قرأت قبل ايام مقال لشخص اسمه صادق الطائي يتناول الجدل الأخير بخصوص "ثورة العشرين" .. صاحبنا هذا يبدأ مقاله بمقدمة نقدية تستعير لغة ما بعد الحداثة .. ثورة العشرين وفقا لهذه اللغة هي "موضوعا إشكاليا" في "السردية العراقية الرسمية" ينبغي "تفكيك معطياته، للوصول إلى فهم تاريخي موضوعي لما حدث".. وهو يختم مرافعته هذه بموعظة ينتقد فيها كتابات "منصات التواصل الاجتماعي" التي يشوبها "عدم الدقة، وعدم بذل الجهد لتحري المعلومة الصحيحة" .. كل العبارات والجمل بين مزدوجتين هي للطائي وانا هنا اقوم باعادة ترتيبها منطقيا لكي اختصر فحوى كلامه.
تقرأ هذه المقدمة وتُمنّي النفس بـ"تفكيك معطيات" و"دقة" أكبر و"معلومة صحيحة".. خصوصا ونحن في زمن أصبح فيه قائد فصيل دريلات في جيش المهدي "مؤرخا".. ولكنك تتقدم في قراءة المقال وتجد ان خلاصة محاولة الطائي التفكيكية هي جملة تقول : "أن بؤرة التوتر التي انطلقت منها انتفاضة القبائل كانت حوض الفرات، إذ انطلقت من وسطه وجنوبه شرارة التحرك، وتحديدا من الفرات الأوسط، من قبائل الديوانية والمناطق المحيطة بها..... ثم بعد حوالي شهر ونصف الشهر، أي في منتصف شهر أغسطس/آب التحقت بالانتفاضة قبائل أعالي الفرات من الفلوجة إلى دير الزور ".
لطيفة جملة "ثم بعد حوالي شهر ونصف الشهر".. من أين جاءت هذه الدقة الحسابية ؟؟ لا تعرف .. الحكواتية لا يقولون لك كيف توصلوا الى استنتاجاتهم .. وتاريخهم هو تاريخ بلا مصادر.. لف ودوران متفذلك في مفردات "السردية " و "التفكيك" و"الاشكالية" وتجد نفسك في نهاية المطاف برفقة الرأي العام السائد في "السردية الشيعية".. و"الرأي العام هو بالاصل رأي شخصين او ثلاثة تم الأخذ به بلا تمحيص او مناقشة وأصبح مع الوقت شيء مسلم به" كما يقول شوبنهاور..باختصار.. عتاد ما بعد الحداثة يُطلق في نهاية المطاف من بندقية صدئة .. من " تُفْكَةَ " خربانة .. و"درنفيسات" صاحبنا التفكيكية في مقاله هذا لا تضغط سوى على "السردية العراقية الرسمية"(افهم السردية السنية).
ما لا يعرفه "صادق" الطائي هو ان دير الزور (والتي كانت انذاك تابعة للعراق) سبقت "انتفاضة" الفرات الاوسط بستة أشهر .. و قبائل أعالي الفرات الذين ساهموا بـ "انتفاضة" دير الزور (بتخطيط وقيادة الضباط العراقيين الشريفيين) لم يطردوا الحامية البريطانية في دير الزور فقط وانما قاموا باجبار القوات البريطانية بالانسحاب من البوكمال وعانه .. ثم استولوا بعد ذلك على مدينة تلعفر وتقدموا حتى مشارف الموصل .. كل ذلك حصل بين نهاية ديسمبر ١٩١٩ وبداية تموز ١٩٢٠ وهو الشهر الذي بدأت فيه "ثورة" عشائر الفرات الاوسط.. إذا مَنْ اين جاءنا صادق الطائي بسالفة ان قبائل أعالي الفرات في دير الزور " التحقت بعد حوالي شهر ونصف بانتفاضة قبائل الفرات الاوسط ؟؟؟؟؟؟
وهذه التفاصيل نجدها في واحد من اوائل الكتب التي تطرقت تحليليا لـ "ثورة العشرين" وهو كتاب "عصيان مسلح في بلاد ما بين النهرين" ومؤلفه هو ايلمر هالدين .. القائد الاعلى القوات البريطانية في العراق ابان "ثورة العشرين".. وهالدين وبحكم موقعه والمعلومات الاستخبارية التي كانت تصله يمتلك ما تسميه الأدبيات الفلسفية بمنظور سيريوس .. منظور "الدرون" .. الارتفاع فوق الحدث والنظر له بشمولية لا يمتلكها "شيخ عشيرة" لم يغادر في حياته الفرات الاوسط و"ثار" في "ثورة العشرين" بسبب مصالح شخصية ( بسبب نظام الضرائب البريطاني الأكثر دقة حسابيا والذي لم يترك مجال للدفع المؤجل كما كان الحال أيام العثمانيين) .. وراح بعد ذلك يمنح اوسمة الوطنية والاولوية في "الثورة" بحسب الموقع الجغرافي : الفرات الاوسط مقابل افندية بغداد وقبائل اعالي الفرات.. سخافات فريق المزهر الفرعون في هذا الإطار معروفة .. ورد علي البازركان على هذه السخافات معروف ايضا.. وصاحبنا الطائي في جملته اعلاه يكرر نفس هذه السخافات المغمسة بـ"شكولاته" الضدية والمناطقية التي تعشقها الذائقة الجنوبية.
ايلمر هالدين في كتابه عن "ثورة العشرين" والذي يقدم تحليلا استراتيجيا يأخذ في نظر الاعتبار العامل النفسي السايكولوجي .. يقول شيئا اخر اهم .. وهو أن أحداث دير الزور هي التي شجعت قبائل الفرات الاوسط على "الثورة".. لماذا ؟؟ لان العراقيين انذاك كانوا يتوقعون ان يقوم البريطانيين برد قوي تجاه ما حصل في دير الزور.. ولكن أوامر لندن أوصت بعدم الرد وعدم استرجاع دير الزور .. وهذا قد اعطى لباقي اجزاء العراق انطباع عن ضعف القوات البريطانية : وهو يقول بالحرف : "لم يتخذ اي إجراء عقابي [بحق المتمردين في دير الزور] وتم قبول الاهانة . ومنذ تلك اللحظة أصبحت "الثورة" في عموم العراق أمرا محتوما".
Nothing was done; the insult was accepted, and from that time the subsequent rising in Iraq was a matter of absolute certainty. Insurrection in Mesopotamia. pp. 33
وهالدين في خلاصة تحليله يقول " أنا لا أريد أن أتطرق إلى سؤال ما إذا كان إسترجاع دير الزور ممكنا أم لا. ولكن لو اننا قمنا بالرد فورا [على المتمردين واسترجاع دير الزور] .... لكان من الممكن تجنب المشاكل اللاحقة في ألبو كمال وعانه. لا بل اني أجرؤ على القول بأن "الثورة" اللاحقة [ ثورة العشرين] في العراق ما كان لها أن تحدث [لو اننا قمنا برد سريع على أحداث دير الزور].
Could this, however, have been promptly done.... , the subsequent trouble at Albu Kamal and Anah would have been avoided. I might even hazard the opinion that the subsequent rising in Iraq would never have taken place. Insurrection in Mesopotamia. pp. 33
وهو بعد ذلك يستشهد بتحذير شيخ قبيلة عنزة فهد الهذال الذي قال في شباط 1920 لأحد الضباط الانكليز محذرا من ترك ما حصل في دير الزور بلا رد : " صدق او لا تصدق ما ساقوله لك ، ولكنكم إذا لم تعيدوا احتلال دير الزور ، فإنكم ستحصلون على تمرد في مناطق الفرات السفلى في غضون ستة أشهر".
The disastrous results of weakness were evident to our friends among the Arabs ; and Fahad Beg, or, to give him his full title, Fahad Beg ibn Hadhdhal, the chief of the Amarat section of the Anizah tribe, who stood loyal to us throughout the later insurrection, prophetically remarked in February 1920 to an officer of mystaff: "Whether you believe it or not, if you do not reoccupy Dair-al-Zaur you will have a rebellion on the Lower Euphrates within six months."
وطواطات "ما قبل الحداثة" ما زالوا يعتقدون ان "قبائل أعالي الفرات التحقت بانتفاضة الفرات الاوسط بعد حوالي شهر ونصف الشهر من بدئها" !! طواطات ما قبل الحداثة ما زالوا يستندون في كتابة التاريخ الى روايات شيوخ عشائر ورجال دين من الفرات الاوسط جبلوا على الضدية المناطقية والطائفية.. وهذه الروايات اصبحت فيما بعد اساس "السردية" الفراتية الشيعية.. ليس هناك أتعس من شخص يدعي تفكيك معطيات حدث، للوصول إلى فهم تأريخي موضوعي له وينتقد عدم الدقة في الجدل الأخير و يجحفل مفردات ما بعد الحداثة .. ثم يخلص في نهاية المطاف الى كليشة .. الى رأي عام سائد كرسه اشخاص يعتقدون ان علم التاريخ هو "حسجة" شيوخ عشائر.
تعالوا الآن لنتطرق لما هو اهم .. نعم "السردية العراقية الرسمية" لثورة العشرين والتي تبنتها حكومات ما قبل الاحتلال الأمريكي.. هي سردية فيها الكثير من التجني على التاريخ وفيها مبالغات كثيرة وقسر لمعاني الاحداث .. وحاولت منح تمرد شخصيات عشائرية صفة الثورة .. كل هذا صحيح .. ولكن ما يشفع لها سياسيا (وليس منهجيا) هي انها حاولت خلق مخيال جمعي وطني عراقي.. وهي تبقى رغم مبالغاتها وعدم دقتها التاريخية "محاولة لرتق التشظي العراقي التاريخي.. كل الدول شيدت مخيالها الجماعي على سرديات مفبركة .. ليس هناك دولة من دون سردية كبرى مراوغة للتاريخ .. دول مثل بريطانيا وفرنسا وأمريكا هي قبل كل شيء سرديات كبرى ومخيال جمعي مفبرك.. وطواطات ما بعد الحداثة لا يفهمون ذلك.. لأنهم لا يفهمون الشروط الموضوعية لبناء الدول.
من هنا .. ومن هذا المنظور السياسي.. تبقى "السردية العراقية الرسمية" افضل الف مرة من سردية المظلومية الشيعية .. لانها على سلبياتها ساعدت خلال عدة عقود على خلق شروط تعايش اهلي بين السنة والشيعة.. وساعدت على الخروج من الغيتوهات الطائفية التي كانت سائدة قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة .. لا غرابة ان اضمحلال هذه "السردية العراقية الرسمية" بعد الاحتلال الامريكي وظهور سردية المظلومية الشيعية محلها.. ادخل العراق في ابشع حرب طائفية عرفها في كل تاريخه .
المفكر الفرنسي ارنست رينان يقول ان :"الوسيلة الأكثر فعالية لتوضيح اهمية فكرة ما، هو محو تلك الفكرة وإظهار ما سيكون عليه حال العالم من دونها".
Le moyen le plus énergique de relever l'importance d'une idée, c'est de la supprimer et de montrer ce que le monde devient sans elle
والعراق اليوم .. العراق الذي قسمته سردية المظلومية الشيعية الى احفاد يزيد واحفاد الحسين.. كما قالها ذات يوم رئيس وزراء شيعي .. هذا العراق الطائفي الذي اصبح فيه سرسرية ومجرمين من امثال قيس الخزعلي "مؤرخين" وقادة.. هذا العراق الذي اصبح فيه حكواتية "ما قبل الحداثة" يرطنون بمفردات ما بعد الحداثة.. هذا العراق الذي يسهر سرسرية ايران وتبعيتها على تقسيمة في كل طقس ومناسبة.. من هلال العيد والأذان و"ثورة العشرين" الخ .. هذا العراق المتشظي اجتماعيا وسياسيا وفكريا هو من أعاد "للسردية العراقية الرسمية" السابقة اهميتها المجتمعية وقيمتها السياسية.. فسردية غير دقيقة تاريخيا جامعة للوطن هي افضل الف مرة من سردية غير دقيقة تاريخيا مدمرة بضديتها للوطن.. وهذا ما لم يفهمه حتى اليوم طواطات "ما قبل الحداثة".
قديما قالت العرب : " قد ضَلَّ من كانت العميان تَهْديه".. نستطيع ان نحور هذه المقولة احتراما للعميان ونقول "قد ضَلَّ من كانت الطواطات تَهْديه".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق