عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بسخرية سينيكية: حظا سعيدا للطرفين.. المعنى المتضمن في هذا التعليق السينيكي هو ان الحرب العراقية الإيرانية المستنزفة للطرفين كانت من منظور جيوسياسي من مصلحة إسرائيل.. كانت نوعا من الاحتواء المزدوج.. "فخار يكسر بعضه".. كما يقول إخواننا السوريون!!
أجيال كثيرة عراقية وعربية عاشت الويلات بسبب حدثان هامان شهدتهما منطقتنا.. الأول "زرع" إسرائيل في منطقتنا.. والثاني قيام ثورة الملالي في ايران.. قيام دولة إسرائيل ساهم في انتاج خطاب شعبوي في الشارع العربي أدى الى صعود العسكر والانقلابيين.. مما أدى الى اقصاء النخب الليبرالية العربية الفاعلة سياسيا والطبقات البرجوازية الفاعلة اقتصاديا.. وبالتالي تدمير مسار الدولة المدنية الناشئة آنذاك.. بعبارة أخرى.. زرع إسرائيل حرمنا من مسار سياسي اكثر عقلانية واقل عنفا.. اما ثورة الملالي فقد زادت طين مجتمعاتنا بلة.. لانها ساهمت في تقوية الخطاب الغيبي.. من بغداد الى طنجة.. اسلام "الأطراف" المتزمت حل محل اسلام المدن المتسامح.. ابن تيمية حل محل أبو حنيفة.. العودة الى السلف حتمت المرور على سقيفة بني ساعدة.. وبالتالي كل ارض كربلاء وكل يوم عاشورا.. ومثل هكذا عفن فكري اعطانا الحرب الطائفية التي حرقت الأخضر واليابس في العقدين الأخيرين.. ومثل هكذا عفن فكري اعطانا العفن السياسي الذي يخنق مجتمعاتنا اليوم.
بعد حرب الأيام السبعة التي هزمت فيها إسرائيل مصر بضربة مفاجئة خاطفة.. خرج الاخوانجية بخطاب غبي وغيبي فحواه: ان هزيمة ٦٧ هو عقوبة الهية لأننا ابتعدنا عن ديننا.. وهذا الابتعاد عن الدين سببه النخب العلمانية المتفرنجة ومناهج التعليم الاوربية.. هذا الخطاب الغيبي والغبي يتلقى اليوم لكمة قاضية.. بيجرات حزب الله والمسيرات الإسرائيلية التي دخلت غرف نوم قادة "الجمهورية الإسلامية" تنسف هذا الخطاب الاخروي الغيبي.. الضربة المذلة التي تلقتها "الجمهورية الاسلامية" قبل يومين وضعت الابواق الاسلامجية في وضع محرج منطقيا.. فـ"الاقتراب" الايراني من الله لم يمنع "العقوبة الإلهية" التي وقعت على رؤوس الهرم القيادي "للجمهورية الاسلامية".. كما ان "اقتراب" حزب الله من الله لم يمنع مهزلة البيجرات.. مما يعني ان الاقتراب والابتعاد عن الله ليس له علاقة في شؤون الحرب مع اسرائيل.. مقولة الواقعية الشهيرة تقول: الله دائما مع الكتائب الأقوى!! وعلينا ان نضيف بنفس المعنى انه لا يحب رفقة الاغبياء.
اذا ما سبب تفوق إسرائيل على امة المسواك واللحى الملونة بالحناء؟؟ إسرائيل كفكرة وكدولة هي نتاج نخب.. كل المنظومة الإسرائيلية من تعليم وجيش واقتصاد الخ.. قائمة على مبدأ الاستحقاق والجدارة.. بتعبير اخر قائمة على مبدأ انتاج نخب جديرة بمواقعها.. وهذا النموذج النخبوي هو الذي انتج إسرائيل الصغيرة حجما والكبيرة عسكريا وعلميا.. في كارثتنا الاستراتيجية اليوم نجد نفس المعطيات التي شهدت سيطرة المهاجرين اليهود القلائل عدديا على عرب فلسطين الذين كانوا يشكلون اغلبية ساحقة.. نخب قليلة ولكنها منظمة ومجهزة بالمعرفة امام "رعية" كبيرة كانت تعمل بمنطق "اكعد بالشمس علما يجيك الفيء".. عقل متحفز امام عقل هامد.. وهذا العدد القليل الذي هزم العدد الكبير ليس لأنه يهودي مسلح بـ توراه بابل.. لا.. هذا العدد القليل كان مسلحا بالعقلانية الاوربية وطرق التنظيم العلمية.. واغلب المهاجرين اليهود الاوائل وخصوصا قادتهم كانوا اشتراكيون ملحدون.. وهولاء هم بناة إسرائيل الحقيقيين.. والهشاشة الاجتماعية وبالتالي السياسية التي تعاني منها إسرائيل اليوم سببها بالتحديد المتدينين والحريديم الذين لا يعرفون سوى النكاح وهز الرؤوس في المعابد.. وهؤلاء لم يشاركوا في أية حرب إسرائيلية.. فباي الاء ربكما تكذبان!!
التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح اليوم يجلدنا نحن الشعوب التي لا تنتج سوى عمامات فاسدة ورعاع افسد.. التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح يجلدنا اليوم نحن الشعوب الرعاعية التي قتلت وهجرت نخبها تحت شعار "الموت للبرجوازية اذيال الاستعمار" (تبت يدا ماركس أبو دشداشة وتب)!! التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح يجلدنا اليوم نحن الشعوب الغارقة في الخراء حتى انوفها ولكنها تحدق في السماء.. تترقب ظهور المهدي.. خرافة المهدي في مواجهة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي!!! لا غرابة ان إلموساد تعرف حتى الوان الملابس الداخلية لنساء قادة الحرس الثوري الإيراني!!! والاسلامجية ورعاعهم لازالوا يعتقدون ان إسرائيل انتصرت بـ توراة بابل!! وان هزيمة العرب هو بسبب مناهج التعليم الاوربية التي ابعدتهم عن الله!!
دونالد ترامب وبعد الهجوم الإسرائيلي الخاطف على ايران قال ما يلي:
Iran must make a deal, before there is nothing left, and save what was once known as the Iranian Empire. No more death, no more destruction, JUST DO IT, BEFORE IT IS TOO LATE
قراءة ما بين سطور ترامب.. تقول لنا ان ترامب(الذي لم يكمل في حياته عشرة كتب الى نهاياتها!!) استمع من محلل "سي أي ايه" مختص بالشأن الإيراني لتحليل تفصيلي للخطة الإسرائيلية واثرها الجيوستراتيجي على ايران والمنطقة اذا ما ذهبت إسرائيل في هجومها الى نهايته.. بمعنى تدمير البنى التحتية العسكرية والاقتصادية الايرانية وتصفية الهرم الأول والثاني للقيادات السياسية والأمنية.. مما سينتج فراغ سياسي وامني.. وهذا الفراغ السياسي والأمني سيؤدي الى انهيار النظام الايراني.. عندئذ ستتفتت ايران بحدودها الحالية التي فصلتها بريطانيا ابان ما كان يعرف بـ"اللعبة الكبرى" بين بريطانيا وروسيا.. لمنع الدب الروسي من الهبوط الى المياء الدافئة "نفطيا" في الخليج العربي.
بمعنى ان فرضية انهيار ايران بحدودها الحالية هي فرضية واردة اليوم.. وسيكون لها مخلفات جيوسياسية هائلة.. تغير النظام في العراق قبل عقدين احدث هزة جيوسياسية ما زالت تداعياتها تفعل فعلها حتى اليوم.. تعال الان وتصور الهزة التكتونية جيوسياسيا لفرضية انهيار ايران.. نحن نتكلم عن عراق "اُسْ ثلاثة".. فقط عندما تستحضر ذلك ستفهم تحرك اوربا اليوم لإيجاد مخرج للحرب الدائرة بين إسرائيل وايران.. قنبلة ايران الحقيقة من منظور اوربا التي تعيش ازمة سياسية خطيرة بسبب صعود تيارات اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين.. قنبلة ايران الحقيقية من منظور المُخَطِط الجيوسياسي الأوربي هو قنبلتها الديموغرافية قبل قنبلتها النووية.. انفلاق ايران كدولة سيعني للسياسي الاوربي تلقّي شظايا الديموغرافية الإيرانية.. سيعني تلقّي اشعاعات لاتقل ثلوثا من اشعاعات القنبلة النووية.. ملايين من المهاجرين بمشاكلهم وخزعبلاتهم وزناجيلهم.. مما يعني تحويل شوارع اوربا الى ميادين للطم والعويل والزناجيل.. وبالتالي الى ميادين لصراع الرعاع.. رعاع يمين متطرف اوربي مع رعاع اسلاموي.. وهذا سيشكل المسمار الأخير في نعش الليبرالية الاوربية.. لان اليمين المتطرق سيكتسح عندها الانتخابات بكل سهولة.
محميات أمريكا في الخليج أيضا تخاف من مثل هكذا هزة تكتونية ايرانية.. وهنا اعني الحكومات الخليجية وليس الشعوب.. فالشعوب الخليجية باغلبيتها السنية.. ترحب بمثل هكذا انفلاق "للامبراطوررية" الإيرانية التي كانت حتى الامس القريب تتباهى بسيطرتها على اربع عواصم عربية.. من يخاف من هذه الفرضية هم أصحاب "السعادة والسمو" والمليارات.. لأنهم ككل رأسمالي لا يحبون الفوضى.. الرأسمال جبان يحب الامن والأستقرار و"الكبسة"!! ثم ان ذهاب إسرائيل في خطتها لتدمير البنية التحتية الإيرانية وزعزعة نظام الملالي.. سيدفع ايران الى سياسة "عليّ وعلى اعدائي".. فـ ايران التي فقدت أصابع حزب الله للضغط على خصية أمريكا الأولى إسرائيل.. لم يبقى لديها اليوم سوى خصاوي أمريكا في الخليج.. من هنا الخوف الخليجي ومن هنا أيضا برقيات الإدانة الخليجية "للعدوان الإسرائيلي على الجارة ايران".. ولكن على "الدول" الخليجية ان تستعد وتعرف ان برقيات الإدانة هذه لن تنفع شيئا اذا ما تعرض النظام الإيراني لخطر وجودي.
كما قلت سابقا.. المستقبل هو جغرافيا بلا خرائط.. بلا جي بي اس.. ولا أحد يستطيع التنبؤ به الا العرافون والدجالون.. السياسة (كما الطب) هي علم غير صحيح.. كل ما نستطيع القيام به هي فرضيات للمسارات المحتملة الكبرى.. وهذه الفرضيات بطبيعتها العامة مختزلة للمعقد.. ضمن هذا الإطار نستطيع ان نرسم ثلاثة سيناريوهات للحرب الإيرانية الإسرائيلية التي تدور اليوم.. الأول هو ان قسوة الهجوم الإسرائيلي على البنى التحتية وبالتالي على البازار الايراني ستدفع ايران في الأيام القادمة لحجز "كرسي على طاولة المفاوضات الامريكية".. نحن هنا اما سيناريو الـ كش ملك!! التاجر الإيراني في هذه الحالة سيفهم هشاشة موقفه ويقبل بشروط التنازل الامريكية.. وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اوربا!! واوربا ستعمل كل ما بوسعها من اجل انتاج هذا السيناريو لكي تتجنب انفلاق القنبلة الديموغرافية الايرانية.. اما السيناريو الثاني فهو استمرار الهجوم الإسرائيلي لأسابيع مما سيدمر كل البنى التحتية الإيرانية وبالتالي سيخلق كل الظروف الموضوعية لانهيار النظام الايراني وبالتالي انهيار الدولة الايرانية.. نحن هنا امام سيناريو الـ كش مات!! اما السيناريو الثالث فهو ان إيران ستمتص بعمقها الاستراتيجي وبسلبية الأثنيات الإيرانية وبعض الدعم الخارجي الضربات الإسرائيلية.. مما سيُطيل من امد هذه الحرب الى أسابيع واشْهُر.. تُستنزف خلالها قدرات البلدين.. نحن هنا اما سيناريو " حظا سعيدا للطرفين"!!
عاطفيا وكعراقي دمرت إيران وكلابها بلده.. اتمنى السيناريو الثاني.. سيناريو الـ كش مات.. والى بئس المصير.. اما من منظور جيوسياسي اشمل.. يأخذ بنظر الاعتبار "الامن القومي العربي".. فأنني أتمنى سيناريو "حظا سعيدا للطرفين"!! ونارهم تأكل حطبهم.