2025/06/15

كشك ملك.. كش مات.. حظا سعيدا للطرفين!!

عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بسخرية سينيكية: حظا سعيدا للطرفين.. المعنى المتضمن في هذا التعليق السينيكي هو ان الحرب العراقية الإيرانية المستنزفة للطرفين كانت من منظور جيوسياسي من مصلحة إسرائيل.. كانت نوعا من الاحتواء المزدوج.. "فخار يكسر بعضه".. كما يقول إخواننا السوريون!!

أجيال كثيرة عراقية وعربية عاشت الويلات بسبب حدثان هامان شهدتهما منطقتنا.. الأول "زرع" إسرائيل في منطقتنا.. والثاني قيام ثورة الملالي في ايران.. قيام دولة إسرائيل ساهم في انتاج خطاب شعبوي في الشارع العربي أدى الى صعود العسكر والانقلابيين.. مما أدى الى اقصاء النخب الليبرالية العربية الفاعلة سياسيا والطبقات البرجوازية الفاعلة اقتصاديا.. وبالتالي تدمير مسار الدولة المدنية الناشئة آنذاك.. بعبارة أخرى.. زرع إسرائيل حرمنا من مسار سياسي اكثر عقلانية واقل عنفا.. اما ثورة الملالي فقد زادت طين مجتمعاتنا بلة.. لانها ساهمت في تقوية الخطاب الغيبي.. من بغداد الى طنجة.. اسلام "الأطراف" المتزمت حل محل اسلام المدن المتسامح.. ابن تيمية حل محل أبو حنيفة.. العودة الى السلف حتمت المرور على سقيفة بني ساعدة.. وبالتالي كل ارض كربلاء وكل يوم عاشورا.. ومثل هكذا عفن فكري اعطانا الحرب الطائفية التي حرقت الأخضر واليابس في العقدين الأخيرين.. ومثل هكذا عفن فكري اعطانا العفن السياسي الذي يخنق مجتمعاتنا اليوم.

بعد حرب الأيام السبعة التي هزمت فيها إسرائيل مصر بضربة مفاجئة خاطفة.. خرج الاخوانجية بخطاب غبي وغيبي فحواه: ان هزيمة ٦٧ هو عقوبة الهية لأننا ابتعدنا عن ديننا.. وهذا الابتعاد عن الدين سببه النخب العلمانية المتفرنجة ومناهج التعليم الاوربية.. هذا الخطاب الغيبي والغبي يتلقى اليوم لكمة قاضية.. بيجرات حزب الله والمسيرات الإسرائيلية التي دخلت غرف نوم قادة "الجمهورية الإسلامية" تنسف هذا الخطاب الاخروي الغيبي.. الضربة المذلة التي تلقتها "الجمهورية الاسلامية" قبل يومين وضعت الابواق الاسلامجية في وضع محرج منطقيا.. فـ"الاقتراب" الايراني من الله لم يمنع "العقوبة الإلهية" التي وقعت على رؤوس الهرم القيادي "للجمهورية الاسلامية".. كما ان "اقتراب" حزب الله من الله لم يمنع مهزلة البيجرات.. مما يعني ان الاقتراب والابتعاد عن الله ليس له علاقة في شؤون الحرب مع اسرائيل.. مقولة الواقعية الشهيرة تقول: الله دائما مع الكتائب الأقوى!! وعلينا ان نضيف بنفس المعنى انه لا يحب رفقة الاغبياء.

 اذا ما سبب تفوق إسرائيل على امة المسواك واللحى الملونة بالحناء؟؟ إسرائيل كفكرة وكدولة هي نتاج نخب.. كل المنظومة الإسرائيلية من تعليم وجيش واقتصاد الخ.. قائمة على مبدأ الاستحقاق والجدارة.. بتعبير اخر قائمة على مبدأ انتاج نخب جديرة بمواقعها.. وهذا النموذج النخبوي هو الذي انتج إسرائيل الصغيرة حجما والكبيرة عسكريا وعلميا.. في كارثتنا الاستراتيجية اليوم نجد نفس المعطيات التي شهدت سيطرة المهاجرين اليهود القلائل عدديا على عرب فلسطين الذين كانوا يشكلون اغلبية ساحقة.. نخب قليلة ولكنها منظمة ومجهزة بالمعرفة امام "رعية" كبيرة كانت تعمل بمنطق "اكعد بالشمس علما يجيك الفيء".. عقل متحفز امام عقل هامد.. وهذا العدد القليل الذي هزم العدد الكبير ليس لأنه يهودي مسلح بـ توراه بابل.. لا.. هذا العدد القليل كان مسلحا بالعقلانية الاوربية وطرق التنظيم العلمية.. واغلب المهاجرين اليهود الاوائل وخصوصا قادتهم كانوا اشتراكيون ملحدون.. وهولاء هم بناة إسرائيل الحقيقيين.. والهشاشة الاجتماعية وبالتالي السياسية التي تعاني منها إسرائيل اليوم سببها بالتحديد المتدينين والحريديم الذين لا يعرفون سوى النكاح وهز الرؤوس في المعابد.. وهؤلاء لم يشاركوا في أية حرب إسرائيلية.. فباي الاء ربكما تكذبان!!

 التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح اليوم يجلدنا نحن الشعوب التي لا تنتج سوى عمامات فاسدة ورعاع افسد.. التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح يجلدنا اليوم نحن الشعوب الرعاعية التي قتلت وهجرت نخبها تحت شعار "الموت للبرجوازية اذيال الاستعمار" (تبت يدا ماركس أبو دشداشة وتب)!! التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح يجلدنا اليوم نحن الشعوب الغارقة في الخراء حتى انوفها ولكنها تحدق في السماء.. تترقب ظهور المهدي.. خرافة المهدي في مواجهة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي!!! لا غرابة ان إلموساد تعرف حتى الوان الملابس الداخلية لنساء قادة الحرس الثوري الإيراني!!! والاسلامجية ورعاعهم لازالوا يعتقدون ان إسرائيل انتصرت بـ توراة بابل!! وان هزيمة العرب هو بسبب مناهج التعليم الاوربية التي ابعدتهم عن الله!! 


 دونالد ترامب وبعد الهجوم الإسرائيلي الخاطف على ايران قال ما يلي:

Iran must make a deal, before there is nothing left, and save what was once known as the Iranian Empire. No more death, no more destruction, JUST DO IT, BEFORE IT IS TOO LATE

قراءة ما بين سطور ترامب.. تقول لنا ان ترامب(الذي لم يكمل في حياته عشرة كتب الى نهاياتها!!) استمع من محلل "سي أي ايه" مختص بالشأن الإيراني لتحليل تفصيلي للخطة الإسرائيلية واثرها الجيوستراتيجي على ايران والمنطقة اذا ما ذهبت إسرائيل في هجومها الى نهايته.. بمعنى تدمير البنى التحتية العسكرية والاقتصادية الايرانية وتصفية الهرم الأول والثاني للقيادات السياسية والأمنية.. مما سينتج فراغ سياسي وامني.. وهذا الفراغ السياسي والأمني سيؤدي الى انهيار النظام الايراني.. عندئذ ستتفتت ايران بحدودها الحالية التي فصلتها بريطانيا ابان ما كان يعرف بـ"اللعبة الكبرى" بين بريطانيا وروسيا.. لمنع الدب الروسي من الهبوط الى المياء الدافئة "نفطيا" في الخليج العربي.

بمعنى ان فرضية انهيار ايران بحدودها الحالية هي فرضية واردة اليوم.. وسيكون لها مخلفات جيوسياسية هائلة.. تغير النظام في العراق قبل عقدين احدث هزة جيوسياسية ما زالت تداعياتها تفعل فعلها حتى اليوم.. تعال الان وتصور الهزة التكتونية جيوسياسيا لفرضية انهيار ايران.. نحن نتكلم عن عراق "اُسْ ثلاثة"..  فقط عندما تستحضر ذلك ستفهم تحرك اوربا اليوم لإيجاد مخرج للحرب الدائرة بين إسرائيل وايران.. قنبلة ايران الحقيقة من منظور اوربا التي تعيش ازمة سياسية خطيرة بسبب صعود تيارات اليمين المتطرف المعادي للمهاجرين.. قنبلة ايران الحقيقية من منظور المُخَطِط الجيوسياسي الأوربي هو قنبلتها الديموغرافية قبل قنبلتها النووية.. انفلاق ايران كدولة سيعني للسياسي الاوربي تلقّي شظايا الديموغرافية الإيرانية.. سيعني تلقّي اشعاعات لاتقل ثلوثا من اشعاعات القنبلة النووية.. ملايين من المهاجرين بمشاكلهم وخزعبلاتهم وزناجيلهم.. مما يعني تحويل شوارع اوربا الى ميادين للطم والعويل والزناجيل.. وبالتالي الى ميادين لصراع الرعاع.. رعاع يمين متطرف اوربي مع رعاع اسلاموي.. وهذا سيشكل المسمار الأخير في نعش الليبرالية الاوربية.. لان اليمين المتطرق سيكتسح عندها الانتخابات بكل سهولة.

