بوفاة المؤرخ عبد العزيز الدوري في الاسبوع الماضي .. اختفى اخر ممثل لجيل رصين من الاكاديميين العراقيين .. جيل انتج افضل ما في المكتبة العراقية من كتب ..فعبد العزيز الدوري وشاكر مصطفى سليم هما افضل ممثلي هذا الجيل في العلوم الانسانية .. هذا الجيل الذي انتجه العهد الملكي وكان في طريقه لتأسيس حقل اكاديمي ناضج قتله العهد الجمهوري .. فانقلاب ١٤ تموز ١٩٥٨ الذي جاء بالعسكر والشيوعيين كان ايضا انقلابا في الحقل الاكاديمي .. فقد تم فصل كثير من الاساتذه لاسباب سياسية ومنهم عبد العزيز الدوري رئيس جامعة بغداد وواحد من مؤسسيها وابدالهم بشيوعيين .. انذاك كانت بغداد تختبرعمليا مقولة باكونين :"حياة الناس لن تكون سهلة حينما تسمي العصا التي تضربهم نفسها جمهورية".. باكونين قال جملته هذه منتقدا السلطوية النائمة في افكار كارل ماركس.
وهكذا كان.. العصا التي سمت نفسها جمهورية ارست نهجا جديدا : اهل الثقة في محل اهل الخبرة ..الشقاوات بدل العقول.. منذ ذلك الحين بدأ الحقل الاكاديمي العراقي الناشئ مسار اندثاره.. فهجرة العقول العراقية بدأت يوم احتلت العصي والحبال شوارع العراق.. المذهل هو ان "ماركس ابو دشداشة" لم يفهم حتى الان ان ظاهرة "عبد حمود" هو مسار بدء في تلك اللحظة ! فرض الحزبيين في الحقل الاكاديمي قتل اهم شروط الحقل الاكاديمي: الكفاءة والاستقلالية.. فبلا كفاءة واستقلالية ليس هناك حقل اكاديمي.. وبلا حقل اكاديمي ليس هناك ثقافة.. وبلا ثقافة ليس هناك مجتمعات ناضجة.. منذ ذلك الحين والعراق يعيش في صحراء فكرية.. منذ ذلك الحين والثقافة العراقية يهيمن عليها الشعراء والحكواتية.. منذ ذلك الحين والثقافة العراقية تهيمن عليها الشخصية البوفارية.
الشخصية البوفارية بحسب جول دوغوتيه هي نتاج خلل في الشخصية يدفع صاحبها الى تصور نفسه شخص اخر لا يمت بصله لذاته الحقيقية.. وسبب هذا التصور هو حماسة واعجاب بتلك الشخصية المتخيلة مما يدفع الشخص الى تقليدها تقليد سطحي في الملبس والخطاب والحركات.. مما ينتج شخص قرقوزي.. سطحي.. شخص يمتلك تصورا خاطئا عن ملكاته الحسية وامكانياته الفكرية.. وسبب شيوع الشخصية البوفارية هو انتشار التعليم على نطاق واسع.. وسيادة نظام تعليمي يقدم الكمي على النوعي.. مما ادى الى ان الافكار الفلسفية والادبية والعلمية تصبح مبذولة امام اشخاص لايمتلكون الادوات الذهنية الكافية لهضمها واستيعابها.. والنتيجة هو وهم الفهم.. مما يخلق ظاهرة انصاف المتعلمين.. ما هو تراكم اجيال من النخب الفكرية يصبح مبذولا امام اشخاص يمتلكون ذهنيات محدودة.. وهذه الفجوة بين تعقيد الفكر وسطحية التلقي تخلق شخصيات منتفخة بوهم الفهم.. شخصيات تستهلك فكرة الواقع قبل تجربة الواقع.. تستهلك فكرة الحب قبل تجربة الحب (مدام بوفاري انموذجا).. وعدم قدرتها على تمييز الفكرة عن الواقع يدفعها الى علاقة مَرَضيّة وصِدامية مع الواقع.. وبالتالي علاقة عنيفة مع محيطها.. والويل للمجتمعات التي تقودها شخصيات بوفارية.
لسؤ حظ العراق ان تراكمه المؤسساتي كان شبه معدوم عندما استلم اليسار العراقي السلطة.. فاليسار العراقي وخصوصا الشيوعيون العراقيون هم نماذج بوفارية بامتياز.. الكليشة السائدة في العراق والتي رسخها صندوق الكليشات علي الوردي هو ان العنف في العراق سببه بداوة الشعب العراقي وطبيعة الفرد العراقي.. ولكن هذه الكليشة الثقافوية تفشل في فهم حقيقة ان بلدان اكثر بداوة من العراق لم تنتج عنفا سياسيا.. الملك فيصل الاول رجل من بيئة بدوية ولكنه كان قمة في الاعتدال السياسي.. لماذا !؟
الثقافة البوفارية السطحية عملت على اشاعة هذه الكليشة الثقافوية لان امكانياتها الفكرية لاتسمح لها بفهم المعقد.. ثم ان الطرح الثقافوي يعفيها من طرح سؤال مسؤولياتها.. فالعنف السياسي في عراق نهاية الخمسينات والستينات هو نتيجة صعود ووصول الشخصية البوفارية الى السلطة.. مسار خراب العراق بدء منذ تلك اللحظة، حين تم تحويل الجامعة العراقية الى دكاكين حزبية.. وبدء مشروع الرجل غير المناسب في "المكان المناسب".. انها اللحظة البوفارية التي كرست ثقافة التسطيح الفكري التي لازالت سائدة في العراق ..اللحظة التي اصبح فيها سحل الناس وشنقهم في الشوارع يسمى حرية !! اللحظة التي اصبحت فيها العصا التي تضرب الناس تُسمى جمهورية !
نقلت الناشطة الفيسبوكية ليلى محمد هذا النص ونسبتها الى نفسها دون الإشارة الى مصدره .
ردحذفhttps://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1566326443588228&id=100006326617141&comment_id=1567431023477770¬if_t=like