2025/08/20

تحت الشيعي الايراني ابحث عن الساساني

في الأيام التي تلت وقف اطلاق النار بين ايران وإسرائيل دشنت ايران حملة دعائية قومية غير مسبوقة في تاريخ "الجمهورية الإسلامية".. شوارع وساحات ايران الكبرى تزينت بلوحات إعلانية وجداريات ضخمة استلهمت رموز قومية فارسية ساسانية.. ساحة ونك الشهيرة بشمال طهران احتضنت جدارية يظهر فيها "آرش ذو القوس" (المعادل الفارسي الاسطوري لـ "روبن هوود")!! وهو يطلق سهامه ومعها تنطلق الصواريخ نحو اسرائيل.. ولكن الجدارية الابرز ظهرت في احدى ساحات شيراز.. وفيها يظهر الملك الساساني شابور الأول وامامه راكعا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.. مع عبارة بالفارسية تقول: "اركع امام الإيرانيين"!!!  

 قبل ذلك وفي خطابه الأول اثناء الضربة الإسرائيلية استخدم خامنئي مفردة ايران (برمزيتها الآرية) اثنين وعشرين مرة.. واشاد بامجاد ايران التاريخية.. استدارة المرشد القومية هذه عبرت عن نفسها بشكل أوضح خلال لطمية عاشوراء الأخيرة التي أقامها المرشد في حسينية مكتبه.. حين استدعى مُنشده الخاص بالمناسبات الدينية محمود كريمي الذي كان يقف أمامه ويردد لطمياته الحسينية التقليدية.. و"همس في أذنه" بضعه كلمات.. وهنا "ابتسم المنشد وعاد الى مكانه.. ثم بدأ يغني نشيد قومي: "أي إيران، إيران" (يا ايران...).. وما ان بدأ المنشد يغني "في روحي ووجداني، تبقين يا وطن"، حتى راح الحضور (الذي كان قبل دقائق يتباكى على الحسين) يردد بصوت واحد خلفه: "خاب القلب الذي لا يخفق من أجلك".. خامنئي ظهر اثناء النشيد متأثرا بشدة.. علما ان هذا النشيد هو من تأليف الشاعر القومي نكاهبان، وهو معارض لنظام "الجمهورية الإسلامية".. وعائلة هذا الشاعر الذي توفي في المنفى اعترضت على هذا الاستخدام اللطمي لقصيدة قومية.

 تخيل لطمية في كربلاء اليوم.. تُغنى خلالها قصيدة "وطن مد على الأفق جناحا" للشاعر البعثي شفق الكمالي!!! هذه المقاربة العراقية ستساعدك على استيعاب "قُطْر" الاستدارة القومية التي قامت بها "عجلة" مرشد "الجمهورية الإسلامية"؟؟ نظام شيد سرديته السياسية خلال خمس وأربعين عاما على خطاب "الامة الإسلامي".. ولكنه في معركته المصيرية الكبرى يستعين بخطاب "الامة الفارسية"!! جمهورية "إسلامية" نادت وتنادي بالركوع لِله وحده.. ولكنها في معركتها المصيرية الكبرى تطلب من خصمها الركوع امام شابور الاول!! "جمهورية إسلامية" بَنَتْ كل حماسياتها على أئمة الشيعة.. ولكنها في معركتها المصيرية الكبرى تستعين بـ رموز ساسانية!!  

لماذا ازاح الرمز الساساني الرمز "الإسلامي" في هذه اللحظة المصيرية التي مرت بها ايران؟؟ لماذا ازاح "الامام" الساساني الامام الشيعي؟؟ "لماذا ازاح شابور الاول الحسين من مسرح التحشيد الدعائي الايراني؟؟ خصوصا وان وقف اطلاق النار "تزامن" مع عاشورا هذه السنة؟؟ أولا.. لان الحسين هو رمز سلبي.. الحسين هو مشروع سياسي فاشل.. محاولة انقلاب سياسي فاشل.. الحسين هو مرادف للخسارة والنحيب واللطم.. وايران المهزومة اليوم لا تحتاج الى نحيب.. ايران الخاسرة اليوم لا تحتاج الى رمز مهزوم.. إيران في هذا الظرف العصيب تحتاج الى حماسة وفخر وكبرياء ترفع بها معنويات شعبها الذي تلقى أعنف صفعة في تاريخه الحديث.. ايران في هذا الظرف العصيب تحتاج الى بطل إيجابي مثل "آرش ذو القوس".. ايران التي اهتزت اركان دولتها وكادت ان تسقط تحتاج الى هيبة رجل دولة كـ شابور الأول الذي كان يخر امامه راكعين ملوك العالم القديم.

ثانيا.. شابور الأول ازاح الحسين من مسرح التحشيد الدعائي الإيراني اليوم.. لان حرب ايران اليوم هي مع إسرائيل وليس مع بلد عربي مسلم.. فالحسين الذي زوجوه اسطوريا "بيبي" شهربانو بنت اخر ملوك ساسان يمكن جحفلته ضد "العرب" و"دين العرب".. الحسين و"مظلوميته" كحفيد نبي "مضطهد" هو سلاح فعّال داخل المحيط الرعاعي العربي الذي شكلت سايكولوجيته "ابستيمه" قيميّة ينتصر فيها حسين "كربلاء" الاسطوري على حسين المدينة التاريخي الذي قضى العقود الأخيرة من حياته ينكح الجواري والاماء متنعما بعطايا وهدايا معاوية!! داخل هذا المحيط الرعاعي.. الحسين هو "حصان طروادة" فَعّال!! ولكن امام إسرائيل الحسين لا يعني شيئا.. امام إسرائيل الحسين نكرة وبالتالي فهو غير نافع سياسيا.. لذلك يجب استحضار رموز تاريخية أخرى.. امام إسرائيل يجب استعادة ثنائية "السيد والعبد" التاريخية.. يجب استعادة "الملك الفارسي" الذي حرر "اليهود العبيد" من "طغيان بابل".. فقط عندما نفهم هذا الاطار التاريخي الاسطوري سنستوعب رمزية جدارية شيراز التي تُصور نتانياهو راكعا امام شابور الأول.. فهي رسالة مبطنة لليهود لتذكيرهم بالماضي القديم حين كانوا عبيدا يركعون امام الشاهنشاه الفارسي.. الذات الإيرانية الاستعلائية تسافر دائما في ادغال التاريخ.

النفس البشرية تعبر عن مكنوناتها بصراحة عند الازمات الكبرى.. هذه مسلمة يعرفها كل المختصين بعلم النفس.. والشعوب تعمل بنفس الكيفية.. والإيراني عاش في الأسابيع الأخيرة ازمة وجودية لم يعرفها في كل تاريخه الحديث.. ازمة كادت تؤدي بالنظام وبالتالي بايران كدولة.. في مثل هذه الازمات تنكشف الدواخل.. في مثل هذه الازمات الوجودية تنكص الذات الى اعماقها الدفينة.. الى عوالم اللاوعي لكي تنهل من المكبوت.. وإيران باستحضارها الرمز الساساني في هذه الفترة العصيبة تكشف لنا عن هويتها العميقة.. تكشف لنا عن "لاوعيها" السياسي.. والسلوك اللاواعي هو اصدق أنواع السلوك.. لأنه اكثرها عفوية.. باختصار.. الاستدارة القومية "للجمهورية الساسانية" تظهر لنا طبقة أعمق من الهوية الإيرانية.

خامنئي الذي استذكر نشيد "يا ايران".. خامنئي "الحافظ" لنشيد "يا ايران".. يقول لنا ان"مراجع" الشيعة هم ليسوا كائنات ميتافيزيقية عابرة للحدود الجغرافية والثقافية.. وبالتالي فان وطنهم حاضر في ارواحهم ووجدانهم.. خامنئي الذي ردد بتأثر شديد "في روحي ووجداني، تبقين يا وطن"..  يذكرنا.. عسى ان تنفع الذكرى.. ان "مراجع" الشيعة الايرانيون في العراق هم ايضا ليسوا كائنات فضائية هبطت في النجف وكربلاء بلا روابط ثقافية وارتباطات أيديولوجية ببلدهم الام!!  خامنئي كما السيستاني هم أناس ترعرعوا في التربة الإيرانية.. وتكوينهم الثقافي في التربة الإيرانية يجعل منهم اناس يحبون الفسنجون وشعر حافظ وشاهنامه الفردوسي ونشيد "يا ايران".. خامنئي الذي ارتد الى الهوية الوطنية في أصعب لحظة يمر بها نظامه.. يؤكد لنا ان الوطن عند مراجع الشيعة الإيرانيون يأتي قبل الأيديولوجيا الدينية.. "هو اول وهي المحل الثاني"!! وهذا ما يفسر "المزاج الإيراني" للسيستاني اثناء حراك تشرين.  

 وعود على بدء.. محسن برهاني أستاذ القانون في جامعة طهران والمعلق السياسي المعروف في إيران.. يقول عن استخدام "الجمهورية الاسلامية" للرموز الساسانية: «اننا نشهد ولادة اندماج بين الهوية الشيعية والقومية الإيرانية".. كما لو ان العلاقة بين "الهوية الشيعية والقومية الإيرانية" هي وليدة الأسابيع الأخيرة!! كل من يعرف تاريخ ايران القديم والحديث يعرف ايضا ان "أستاذ الجامعة" الإيراني هذا جاهل بتاريخ بلاده.. وكل من يعرف مفهوم الهوية سوسيولوجيا.. يعرف انها متعددة الطبقات.. الظاهر "الصلب" منها ما هو سوى جزء من مكوناتها العميقة السائلة والمتحركة.. وبالتالي فان الهوية وخصوصا السياسية هي في حركة تشكيل وتشكّل دائمة وكل هذا تبعا للظروف المحيطة.

"الاندماج بين الهوية الشيعية والقومية الإيرانية" ليس شيئا جديدا.. وهو قديم قدم "الفتح" الإسلامي لبلاد فارس.. من ثورات الموالي التي تبنت أفكار "الحزب الهاشمي".. مرورا بحركة الشعوبية.. ووصولا الى "جمهورية خامنئي الساسانية".. من الوزير الفارسي الذي وبخ الشاعر أبو تمام لأنه شبه الخليفة العباسي ب رمز الكرم العربي حاتم الطائي.. الى شاه ايران الذي جند شيعة لبنان طائفيا خوفا من خطر تيار العروبة الناصري.. كانت ولازالت القومية الإيرانية في تلاقح مستمر مع الهوية الشيعية.. لا بل ان المذهب الشيعي تاريخيا ما هو الا نتاج لهذا التلاقح الطويل بين الفكر القومي الإيراني وبين الإسلام.. لان المذهب الشيعي من منظور "سوسيوتاريخي" هو "تنغيل" قومي إيراني للفكر الإسلامي.. "انتقام قومي إيراني من دين العرب".. كما يقول الكاتب الفرنسي ارثور دو غوبينو.

غوبينو زار ايران في منتصف القرن التاسع عشر.. واقام فيها اقامة طويلة.. خالط خلالها كل شرائح المجتمع الإيراني.. وخصوصا رجال الدين الشيعة واليهود.. وحصيلة هذه الإقامة الطويلة في ايران هو كتابه "الأديان والفلسفة في اسيا الوسطى".. في هذا الكتاب يميز غوبينو بين "الاسلام العربي" و"الاسلام الإيراني" كما يسمي المذهب الشيعي.. وهو يضيف ان المذهب الشيعي هو "معطف تختفي تحته كل الأفكار والاساطير الفارسية القديمة".. المستشرق لويس ماسينيون يقول نفس الشيء ولكن بعبارات اخرى: "الثقافة الفارسية وعلى ضوء معتقدها الجديد (الإسلام) تنظر للعالم عبر موشور اساطيرها القديمة".. ولكن غوبينو المُغرم بدراسة الاديان المقارنة يذهب ابعد من ذلك حين يُبيّن ان الأحاديث والخطب الشيعية التي تنسب لائمة الشيعة ما هي الا اقتباس وتحوير لمقولات وحكم هندية وفارسية ويهودية قديمة.. وغوبينو في خلاصة تحليله للإسلام الإيراني.. يزودنا بتعبير بارع يتناسب مع الاستدارة القومية لـ خامنئي اليوم.. فهو يقول بان الشيعي الايراني هو في الواقع "مسلم ساساني".. بعبارة اخرى.. تحت الشيعي الإيراني ابحث عن الساساني!!   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق