ بلا ضوضاء.. بلا تصفيق .. بلا احتفاليات تكريم او تماثيل.. اشخاص عاديون.. و"التاريخ" لا يحب الاشخاص العاديين.. "التاريخ" يحتاج الى "اكشن" واثارة .. يحتاج الى مقامرين ومؤامرات وعسكر وانقلابات.. يحتاج الى قتل وسحل وغوغاء.. يحتاج الى قاتل ومقتول و"ساحل" ومسحول من امثال عبد الكريم قاسم ورفاقه في مهنة الانقلابات الدموية.. اما الأشخاص المسالمون من امثال حجي محمد.. "موظفوا الاشياء الصغيرة".. المهندسون الذين اخلصوا لمكائنهم بتواضع.. هولاء لا يذكرهم احد.. هي اذا مناسبة لرد الجميل لـ حجي محمد "كموظف اشياء صغيرة" بارع .. وعامل كبير افنى حياته مناضلا في صفوف "حزب فتاح باشا"!! وهي ايضا مناسبة لتحية مستر سميث الذي استبدل "اللمبة المحروكة" بتواضع جنتلمان.. وحاول ذات يوم اصلاح "ماكنة" العراق الخربانة!!
السلام عايكم عزيزي استاذ كريم
ردحذففرحت كثيرا عندما تفاجئت بعودتك للكتابة واذا تتتذكر اتصلت بك سابقا مستفسرا اين انت يارجل؟ هل شعرت بالاحباط؟ واجبتني ربما.سبب تصفحي للدربونة اني اجد الكثير من كتاباتك يتم سرقتها وتنسب باسماء السارقين. تحياتي لك- صباح الجنابي/السويد