قبل ايام نشر عصام الخفاجي مقال ينتقد فيه ما يسميه ظاهرة " إدانة الحاضر من خلال تجميل الماضي" وهي ظاهرة يعتبرها عصام الخفاجي "مثيرة للقلق في حياتنا الفكرية".. ما يثير قلق الخفاجي هو ان كُتّاب ينتمون الى جيل استفاد من منجزات الانظمة الثورية يكتشفون مع مرور السنين "جماليات جديدة" في العهد الملكي .. لذلك يقوم الخفاجي بتذكير هذا الجيل العاق من الكتاب ببضعة ارقام تحكي عن بؤس "الزمن الجميل" حين "كان العراق يسجل 50 الف حالة وفاة سنوياً بالملاريا بين عامي 1943 و1950" وحين "كانت نسبة الأمية لدى البالغين في العراق 82 بالمئة عام 1960" .. وهو يختم مرافعته بتقرير صادر عن برنامج المساعدة الأميركية في اذار(مارس) 1957، يعتبر فيه النظام السياسي في العراق الملكي «من أكثر الدول بوليسية في العالم الحر، إذ ثمة خمسون الف رجل أمن لسكان عددهم ستة ملايين».
قد يبدو غريبا ان يستعين شيوعي سابق بارقام برنامج المساعدة الأميركية لكي يكتب التاريخ .. ولكن الغرابة ستزول عندما نعرف ان هذا "الرفيق" كان من ضمن ثلة خبراء الشأن العراقي الذين استعانت بهم وزارة الخارجية الامريكية عام ٢٠٠٢ لوضع خطة ما بعد الاحتلال..انا اعتقد ان العراقيين الذين اختبروا الانظمة السياسية المتعاقبة لايحتاجون ارقام موظف وكالة امريكية ليفهموا الفرق بين الحريات النسبية التي كانت سائدة في العهد الملكي وبين جمهوريات الاسلاك الشائكة التي انتجها اليسار العراقي .. واذا كان لابد من ارقام في هذا الاطار فان ارقام الدكتور فينلون المتخصص في احصائيات العهد الملكي تقول ان عدد رجال الامن في نهاية عام ١٩٥٦ كان ٢١ الف رجل امن لسكان عددهم ستة ملايين .. اذا قليل من الاحترام لعقول الناس لايضر! فلو كان النظام الملكي نظام بوليسي عام ١٩٥٧ لما استطاعت كتيبة جنود احتلال القصر الملكي وقتل العائلة المالكة عام ١٩٥٨.
عصام الخفاجي يعيب على الجيل الجديد من الكتاب انتقائيتهم في التعامل مع الماضي وتزييفهم لواقع "الزمن الجميل" .. ولكنه في مقاله يستخدم نفس الاسلوب الانتقائي والمزيف للتاريخ .. الخفاجي يقول مثلا ان "نسبة الأمية لدى البالغين في العراق كانت 82 بالمئة عام 1960" ويترك القارئ تحت صدمة هذا الرقم الكبير .. من دون ان يقول له كم هي نسبة البالغين من مجموع عدد السكان في العراق انذاك .. فعندما نعرف ان الاطفال تحت سن العاشرة في العراق يشكلون ٣٤ بالمئة من السكان حسب احصاء ١٩٤٧.. وعندما نضيف الى ذلك الفئة العمرية من ١٠ سنوات الى ١٧ سنة وهي شريحة لاتدخل في فئة البالغين .. فان فئة غير البالغين ستشكل تقريبا نصف عدد السكان عام ١٩٤٧.. واذا علمنا ان هذه الفئة قد ازدادت في عام ١٩٦٠.. سنفهم عندها ان فئة غيرالبالغين هي في الحقيقة اكثر من نصف عدد السكان .. اي ان "نسبة 82 بالمئة من الأمية لدى البالغين في العراق عام 1960" تنطبق عمليا على اقل نصف السكان.
اختيارعصام الخفاجي لفئة البالغين ليس اختيارا بريئا.. فهو يفعل ذلك لكي لايتطرق لنسبة التعليم داخل فئة غير البالغين .. واهم انجازات العهد الملكي نظرا لحداثة عمره تكمن هنا .. يكفي ان نعرف ان مجموع التلاميذ في المدارس الابتدائية والمتوسطة في عام ١٩١٥ كان يبلغ ثمانية الاف تلميذ فقط ..اما في عام ١٩٥٤ فقد بلغ مجموع التلاميذ في المدارس الابتدائية والمتوسطة ٤٣٩٤٨٤، اي ما يقرب النصف مليون تلميذ .. وعدد التلاميذ من هذه الفئة قد ازداد حتما عام ١٩٦٠ وهي السنة التي يتوقف عندها الخفاجي.. وهذه الارقام ليست ارقام "ابناء باشوات" ولكنها ارقام نجدها عند اكاديميين من مثل فيب مار ومايكل ابل ..عندما نستحضر هذه الارقام، سنفهم الطفرة الهائلة التي حصلت في مجال التعليم رغم الامكانيات المادية المحدودة للعهد الملكي.
وساضع هنا مقتطف من تقرير الدكتور فينلون المتخصص في احصائيات العهد الملكي عن موارد العراق من النفط انذاك لا عطاء صورة عن امكانيات العهد الملكي المتواضعة.. وبحسب هذا التقرير فان موارد العراق من النفط عام ١٩٥٠ كانت ستة ملايين دينار .. وعام ١٩٥٥ بلغت ٧٤ مليون دينارا .. وعام ١٩٥٦ بلغت ٦٩ مليون دينار .. وسبعون بالمئة من هذه المبالغ كانت تخصص لمكتب التنمية العراقي .. وهو المكتب الذي خطط ونفذ الاغلبية الساحقة من البنى التحتية في العراق وخصوصا السدود التي كانت ضرورية لمنع الفيضانات المدمرة التي كانت تفتك بسكان العراق سنويا.
The main-spring of the progress has been the great increase in government oil revenues which grew from some six million Dinars in 1950 to 74 million Dinars in 1955. In 1956, they were 69 million Dinars. These revenues have been carefully husbanded and 70 per cent is allotted to the Development Board each year for productive capital expenditure. - K. G. Fenelon, National income in Iraq
من هنا فالسؤال هو ليس لماذا يكتشف الجيل الجديد "جماليات جديدة" في العهد الملكي ..فالتاريخ اراء وحجج لا تنتهي كما يقول المؤرخ بيتر جيل في كتابه "ضد ومع نابليون" حيث يقول ان تقييم شخصية نابليون قد تباينت من جيل فرنسي لاخر.. ولكن السؤال هو لماذا يستمر مجترو المادية الديالكتيكية في النظر للتاريخ من منظور غير ديالكتيكي .. لماذا لا ينظر الخفاجي للتاريخ من منظور تراكمي..هل من الامانة التاريخية ان ننسب بقايا قرون من التخلف الى العهد الملكي .. هل كان بامكان النظام الملكي الذي حكم اقل من اربعة عقود ازالة تخلف اربعة قرون ؟
هذه الاسئلة لاتخطرعلى بال الخفاجي لانه من جيل طوباوي .. جيل لم يقارن واقع العهد الملكي بواقع اسبق ولكن بافكار مجردة فقط .. جيل تمنعه ايديولوجيته من فهم حقيقة ان الامراض والامية التي كانت سائدة في العراق هي ليست من مخلفات العهد الملكي ولكنها بقايا قرون من التخلف الاداري والحضاري .. جيل غير قادر حتى اليوم على فهم حقيقة تاريخية بسيطة وهي ان العهد الملكي هو من انتج الجيل الاول من الاطباء والمهندسين والاساتذة والكوادر التي بنت الدولة العراقية .. جيل لم يفهم بعد ان العراق الحديث قام بفضل الملك فيصل الاول .
هذه الاسئلة لاتخطرعلى بال الخفاجي لانه من جيل طوباوي .. جيل لم يقارن واقع العهد الملكي بواقع اسبق ولكن بافكار مجردة فقط .. جيل تمنعه ايديولوجيته من فهم حقيقة ان الامراض والامية التي كانت سائدة في العراق هي ليست من مخلفات العهد الملكي ولكنها بقايا قرون من التخلف الاداري والحضاري .. جيل غير قادر حتى اليوم على فهم حقيقة تاريخية بسيطة وهي ان العهد الملكي هو من انتج الجيل الاول من الاطباء والمهندسين والاساتذة والكوادر التي بنت الدولة العراقية .. جيل لم يفهم بعد ان العراق الحديث قام بفضل الملك فيصل الاول .
عصام الخفاجي يقول ان كون معظم كتاب ومروجي ما يسميه خرافة الماضي الجميل منحدرون من اصول اجتماعية متواضعة يعني أن مجتمعاتنا مصابة بمرض انسداد أفق المستقبل.. انا شخصيا اعتقد ان اعتراف اشخاص ينحدرون من اصول اجتماعية متواضعة بالعرفان للعهد الملكي هو شيء ايجابي .. ان يستطيع هولاء النظر للامور من دون تأثيرات انتماءتهم الفئوية الضيقة هو دليل نضوج سياسي .. فالعراق قتلته وتقتله الايديولوجيات والانتماءات الضيقة .. فعندما يحدد الانتماء الضيق الموقف من الوطن .. يموت الوطن .. هناك مقوله رائعة لـ البير كامو قالها ردا على الشيوعيين الفرنسيين الذين انزعجوا من نقده لجرائم الاتحاد السوفييتي واخذوا يذكرونه بتاريخه الاشتراكي واصولة المتواضعة .. كامو رد عليهم قائلا : "اذا ما بدت لي الحقيقة في معسكر اليمين فاساكون يمينيا".. بمعنى ان الحقائق وليس الخنادق الايديولوجية هي من تحدد موقف الانسان من العالم.
وعصام الخفاجي ما زال يكتب التاريخ عبر ثنائية ابناء الباشوات وابناء الاصول المتواضعة.. وهو لذلك يطلب من ابناء الاصول المتواضعة ان يحكموا على التاريخ وفقا لانتمائاتهم الفئوية .. فقط عندما نفهم هذه السطحية في النظر للتاريخ من قبل استاذ جامعي كعصام الخفاجي .. سنفهم مستوى القحط السائد على "الجانب الايسر" من التاريخ حيث يسود نموذج "ماركس ابو دشداشة".. وسنفهم ايضا السهولة التي نزع فيها جمهور اليسار العراقي معطف "كارل ماركس" وارتدى "العمامة"..فالرؤوس الهشة بحاجة دائما الى انتمائات فئوية..طبقية ام طائفية..سيان..المهم ان تختفي الضحالة الشخصية في بهائمية المجموع.
Hello All,
ردحذفMerry Christmas and happy new year,i would like to introduce the new Iraqi news website...realtime news www.iraqobserver.com
Best regards