محميات أمريكا في الخليج أيضا تخاف من مثل هكذا هزة تكتونية ايرانية.. وهنا اعني الحكومات الخليجية وليس الشعوب.. فالشعوب الخليجية باغلبيتها السنية.. ترحب بمثل هكذا انفلاق "للامبراطوررية" الإيرانية التي كانت حتى الامس القريب تتباهى بسيطرتها على اربع عواصم عربية.. من يخاف من هذه الفرضية هم أصحاب "السعادة والسمو" والمليارات.. لأنهم ككل رأسمالي لا يحبون الفوضى.. الرأسمال جبان يحب الامن والأستقرار و"الكبسة"!! ثم ان ذهاب إسرائيل في خطتها لتدمير البنية التحتية الإيرانية وزعزعة نظام الملالي.. سيدفع ايران الى سياسة "عليّ وعلى اعدائي".. فـ ايران التي فقدت أصابع حزب الله للضغط على خصية أمريكا الأولى إسرائيل.. لم يبقى لديها اليوم سوى خصاوي أمريكا في الخليج.. من هنا الخوف الخليجي ومن هنا أيضا برقيات الإدانة الخليجية "للعدوان الإسرائيلي على الجارة ايران".. ولكن على "الدول" الخليجية ان تستعد وتعرف ان برقيات الإدانة هذه لن تنفع شيئا اذا ما تعرض النظام الإيراني لخطر وجودي.   

كما قلت سابقا.. المستقبل هو جغرافيا بلا خرائط.. بلا جي بي اس.. ولا أحد يستطيع التنبؤ به الا العرافون والدجالون.. السياسة (كما الطب) هي علم غير صحيح.. كل ما نستطيع القيام به هي فرضيات للمسارات المحتملة الكبرى.. وهذه الفرضيات بطبيعتها العامة مختزلة للمعقد.. ضمن هذا الإطار نستطيع ان نرسم ثلاثة سيناريوهات للحرب الإيرانية الإسرائيلية التي تدور اليوم.. الأول هو ان قسوة الهجوم الإسرائيلي على البنى التحتية وبالتالي على البازار الايراني ستدفع ايران في الأيام القادمة لحجز "كرسي على طاولة المفاوضات الامريكية".. نحن هنا اما سيناريو الـ كش ملك!! التاجر الإيراني في هذه الحالة سيفهم هشاشة موقفه ويقبل بشروط التنازل الامريكية.. وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اوربا!! واوربا ستعمل كل ما بوسعها من اجل انتاج هذا السيناريو لكي تتجنب انفلاق القنبلة الديموغرافية الايرانية.. اما السيناريو الثاني فهو استمرار الهجوم الإسرائيلي لأسابيع مما سيدمر كل البنى التحتية الإيرانية وبالتالي سيخلق كل الظروف الموضوعية لانهيار النظام الايراني وبالتالي انهيار الدولة الايرانية.. نحن هنا امام سيناريو الـ كش مات!! اما السيناريو الثالث فهو ان إيران ستمتص بعمقها الاستراتيجي وبسلبية الأثنيات الإيرانية وبعض الدعم الخارجي الضربات الإسرائيلية.. مما سيُطيل من امد هذه الحرب الى أسابيع واشْهُر.. تُستنزف خلالها قدرات البلدين.. نحن هنا اما سيناريو " حظا سعيدا للطرفين"!! 

عاطفيا وكعراقي دمرت إيران وكلابها بلده.. اتمنى السيناريو الثاني.. سيناريو الـ كش مات.. والى بئس المصير.. اما من منظور جيوسياسي اشمل.. يأخذ بنظر الاعتبار "الامن القومي العربي".. فأنني أتمنى سيناريو "حظا سعيدا للطرفين"!! ونارهم تأكل حطبهم. 

 

2025/05/12

الماضي ينشاف بالعين لو بالعقل؟؟

  تفكيك عبارة "اهل الكوفة" في المقال السابق بَيَّنَ لنا شيء في غاية الأهمية.. وهو ليس هناك شيء متجانس اسمه "اهل الكوفة".. فشمولية هذه العبارة توجد فقط على الورق.. اما على ارض الواقع فالكوفة لم تكن متجانسة لا اجتماعيا ولا سياسيا.. على ارض الواقع التحليلي وجدنا كوفة ككل المدن فيها تيارات متصارعة اقتصاديا وسياسيا.. وجدنا ان "اغنام" زيد ليست مصالح عمرو!! وان عليّ بن ابي طالب لم يحصل على ٩٩ بالمئة من الأصوات الكوفية.. وان احياء كثيرة كانت معارضة لـِ عليّ.. ولكن المعلومة الأهم التي ظهرت امامنا بعد تفكيك عبارة "اهل الكوفة".. هو ان اشراف الكوفة (وهم من ذوي الرياسة في قبائلهم) كان يشكلون قوة سياسية لا يستهان بها في الكوفة.. ودليل قوة الاشراف هو انهم اجبروا عليّ بن ابي طالب على قبول التحكيم في صفين.. وهؤلاء الاشراف وضعوا "فيتو" ضد أي حرب مع معاوية.. وانت عندما تستوعب ذلك.. ستفهم ليس فقط سخافة الرواية التي تقول "ان الحسن ما ان استخلف جيش جيشا لقتال معاوية".. وانما أيضا سخافة الرواية الأخرى التي تقول ان الفوضى حصلت في الكوفة بسبب ان "اهل الكوفة" كانوا يريدون قتال معاوية ولكن الحسن في خطبة الاستخلاف عبر عن رغبته بالصلح مع معاوية.. وهذا قد اغضب اهل الكوفة.. ولهذا السبب حصلت الفوضى وتم خلالها طعن الحسن!!! فدور الاشراف في الكوفة وقوتهم السياسية والعشائرية.. وموقفهم الرافض للحرب مع معاوية يقول لنا ان: لا الحسن كان قادرا على تجيش جيش لقتال معاوية.. ولا "اهل الكوفة" كانوا يريدون حرب معاوية.

ولكي ننتهي وللابد من هذه الاكاذيب التي شكلت العمود الفقري للسردية التي امامنا اليوم بخصوص انهيار الحسن في الكوفة.. علينا باستحضار رواية أبو بكر ابن العربي في كتابه احكام القرآن (الجزء الرابع) والتي وجدتها مؤخرا.. ابن العربي يقول شارحا الأسباب التي دفعت الحسن للصلح مع معاوية: "فانه[الحسن] صالح حين استشرى الامر عليه، وكان ذلك بأسباب.... منها ما رأى من تشتت اراء من معه.... ومنها انه رأى الخوارج احاطوا بأطرافه، وعلم انه ان اشتغل بحرب معاوية استولى الخوارج على البلاد، وان اشتغل بحرب الخوارج استولى عليه معاوية".. فرواية ابن العربي هي الرواية الوحيدة على حد علمي التي تقول لنا ان "الخوارج احاطوا بأطرافه".. وهذه المعلومة فيها من "الديناميت" المعرفي ما يكفي لنسف كل الروايات الكاذبة التي تقول لنا ان الحسن ما ان استخلف جَيّشَ جَيش وذهب الى المدائن لقتال معاوية.. فالحسن كما تقول لنا رواية ابن العربي كان محصور بين سندان معاوية ومطرقة الخوارج.. ولم يكن يمتلك خيارات سياسية.

علاوة على ذلك.. فان معلومة "الخوارج احاطوا بأطرافه" تزودنا "بالحلقة" المفقودة في "المسلسل" الكوفي.. تزودنا بالأجزاء المفقودة من اللوحة الباهتة التي وصلتنا عن طريق البلاذري والطبري.. وهي بذلك تساعدنا على رؤية المشهد الكوفي من منظور بانورامي.. وبلغة العلوم السياسية.. معلومة "الخوارج احاطوا بأطرافه" تمنحنا الوضع "الجيوسياسي" الذي كان يحيط بالكوفة آنذاك.. وهي بذلك تساعدنا على وضع حدث انهيار الحسن ضمن قوانين الفيزياء السياسية التي نعرف.. وتمكننا بالتالي من النظر لهذا الحدث من خلال مفردات العلوم السياسية من مثل علاقات القوة والحسابات السياسية والاستراتيجيا الخ.. وهذه هي محددات الفعل السياسي والعسكري من اشور بانيبال الى "احمد الشرع"!!! 

وأخيرا فان معلومة "الخوارج احاطوا بأطرافه" فيها تداخل "ميكانيكي" مع القرينة التي قادتنا في المقال الثاني الى التشكيك برواية تجيش الحسن جيش لقتال معاوية.. فمعلومة "الخوارج احاطوا بأطرافه" فيها تناسب منطقي مع حدث اخر عرفته الكوفة آنذاك.. وهو حدث دفن الحسن جثة ابيه خلسه.. فقط عندما نفهم ان "الخوارج احاطوا بأطرافه" سنفهم لماذا دفن الحسن جثة ابيه خلسه.. هنا فقط ستتضح جملة: "خوفا عليه من الخوارج ان ينبشوا جثته" التي نجدها بلا سياق في السردية الترقيعية.. وبهذا المعنى فان رواية ابن العربي تمكننا من تحسس "نبض" الكوفة آنذاك.. تمكننا من تحسس الخوف الذي اعترى الناس بسبب تهديد الخوارج للكوفة.. خصوصا بعد ان نجحوا في اغتيال عليّ.

وهنا نكون قد انتهينا من عرض الوضع الداخلي والخارجي للكوفة.. وعلينا الان التفرغ للعامل الإنساني.. فكل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة بالكوفة لا يجب ان تنسينا البعد الشخصي الإنساني في الاحداث التاريخية.. فالبشر ليسوا دمى في باحة التاريخ.. البشر وخصوصا القادة ليسوا قرقوزات على مسرح التاريخ.. وهم تحت بعض الظروف المواتية يمكن ان يغيروا مجرى التاريخ إذا ما كانوا يتمتعون بـِشروط القيادة.. من كاريزما تمكنهم من التأثير في محيطهم.. وحكمة وبصيرة سياسية تمكنهم من فهم الاحداث والتعامل معها.. لذلك فان كل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة بالكوفة والتي عرضنا لها انفا لا يجب ان تنسينا دور الحسن الشخصي في الاحداث التي شهدتها الكوفة بعد اغتيال ابيه.. من هنا أهمية التطرق تحليلياََ لشخصية الحسن من اجل اظهار حجمه الانساني ودوره السياسي.

يجب القول اولا اننا لا نملك الكثير من المعلومات عن الحسن التاريخي.. نعم هناك روايات كثيرة تتكلم عن قدرات خارقة للحسن.. الحسن في هذه الروايات قادر على هز بيوت مكة.. ورفع الكعبة في الهواء!! وهو قادر بعد ذلك على مناداة نخلة فتأتيه زاحفة خاضعة!! وهو قادر بعد هذا وذاك على إنزال النجوم من السماء ثم ارجاعها الى اماكنها الخ!!! ولكن كل هذه القدرات الخارقة للحسن ممكنة فقط في فضاء الخزعبلات الشيعية الرحب.. كل ذلك ممكن فقط ضمن إطار الروايات الشيعية التي لا يصدقها الا شخص "مكبسل" عقائديا.. وهذا الحسن الاسطوري الذي لا ينتمي لقوانيين الجاذبية التي تحكم كوكبنا.. هو حسن غير نافع معرفيا وعلينا رميه جانبا.. فالأساطير شيء وعلم التاريخ شيء اخر مختلف تماما.. ما نحتاجه هو التعرف على الحسن التاريخي.. الحسن الذي يمتلك رأس ومعدة وجهاز تناسلي!!     

 واول ظهور لهذا الحسن "على الشاشة" نجده في "مشهد" حصار عثمان في المدينة.. في هذا المشهد نرى الحسن برفقه أخيه الحسين واقفا امام بيت عثمان لحمايته.. وانت عندما تعرف النهاية البشعة التي تم فيها قتل عثمان.. ستضحك على سذاجة هكذا رواية تنسف نهايتها المنطقية بدايتها "الروائية".. فقط ساذج يمكن ان يصدق مثل هكذا قصص أطفال.. نحن هنا امام مشهد وضعه كاتب سيناريو فاشل.. ونحن نمتلك كل المبررات المنطقية لوضع هذا المشهد في خانة المحاولات التوليفية المفبركة لاحقا.. بهدف ابعاد الشبهة عن أي دور لِـ عليّ في مقتل عثمان.. اما المشهد الثاني الذي يظهر فيه الحسن على "شاشة" التاريخ فهو برفقه عمار ابن ياسر ذاهبا للكوفة لطلب المدد قبل معركة الجمل.. بعد ذلك يختفي الحسن عن "شاشة الرادار" لسنوات.. ليظهر في الكوفة بعد مقتل ابيه.. وهنا نجد حسن الروايات المُتناطِحة التي عرضنا لها في المقال الاول.

 وهذه المعلومات القليلة لا تمكننا من معاينة شخصية الحسن.. ولكننا نستطيع فعل ذلك باستخدام وسيلة معرفية أخرى.. نستطيع معاينة شخصية الحسن من خلال استحضار نسب الحسن.. فما هو اكيد ولا يختلف عليه اثنان.. هو كون الحسن "حفيد نبي" و"ابن خليفة".. نحن هنا امام معلومة غير قابلة للجدل.. ان تعرف ان الحسن كان "حفيد نبي" و"ابن خليفة" هي معلومة كافية من منظور التحليل النفسي لرسم "بورتريه" سايكولوجي للحسن.. فـَ كون الحسن "ابن بيوتات" يحتم وضع اجتماعي واقتصادي خاص.. وبالتالي نمط حياة محدد.. ونمط الحياة الاجتماعي والاقتصادي لشخص ما.. كما يعرف أي طالب سنة أولى في علم الاجتماع.. هو المحدد الاهم لطباع هذا الشخص.. قراءة سريعة لمفهوم الـ"هابيتوس" الذي طوره عالم الاجتماع بيير بورديو كفيلة بتوضيح ذلك.

 ومن اجل ان لا نغوص كثيرا في اللغة الاكاديمية التي أضحت نوع من "الإرهاب الفكري" في زمن "تيكتوك" ومقتدى الصدر.. انظر من حولك وحاول ان تعثر على شاب عاش العقود الثلاثة الأولى من حياته بـِ دعة.. انظر من حولك وحاول ان تعثر على شاب كان يحصل على كل ما يريد بلا أدني عناء.. انظر من حولك وحاول ان تعثر على شاب عاش شبابه متنعما بإمكانيات "بابا".. تعال الان و صِفْ لي هذا الشخص!! انت هنا امام ابن مدلل لم يكن مضطرا لأدنى جهد للحصول على قوته.. نحن هنا امام شاب يمتلك بلادة الأبناء المدللين وشخصياتهم الهشة التي تفتقد للعزيمة ولروح المبادرة لأنها لم تحتك عمليا بالواقع الحياتي.. والحسن كان ينتمي لهذا الصنف من الشباب الذي كان يمتلك وقت فراغ كبير قضاه "عاطلا" عن العمل!! فهو لم يشارك في أي حرب من حروب "الفتح".. لا غرابة ان هذه الدعة انتجت سلوك اجتماعي مضطرب.. فالحسن ابن علي " كان كثير نكاح النساء" و"كان مطلاقاََ للنساء"، و"يقال انه أحصن سبعين امرأة وقيل سبعمئة وقيل ألف امرأة"!! ناهيك عن "ما ملكت ايمانه" من الإماء!! وهذه "السياحة" الجنسية كما تعرفون هي خصلة أبناء "الملوك" المدللين.. هذه "الاستهلاكية الجنسية" نجدها عند "أبناء الرؤساء" الذين يمتلكون المال والوقت وسيارات الـ "فيراري"!! و"فتوحات" الحسن الجنسية هذه هي كل ما يُعرف له من فتوحات.. باختصار.. الحسن ابن علي كان زير نساء.. "حدث غر لا علم له بالحرب".. هذا هو الحسن التاريخي.

تعال الان و ضَعّْ زير النساء هذا في الكوفة المتشظية التي عرضنا لها في المقال السابق.. تعال الان وضَعّْ هذه الشخصية الهزيلة سياسيا في الكوفة التي تركها له "بابا" بعد اربع سنوات من خلافة فوضوية.. تعال الان و ضَعّْ هذه الشخصية القلقة سايكولوجيا في كوفة "لا رأي لمن لا يطاع" التي لم تطع والده.. كوفة "لم يغلبني معاوية وانما حمقى القوم خذلوني".. الكوفة التي كان لإشرافها القول الفصل.. الكوفة التي كان فيها احياء كثيرة معارضة لعلي.. الكوفة التي كان تسكنها شرائح كثيرة تحمل ضغائن لـِ علي لأنه قتل وهجّر واضطهد اقاربهم.. ثم تعال بعد هذا وذاك و أضِفْ الى هذه المعْمعَة الكوفية جزئية "الخوارج احاطوا بأطرافه".. خوارج جاءوا يبحثون عن ثأر لمذبحة النهروان.. خوارج ظلوا خلال أربع سنوات ونيف "ينامون" على ظهور خيولهم او يفترشون العراء!! في الوقت الذي كان فيه الحسن "يُسَطِّر" فتوحاته الجنسية على فرش وثيرة!!  

وعندما نقوم بتُصرّيف حاصل جمع كل هذه الضغائن والاحقاد سايكولوجيا.. عندها.. وعندها فقط.. سنفهم ما قاله لبيد بن زياد الجهضمي حين سأله أحدهم: أتحب عليا؟ فأجابه: كيف أحب رجلا قتل من قومي الفين وخمس مائة".. وما يقوله لبيد هذا.. يذكرنا بثابت سياسي تاريخي.. وهو ان كل اضطهاد يُولِّد احقاد وضغائن.. وهذه الأحقاد والضغائن تنتظر دائما الفرصة الملائمة للانتقام.. لن نفهم شيء مما جرى في الكوفة بعد اغتيال عليّ ما لم نأخذ بنظر الاعتبار هذه الاحقاد والضغائن والتي تشير كل الدلائل انها انفجرت اثناء فترة انتقال السلطة التي هي دائما أضعف فترة سياسية يمر بها نظام سياسي ما.. وهذا ما حاولت السردية الترقيعية "إخراجه" بمشهد الفوضى المتناقض.. مرة في المدائن عندما "انفر" الجيش بسبب اشاعة.. ومرة أخرى في الكوفة بذريعة أسخف وهي ان الحسن اغضب اهل الكوفة لأنه أراد صلح معاوية!!

كل الروايات التي وصلتنا بخصوص حدث انهيار الحسن تؤكد خبرين متواترين: الأول هو الفوضى.. والثاني هو طعن الحسن.. وهذا التواتر لا يترك لنا مجال للتشكيك بالخبرين.. من هنا أهمية الاجابة على سؤال: من طعن الحسن ولماذا قام هذا الشخص بطعن الحسن؟؟ فالإجابة على هذين السؤالين ستمكننا من معرفة هوية ودوافع هذا الشخص.. وهنا علينا استبعاد الروايات التي تقول لنا ان من طعنه هو أحد افراد جيشه في المدائن.. لأننا اوضحنا بما يكفي سخافة رواية تجيّش الحسن لجيش وذهابه للمدائن.. الفوضى حدثت في الكوفة وفعل الطعن ايضا.. وهنا سيتبقى لنا احتمالين: اما ان يكون الطاعن كوفي "مبايع للحسن" لم تعجبه خطبة الحسن التصالحية كما تقول لنا السردية الترقيعية.. وهذا ما لا يقبله عقل سليم ولا مبادئ علم الجريمة.. واما ان يكون "الطاعن" هو شخص كان يبحث عن انتقام لعزيز او قريب قتله او اضطهده "أبو الحسن".. وهذا الاحتمال الأخير اقرب للمنطق.. عندها سنكون امام فرضيتين.. اما ان يكون هذا الشخص من الخوارج الذين احاطوا بالكوفة وحاول اغتيال الحسن انتقاما لمذبحة النهروان (على شاكلة ابن ملجم).. او شخص من سكان الاحياء الكوفية المعارضة لـ عليّ استغل فترة انتقال السلطة المتوترة وحاول اغتيال الحسن انتقاما لعزيز او قريب اضهده "أبو الحسن".. علما ان هناك روايات جانبية تقر بأن من طعن الحسن هو خارجي.

يبقى سؤال تسلسل او تتابع هذين الحدثين.. السردية الترقيعية تقول لنا ان طعن الحسن حصل بعد حدوث الفوضى.. وهي بذلك تضع العربة امام الحصان.. لان الدلائل التي بحوزتنا تدفعنا لعدم استبعاد فرضية ان الحسن تعرض لمحاولة اغتيال بعد أيام من إستخلافه.. وظل طريح الفراش لأسابيع (وجزئية بقاء الحسن طريح الفراش لأسابيع نجدها في روايات كثيرة).. وهنا حصل فراغ في السلطة.. وفراغ السلطة هذا أنتج الفوضى.. بتعبير اخر ان فراغ السلطة الذي تبع طعن الحسن هو الذي انتج الفوضى.. وعلينا هنا ان لا نتردد في استحضار الحاضر لفهم الماضي وتقريب الصورة ذهنيا.. تحت نفس الظروف التاريخية البشر يتصرفون بنفس الكيفية.. فراغ السلطة في بغداد بعد سقوط نظام صدام.. إثر الاحتلال الأمريكي.. أنتج فوضى عارمة تم خلالها سرقة "بساط" صدام و"متاعه"!! وكل ما في المعطيات التي بين أيدينا يدفعنا لتصور سيناريو مشابه شهدته الكوفة آنذاك.. اغتيال عليّ ابن ابي طالب من قبل الخوارج ترك الكوفة في توتر أمني بحيث ان الحسن لم يجرؤ على دفن جثة والده في وضح النهار.. وفي هذا الجو المتوتر امنيا.. يتعرض الحسن لمحاولة اغتيال فاشلة تركته طريح الفراش لأسابيع.. وهذا قد أنتج فراغ سلطة في كوفة متشظية اجتماعيا وسياسيا.. نحن هنا امام كل الشروط الموضوعية المنتجة لظاهرة الفوضى.

باختصار.. كل ما تقدم عرضه يدفعنا لفرضية ان الكوفة بعد سقوط "نظام" علي بن ابي طالب عاشت نفس الفراغ السياسي والفوضى التي انتجت ظاهرة "الحواسم" التي شهدتها بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين.. وتناقض الروايات بشأن ما تم سرقته من الحسن: متاع او اموال او ما هو أسخف بساط فقط (لاحظ عزيزي "المشاهد" تقشف الحسن!!).. كل هذه الدراما الفلمهندية لا يجب ان تشغلنا عن المهم.. فالمهم هنا هو ليس نوعية الشيء المسروق وانما فعل السرقة.. والسرقة في سياق السردية الترقيعية هي كناية لظاهرة "حواسم" مخجلة شهدتها الكوفة.. نحن هنا امام اشاره مستحية لفوضى عارمة تم خلالها نهب وسلب كل ما "خف حمله وغلى ثمنه".. كما حصل في بغداد التي استبيحت ونُهبت بشكل مخجل من قبل "حرافيشها".

وعليك ان تعيش ذهنيا هذا الانفلات الأمني والفراغ السياسي لتفهم مبادرة اشراف الكوفة بالتواصل مع معاوية: "أرسلوا اليه الكتب ينبئونه بضعف الحسن وانتثار امره واختلاف الناس عليه".. عُلْية القوم.. كما في كل زمان ومكان.. لا يحبون الفوضى..  بين "حصبة" الفوضى و"جدري" الخوارج.. اختار اشراف الكوفة "لقاح" معاوية!! ولا تحتاج بعد ذلك لخيال واسع لتفهم ما حصل بعد ذلك.. معاوية يدخل الكوفة بحلمه المعهود.. يُعيد الامن والنظام فيلتف حوله من يحبون الامن والنظام.. يطرد الخوارج.. ثم يعطي الحسن "ألف ألف" ويرسله للمدينة "معززا مكرما".. هكذا خرج الحسن من مسرح التاريخ.. متقاعدا في المدينة.. براتب تقاعدي وقدره "ألف ألف"!! كان يستلمه كل عام من معاوية.. ومع هذا اليسر والدعة استمر الحسن بـِ"فتوحاته" المعهودة (برفقه ابن عمه الباذخ عبدالله ابن جعفر راعي المطربين والمطربات)!! من شب على شيء شاب عليه!! 

وكل الروايات والمقولات المتناقضة التي تتحفنا بها السردية الترقيعية لتبرير "تقاعد" الحسن عن الخلافة.. من مثل الرواية التي تتحدث عن شروط مالية اشترطها الحسن مقابل التنازل عن الخلافة لمعاوية!! (وهذا تحريف لا يخفى على عاقل لكرم معاوية.. لان المهزوم لا يملك رفاهية الاشتراط).. او المقولة التي يظهر فيها الحسن مقتدرا يتنازل لوجه الله: "كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجه الله وحقن دماء المسلمين"!! (التي تنطح منطقيا مقوله أخرى للحسن فيها معنى الخذلان والهزيمة " يا اهل العراق، انه سخّى بنفسي عنكم ثلاث: قتلكم ابي، وطعنكم ايايّ، وانتهابكم متاعي"!!) كل هذا الاستحمار الفكري ما هو الا "تاريخ بلاغي" مفبرك تحاول فيه بهرجة اللغة الالتفاف على عنق المنطق وخنقه.. اما حديث "ان ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين"!! والذي تعط منه رائحة الفبركة المتأخرة.. فهو محاولة فاشلة لإعادة كتابة التاريخ من منظور وعظي ضمن إطار مفهوم "الجماعة" الذي تم انتاجه في العصر العباسي لأغراض سياسية.       

2025/04/09

بيتكوين قريش .. لماذا انهارت "البورصة" الكوفية؟؟

عِلم الاجتماع السياسي يعلمنا ان الأحداث السياسية لا تحدث بضربة عصى سحرية.. على طريقة "كن فيكون".. الاحداث السياسية تندرج ضمن مسار.. ولها شروط إمكانية.. وتحكمها "قوانين الجاذبية" الاجتماعية والسياسية.. وانت تبعا ذلك لا تستطيع دراسة وفهم حدث ما من دون استحضار المسار الذي انتجه..ولتوضيح مفهوم المسار من دون الدخول في تعقيدات مصطلحيّ "السنكروني" و"الدياكروني" التي يتضمنها مفهوم المسار.. تستطيع ذهنيا ان تضع كوفة الحسن على سكة حديد وتدفعها الى الوراء في الزمن.. وتبدأ بمعاينة محطاتها واحدة تلو الاخرى.. مِن كوفة سعد ابن ابي وقاص.. مرورا بكوفة سعيد بن العاص.. وصولا الى كوفة عليّ بن ابي طالب.. عودة جينيالوجيّة للأصول لفهم "كيف وصلت الأمور الى ما هي عليه" عند استخلاف الحسن.. وإذا ما قمنا بذلك فسوف نحصل على فرصة أكبر لفهم الديناميكية السياسية التي كانت سائدة في كوفة الحسن.. وبالتالي فهم العوامل التي أدت الى انهيار الحسن.. ومن دون ذلك سنبقى في حيص بيصيّة الطبري والبلاذري.. رواية تناقض رواية.. رواية تنطح رواية.  

 الكوفة في نشأتها كانت "مدينة" تسكنها قبائل جاءت من الجزيرة العربية وخصوصا من اليمن أيام فتح العراق.. يختلف المؤرخون في الكثير من تفاصيل نشأة الكوفة.. ولكن هناك اجماع شبه تام على ان "التخطيط العمراني" للكوفة منح كل قبيلة "خطة" او حياََ خاصاََ بها.. وبمرور الوقت شهدت الكوفة هجرات متتاليةمن قبل خليط من القبائل تسميها السرديات الكبرى بـِ "الروادف".. وكثير من هذه الموجات الرادفة كانت من قبائل الردة.. التي لم يُسْمح لها في البداية بالالتحاق بالجيوش الأولى التي ذهبت للعراق.. وعامل انعدام الثقة بهذه القبائل المرتدة آنذاك هو الذي برر هذا المنع.. وعمر بن الخطاب هو الذي سمح لها لاحقا بالذهاب للعراق.. وهذه الهجرات المتتالية سببت "تضخم سكاني" في الكوفة.. وبمرور الوقت أصبح عدد الروادف أكثر من سكانها الأوائل.. وهنا ظهرت أولى بوادر توتر "مناطقي" في الكوفة بين الاولين والمتأخرين.

 وهذا التوتر المناطقي لا يمكن فصله عن توتر "طبقي" ذو دوافع اقتصادية.. فالتراكم الاقتصادي الهائل الذي شهدته الكوفة آنذاك بفضل أموال السواد.. وقصص الغنائم الهائلة لمعارك الفتح الاولى.. جعلت من "العراق" وبالتحديد الكوفة ذات جاذبية مغناطيسية لهجرات القبائل.. ولا تحتاج الى معرفة كبيرة في السايكولوجيا البشرية لكي تفهم ان الدافع المادي كان عنصرا مهما في أسباب مشاركة كثير من هذه القبائل في "فتح" العراق.. المؤرخون القدامى كما الباحثون المعاصرون في الشأن الإسلامي لا يتفقون بخصوص تفاصيل اسباب الصراع الذي شهدته الكوفة آنذاك.. فتناقض الروايات ولا منطقيتها هنا كما في مواضيع أخرى "يشيب له الولدان".. وسلوك من تسميهم السرديات الكبرى بـِ "القراء" وتقلباتهم السياسية لا زال يشكل نوع من الاحجية لكل عقلي منطقي.. ثم كيف لمدينة بحجم الكوفة ان تحوي الاف من قراء القرآن في ذلك الوقت المبكر من الاسلام؟؟ يتساءل باحث معاصر ذهب حد التشكيك بالمعنى الدارج لمفردة القراء في هذا الإطار الكوفي.. وافترض لها اصلا جغرافيا ("اهل القرى" ممن أوكلت لهم ادارة أراضي السواد) لتفسير سلوكهم المنفعي في هذا الصراع.. فموقف القراء من قضية التحكيم لا يمكن فهمه من دون هذا الدافع الاقتصادي.    

 انا شخصيا عندما اسافر في التاريخ واجد نفسي امام مثل هكذا فوضى.. الجأ الى منهجية بسيطة استعيرها من ثوابت الأنثروبولوجيا والتاريخ.. فالتاريخ هو "مختبر" يحوي على عينات هائلة من السلوكيات البشرية.. وهذا المختبر يعلمنا ان البشر وتحت ظروف تاريخية متشابهة يتصرفون بنفس الطريقة.. من هنا المقولة المأثورة: "لا جديد تحت الشمس".. أمس كما اليوم.. انظر من حولك وشاهد كيف يتصرف البشر عندما يجدون أنفسهم فجأة ام مصدر ثروة هائل.. ثم بعد ذلك اربط ذلك بـِ قانون التنافس البشري.. وأخيرا بقانون الندرة (موارد محدودة.. وحاجات ورغبات غير محدودة).. ستحصل دائما على فئة قليلة "رابحة" وشرائح كثيرة "خاسرة".. وبالمحصلة حسد وغيرة وضغائن وصراعات ونظريات مؤامرة ومذاهب الخ.. من الدرهم الى الدولار.. ومن "بستان قريش" الى البيتكوين.. السلوكيات البشرية واحدة.    

 استحضار هذا الثابت التاريخي وربطة بالروايات المتناقضة التي وصلتنا.. سيمكننا من طرح فرضية عامة بخصوص جوهر الصراع الذي عرفته الكوفة آنذاك.. فحوى هذه الفرضية هو ان ثروات ارض السواد مكنت قبائل الفتح الأولى او ما تسميهم السرديات بـِ "اهل الأيام" من ان تعيش في بحبوحة اقتصادية.. فمجموع الغنائم الكبيرة التي حصلوا عليها إضافة لمبالغ الفيء من أراضي السواد.. جعلت من بعض الشرائح (وخصوصا اشراف القبائل وأصحاب الرياسة فيها) تغتني ماليا.. وهناك شرائح اكتفت وقنعت.. اما شريحة الروادف التي وصلت اغلبها متأخرة على "المأدبة" (بعد انتهاء معارك الفتح الكبرى وغنائمها الكبيرة) فهي لم تنل ما ناله الأوائل.. وظلت لهذا السبب تنظر بعين الحسد والغيرة لمن أثرى واغتنى.. ومورد الرزق الوحيد الذي تَبقّى لهؤلاء الروادف هو العطاء.

 وعندما نعرف ان عطاء السواد في الكوفة كان يوزع حسب معيار "السابقة".. بمعنى الاسبقية في المشاركة في معارك فتح العراق.. ومعيار الالمعية فيها (ابلى بلا حسنا).. ستفهم عندها ان "اهل الأيام" (رفاق خالد ابن الوليد) كان لهم "عطاء" أكبر من عطاء "اهل القادسية".. و"اهل القادسية" كان لهم عطاء أكبر من عطاء الروادف الذين وصلوا بعد القادسية.. وهنا نحن امام اول "ضغينة" للروادف.. وعندما نضيف الى ذلك معطى اخر.. وهو ان كثير من الروادف كانوا ينتمون الى قبائل كبيرة ومهمة قبل الإسلام.. واحساسهم بالقوة آنذاك هو الذي دفعهم للردة.. وهؤلاء وجدوا أنفسهم في الكوفة اقل قيمة اجتماعية واقتصادية من "اهل الأيام".. "الذين كانوا ما قبل الاسلام اقل منهم منزلة واهمية بالمنظور القبلي.. وأصبحوا يتمتعون بمكانة اجتماعية واقتصادية أكبر منهم.. بفضل عدم ردتهم واسبقيتهم في فتح العراق.. وهنا نحن امام "ضغينة" ثانية لهؤلاء الروادف.. وانت إذا ما زدت طينة الكوفة بلّة!! واستحضرت ان اغلب قبائل الردة من الروادف لم يُسمح لهم بتبوء مناصب مهمة بسبب الشك بولائهم.. ستعثر على "ضغينة" ثالثة للروادف.. وعندما نذهب الى "الجانب الاخر" من "المفارقة" الكوفية.. عندما نذهب الى كوفة "اهل الأيام" واشرافهم ممن استوطنوا الكوفة من بداية تأسيسها.. ستعثر على تململهم من الضغط السكاني الذي سببه الروادف على الموارد وعلى الجغرافية الكوفية.. باختصار.. سنعثر على تململ "مركز" الكوفة من سلوكيات "الأطراف".. وبالتالي على غيرة وحسد أطراف الكوفة من "المركز".. ونحن هنا امام ثابت سوسيولوجي تاريخي نجده في كل المدن.. أمس في الكوفة كما اليوم في بغداد التي شوهتها عشوائيات الأطراف وسلوكياتهم.  

وانت إذا ما قمت باستحضار كل هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية.. وما انتجته من مظلوميات وشكايات.. وقمت باستيعاب مفاعيلها سايكولوجياََ.. من احباطات وتنافس عشائري وضغائن.. ستجد نفسك في نهاية المطاف جالس برفقة "الاشعث ابن قيس" على برميل بارود اسمه الكوفة!! لا غرابة ان الكوفة كانت مدينة صعبة الحكم.. وكانت تُبَدِّلُ وِلاتها كما تُبَدَّلْ الثياب.. من سعد ابن ابي وقاص.. مرورا بـِ عمار ابن ياسر.. ثم الوليد ابن عقبة.. وصولا الى سعيد ابن العاص.. كانت الشكايات من الولاة ثابت سياسي.. اما الذرائع التي كانت تقف خلف هذه الشكايات فهي متغيرة.. مرة تحت ذريعة ان سعد ابن ابي وقاص "لا يقسم بالسوية".. وأخرى تحت ذريعة ان عمار ابن ياسر "غير كاف ولا مجزِِ ولا عالم بالسياسة".. وثالثة ان الوليد ابن عقبة "صلى بالناس سكران"(الطبري يقول ان هذه الذريعة مفبركة من بعض رجالات الكوفة "بغيا وحسدا").. ورابعة تحت ذريعة ان سعيد ابن العاص قال: "السواد بستان قريش".. باختصار تتغير الذرائع.. ولكنها كلها تقول لنا ثابت صراع المكونات الكوفية على موارد ارض السواد وعدم رضاها "بالمقسوم". 

الغريب.. وهنا نأتي "لرباط سالفتنا".. هو ان هذه الديناميكية الكوفية المتشظية تختفي فجأة في روايات الطبري والبلاذري التي تتطرق لحدث انهيار الحسن في الكوفة.. من هنا شمولية عبارة "اهل الكوفة" في رواية البلاذري والتي تقول لنا: "لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه".. الحسن في هذه الرواية يحصل على نسبة ٩٩٫٩٩٪ من الأصوات في "الانتخابات" الكوفية!!!  لا غرابة ان هذه "الشعبية" الكاذبة لا تصمد سوى بضعة أسطر.. لأننا ما ان نصل الى نهاية الرواية حتى نكتشف ان الحسن تعرض الى محاولة اغتيال من قبل نفس "اهل الكوفة": "فوثب عليه أهلُ الكوفة وانتهبوا ماله، وحرّقوا سرادقه، وشتموه وعجّزوه"!!! من هنا شعور السخافة المنطقية الذي ينتابنا ونحن نقرأ هذه الرواية.. شمولية عبارة "اهل الكوفة" هنا لا تقل سخافة عن شمولية عبارة "اهل العراق" التي يرفضها فلهاوزن في السرديات الكبرى.. لأنها كليشات مختزلة للمعقد ولا تعكس الواقع التاريخي بأمانه.. وبالتالي فهي ضارّة معرفيا.

 و"غربتنا" المعرفية امام رواية "أحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه" تزداد أكثر حين نستحضر شيء اخر.. وهو ان "ابيه" ايضا لم يحصل على هذه الكمية المبالغ فيها من الحب عندما جاء الكوفة!! وهناك قرائن كثيرة تقول لنا ان الكوفة التي اتخذها عليّ عاصمة خلافته (لكي يكون قريبا من أموال السواد) لم تكن كلها "علوية".. فعندما أرسل عليّ عمار ابن ياسر للكوفة قبل معركة الجمل ليطلب المدد.. "لم يخرج [معه] الا جزء من اهل الكوفة" كما يقول لنا هشام جعيط.. وموقف والي الكوفة آنذاك أبو موسى الاشعري الرافض للفتنة يعبر عن موقف اغلب الكوفيين الذين لم يشاركوا في حرب الجمل.. لان شرائح كثيرة في الكوفة كانت تدين بولائها لعثمان.. ومنهم من كان يملك علاقات مصاهرة مع والي عثمان في الكوفة سعيد ابن العاص.. وهؤلاء من ذوي الرياسة في قبائلهم ولهم اتباع ومريدين ومنتفعين.. بمعنى كان لهم ثقل اجتماعي وبالتالي سياسي.. وهناك شرائح اخرى وان لم تكن عثمانية الهوى كانت ضد الانقلاب الدموي والطريقة البشعة التي قتل بها عثمان.. وعليّ جاء الكوفة برفقة هؤلاء القتلة.. ثم هناك شرائح كان لها مصالح اقتصادية كبيرة في السواد وخصوصا طبقة الاشراف.. وهؤلاء كما "الرأسماليين" في كل زمان ومكان كانوا ضد كل اضطراب سياسي وفوضى.. لذلك كانوا ضد الاضطرابات السياسية التي احدثتها "فتنة" قتل عثمان وحرب الجمل.. لا غرابة بعد كل ذلك ان كثيرين من سكان الكوفة "اعتزلوا" عليّ وحروبه.. هناك من غادر الكوفة.. وهناك من رفض القتال في صفوف عليّ (المجمل بن سماعة وسماك ابن مخرمة على سبيل المثال).. وهناك من تم تهجيره قسرا.. وهناك من بقيَّ فيها على مضض.. حيث بيوتهم ومصالحهم.. ولكنهم لم يكونوا "علويون".. لا هم ولا عشائرهم.

 السرديات الكبرى تغص بتفاصيل صراع عليّ مع الخوارج.. ولكنها تمر مرور "الكرام" على معارضة هذه الشرائح الكوفية لـِ عليّ.. وعليك ان تقرأ مئات الكتب والاف الروايات لتجد إشارات عابرة ومتناثرة هنا وهناك.. تقول لك ان الكوفة التي وصلها عليّ بعد معركة الجمل كان فيها أنصار وموالين لعثمان.. وعليك بعد ذلك ان تقرأ ما بين سطور مئات الكتب والاف الروايات لتفهم ان علي بن ابي طالب مارس ضد هؤلاء سياسات قمعية تليق بدكتاتور من القرن العشرين.. من حرق البيوت وهدمها الى التهجير القسري.. وعليك بالابتعاد عن "جادات" السرديات الكبرى والدخول في "درابينها".. لتجد تفاصيل كثيرة ومتناثرة ما بين السطور تدلك على كوفة أخرى.. على سبيل المثال لا الحصر: ستجد ان عشيرة باهلة لم تكن مؤيدة لـ عليّ.. لهذا السبب "ابعدها [عليّ] الى الديلم".. وستجد ان جرير بن عبد الله (زعيم قبيلة بجيلة والتي كانت من أوائل العشائر التي سكنت الكوفة و"ابلت بلا حسنا" في معركة القادسية).. جرير هذا انشق مع نصف عشيرته وقاتل الى جانب معاوية في معركة صِفيّن.. وبسبب ذلك "غضب عليّ عليه فَشعّث داره وحرق مجلسه".. ونفس الشيء حصل لبيت أبي اراكة التي كانت "دارا مشهورة في الكوفة" وقام عليّ بحرقها.. لأنه كان من الاشراف المعارضين لـِ عليّ.. وستجد ان بني جسر (من عشيرة محارب) لم يطيعوا عليّ "فغضب عليهم وامر بهدم دورهم".

وانت إذا ما كنت تتمتع بلياقة فكرية عالية.. وذهبت أكثر في عملية "الحفر" هذه.. فأن "معولك" سيرتطم بروايتين من العيار الثقيل.. وستجد في الرواية الاولى (وهنا ارجو ان تمنحني كل انتباهك) ان بنو الارقم رفضوا لعن وشتم عثمان بن عفان من على منابر مساجد الكوفة!!! (نسخة منه للكويتب الشيعي الذي يريد ان يقنعننا ان ظاهرة السب والشتم بدأت في الدولة الاموية !!!).. اما في الثانية فستجد ان مساجد كوفية كانت تسمى "بالمساجد "الملعونة" لأنها معارضة لـِ علي!! وهنا ستتوقف عن "الحفر" لالتقاط انفاسك ومعاينة خريطة الكوفة "اركيولوجياََ".. ستجد ان كل حي كوفي كبير كان فيه مسجد.. عندها وعندها فقط.. ستفهم بالاستنتاج المنطقي ان الكوفة كان فيها احياء كثيرة معارضة لـِ عليّ!! وهذا ما لا تقوله لك رواية: "لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه "!!

وعلينا اخيراََ.. للحصول على صورة مجسمة أكثر وضوحا لكوفة عليّ.. ان نضيف عامل اخر مهم وهو العامل الاقتصادي.. فـَالفتوحات التي بدأت في التناقص في عهد عثمان.. توقفت كليا في عهد عليّ بسبب مفاعيل "الحرب الاهلية".. أضف الى ذلك ان الكثير من الامصار الغنية والبعيدة خرجت تدريجيا عن سيطرة عليّ.. مصر وقعت تحت سيطرة معاوية.. والأحواز التي كانت تحت امرة الخريت ابن راشد الناجي (العثماني الهوى والذي كان يطالب بدم عثمان) توقفت عن دفع أموال الجباية.. وانت عندما تضيف الى كل ذلك.. الإدارة الاقتصادية السيئة لـِ عليّ والتي تركت بيت المال "بلا عملة صعبة".. ستفهم سبب انهيار "البورصة" الكوفية.. مما ترك كوفة عليّ على حافة الإفلاس.. الروايات الشيعية تبرر "تبخر" بيت المال بعدالة علي في توزيع ما في بيت المال!! كما لو ان عليّ كان يدير جمعية خيرية وليس دولة تحتاج الى سياسة اقتصادية رصينة وتدبير مالي.. (وهنا مداخلة سريعة.. فنحن نمتلك قرينة تدلنا على "كرم أخويّ"بعيد عن معيار "السابقة" الاسلامي.. فاختة شقيقة عليّ وكنيتها "ام هاني" والتي كانت من الطلقاء بمعنى انها اسلمت بعد فتح مكة.. كما اغلب أقارب عليّ.. "ام هاني" هذه كانت تملك واحد من أفضل بيوت الكوفة!! وهذه المعلومة تقول لنا ان "قانون" "الاقربون أولى بمعروف السلطة" كان سائدا في كوفة عليّ.. وهذا "القانون" ثابت تاريخي نجده في كل زمان ومكان.. على كوكب الأرض ليس هناك ملائكة).

 فقط عندما نستحضر كل هذه العوامل سنفهم لماذا تحولت الكوفة.. بعد أربع سنوات من حكم عليّ.. من اغنى الامصار الى أفقرها.. وسنفهم أيضا تململ وغضب اشرافها من "انهيار البورصة" الكوفية (و اشراف الكوفة هُم المعادل النخبوي لـِ "وول ستريت" اليوم)!!  وسنفهم سبب الانشقاقات الكثيرة التي شهدتها الكوفة في السنة الأخيرة من حكم عليّ كما تقول لنا المستشرقة الإيطالية لورا فيتشيا فاليري.. امس كما اليوم.. المدن والدول الفقيرة تُصَدِّر سلعة وحيدة.. وهي المهاجرين.. أمس كما اليوم.. السلوكيات واحدة: "ماكو" نفط.. "ماكو" رواتب.. "ماكو" رواتب.. نقمة ومظاهرات وفوضى.. وهنا  سنفهملماذا بدأ اشراف الكوفة آنذاك بالتواصل مع معاوية كما يقول لنا طه حسين.. لأنهم  وبخبرة "الرياسة" التي يمتلكونها فهموا علامات "الانهيار" التي كانت امامهم.. فهموا ان عليّ بلا بوصلة سياسية.. "لا رأي له" بحسب سعد بن قيس الذي كان مقرباََ من عليّ.. مصنع الأحاديث الشيعية أنتج لاحقا مقولة مضادة لهذه المقولة نسبها لـِ عليّ: "لا رأي لمن لا يطاع"!! لتبرير فشل عليّ في الكوفة.. نحن امام إقرار غير مباشر بـِ فشل عليّ في إدارة الكوفة.. ولكن "الامام" لا يتحمل أي مسؤولية في ذلك الفشل.. مفهوم القيادة في الإسلام يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".. اما مقولة "لا رأي لمن لا يطاع".. فهي تقول لنا ان "الرعية" الكوفية هي المسؤولة عن ضياع وفشل "الراعي"!! لا جديد.. "الائمة" في السردية الشيعية هم دائما ضحايا رعيتهم.. من هنا الحديث المفبرك "ما غلبني معاوية ولكن حمقى القوم خذلوني".. كل خصال ومعارف وقدرات الائمة الاسطورية تختفي فجأة امام "حمقى القوم"!! كما لوان معاوية كان يحكم ملائكة!!

  باختصار.. تفكيك عبارة "اهل الكوفة" يضع امام اعيننا كوفة أخرى لا نراها في رواية "لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه".. يضع امامنا كوفة مغايرة نجد فيها أشياء أخرى غير الحب والطاعة لـِ عليّ.. نجد فيها ولاء لعثمان.. نجد فيها أُناس يرفضون لعن عثمان من على منابر المساجد.. نجد فيها مساجد ملعونة لأنها معارضة لـِ عليّ.. نجد هدم وحرق لبيوت المعارضين.. نجد تهجير قسري.. وبالتالي.. نجد عليّ في "المحيط" الكوفي التقليدي المتلاطم الذي عرفناه في ولاية سعيد ابن العاص.. نجد عليّ بحجمه الطبيعي الانثروبولوجي.. عليّ الغير أسطوري.. علي لا يمتلك قدرات قيادة.. عليّ "محدود" وبلا قدرة على التحكم بعنان "الفرس" الكوفي الجامح.. عليّ عاجز على إدارة مدينة كالكوفة.. وصدى هذا العجز نجده في مقولتي "لا رأي له" و "لا رأي لمن لا يطاع"!! و"النقد الداخلي" لهاتين المقولتين يقول لنا بطريقة غير مباشرة.. ان عليّ كان محاطاََ بشخصيات قوية (من عيار الاشعث بن قيس) يمتلكون كاريزما وتحالفات عشائرية قوية مكنتهم من فرض آرائهم وسياساتهم على عليّ.. لا بل ان أحد الباحثين المعاصرين في التاريخ الإسلامي يقول لنا ان سلطة عليّ وهيبته سقطت في صِفّين.. عندما فرض عليه الاشراف (وبالتحديد الاشعث بن قيس) قرار التحكيم.. بمعنى ان الاشراف سحبوا منه اهم قرار "سيادي" وهو قرار الحرب والسلم.. وهو يقول ان "فيتو" الاشراف هذا هو الذي منع عليّ من محاربة معاوية خلال السنوات اللاحقة.. لا غرابة ان هذا الباحث يقول لنا ان فشل عليّ في الكوفة هو فشل "مثير للشفقة".. والتعبير الإنكليزي الذي يستخدمه أكثر وقعاََ.

Pathetic failure

و"عودة الى اغنامنا".. كما يقول التعبير الفرنسي.. عود على بدء.. عودة للحسن ابن "ابيه".. تفكيك عبارة "اهل الكوفة" كشف لنا ديناميكية كوفية متشظية.. وهذه الديناميكية تُبَيَنُ لنا شيئاََ في غاية الأهمية.. وهو ان فشل الحسن السياسي لم يأتي من فراغ.. فكل ما تقدم يُبَيَنُ لنا ان فشل الحسن السياسي يندرج ضمن مسار فشل ابيه.. ومرتبط ارتباطاََ عضوياََ بـِ فشل ابيه.. وهنا نكون قد انتهينا من تحضير خلفية "لوحتنا".. وعلينا الان البدء برسم مشهد سقوط الحسن ضمن هذه الخلفية السوسيولوجية للكوفة.

يتبع 

  

2025/03/10

هل جَيّشَ الحسن جيشا لقتال معاوية ؟؟ شارلوك هولمز في الكوفة

التاريخ وثائق قبل كل شيء.. وثائق يمكن التحقق من صحتها او عدم صحتها من خلال قراءة نقدية.. ونحن للأسف لا نملك وثائق اصلية في حدث انهيار الحسن السياسي.. كل ما نملكه هي روايات تناقلها الرواة شفاهيا خلال قرن ونصف قبل ان توضع على الصحف.. وحتى هذه الصحف لم تصلنا.. كل ما وصلنا منها هي مقتطفات نجدها في سرديات الطبري والبلاذري.. وهذه السرديات الكبرى تم كتابتها بعد ما يقارب ثلاثة قرون على الحدث.. لا غرابة بعد ذلك انها سرديات تتناثر فيها روايات متضاربة ينطح بعضها بعضا!! هذه السرديات يمكن ان يصدقها العامة بشكل "عقائدي".. ولكنها من منظور علم التاريخ الحديث مجرد محاولات توليفيه متأخرة ولا يمكن القبول بها كما هي.

 

ما العمل إذاََ ؟؟ كيف نقرأ حدث انهيار الحسن السياسي قراءة تاريخية رصينة ونحن لا نملك وثائق اصلية ؟؟  والجواب هو منح حدث انهيار الحسن السياسي نفس الاهتمام الذي يمنحه محقق "البوليس" لجريمة ما.. وأول شيء يقوم به المحقق في هذه الحالة هو الذهاب الى "مسرح الجريمة" والبحث عن ادلة واشارات تمنحه خيط من الوضوح للسير عليه بعد ذلك لاستكشاف حقيقة ما جرى.. وبالتالي قراءة نقدية لروايات "المتهمين" و"الشهود" و"الرواة" ومن لهم علاقة بمسرح الجريمة.

 

ونحن إذا ما ذهبنا "لمسرح جريمتنا".. إذا ما ذهبنا لكوفة ذلك الزمان.. وقمنا بمعاينة دقيقة للمشهد السياسي في كوفة "ابو الحسن".. وبالتحديد مشهد مقتل "أبو الحسن".. وفتشنا تفاصيله بدقة.. ونظرنا فيما بين "رفوفه" و"زواياه".. سنجد "إشارة" في منتهى الأهمية.. وهذه "الإشارة" نجدها مستترة في "مراسم" دفن جثة "أبو الحسن".. فبعض الروايات التي وصلتنا تقول ان جثة "أبو الحسن" دفنت خلسة في الليل وفي مكان غير معروف: "قيل بظاهر الكوفة وقيل بالكناسة وقيل دفن بالبرية".. والسؤال البديهي الذي سيطرحه المحقق في مثل هذا الحالة هو: لماذا دفنت جثة علي ابن ابي طالب خلسة؟؟  

 

 وبعد ان يسجل محقق البوليس هذا السؤال المهم في دفتر ملاحظاته..  سيعود الى مكتبه.. يرمي قبعته على الشماعة (قليل من الخيال لا يضر)!! ثم يقوم بوضع جميع ملفات القضية على طاولته.. وهنا سيضع "عدسات" شارلوك هولمز!! ويدفن رأسه بين دفات الكتب.. قراءة متأنية وغربلة لروايات "الشهود" و"المتهمين".. وهو سيركز على إستنطاق المتناقض فيما بين سطور تلك الروايات.. وهو وبعد قراءة متأنية للروايات سيكتشف ان دفن جثة "أبو الحسن" خلسة كان: "خوفا عليه من الخوارج ان ينبشوا جثته".. ولهذا السبب ظل قبر عليّ مجهولا خلال أكثر من قرنين.. وفي العصر العباسي ورغم ان الحامض النووي لم يكن قد اكتشف بعد!! يتم العثور فجأة على قبر عليّ !! وهو الموقع الحالي في النجف.. وهذا المحقق سيضحك عندما يمر على رواية يسجلها الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" تقول "لو علمت الشيعة قبر هذا الذي يعظمونه بالنجف لرجموه بالحجارة، لأنه قبر المغيرة بن شعبة!!

 

معلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة "خوفا عليه من الخوارج ان ينبشوا جثته".. تضعنا امام القرينة الأهم في مسرح جريمتنا.. فهذه المعلومة ستنتج قطيعة معرفية في معاينة الحدث الذي يشغلنا.. هنا سيترك الطبري والبلاذري واليعقوبي "طاولتنا" وسيخرجون من مشهدنا "المعرفي".. هنا سنخرج من "خيميائية" واحد زائد واحد يساوي أربعة وفي رواية أخرى يساوي سبعة!! هنا سنخرج من تعويذه "اذ نادى مناد " فَيتبخّر جيش كامل بعدته "الحسنة" وعديده!! هنا سنخرج بفرح من بلادة وسخافة نظرية المؤامرة الشيعية!! هنا سنغادر كوكب السحارات والفيلة والحمير الطائرة!!

 

فمعلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة.. ستضع امامنا "خارطة طريق" أخرى لمعاينة حدث انهيار الحسن السياسي.. لأنها ستعيد لهذا الحدث اطاره التاريخي.. ستدلنا على الديناميكية السياسية التي كانت سائدة في الكوفة انذاك.. ان يضطر الخليفة الحسن لدفن جثة ابيه خلسة يعني من خلال عملية استدلال منطقية بسيطة.. ان الكوفة كانت خارج سيطرته الأمنية.. يعني ان الكوفة كانت تعيش فترة انفلات امني.. وهنا يسقط السؤال المهم.. كيف لخليفة اغتيل والده توا من قبل الخوارج.. ودفن جثة ابيه خلسة بسبب تهديدهم.. كيف يقوم هذا الخليفة في مثل هذه الظروف بـِ "الخروج بالناس" الى المدائن وترك الكوفة المهددة امنيا بمجرد إستخلافه؟؟ حتى اغبي نائب عريف لن يقوم بمثل هكذا حماقة عسكرية في مثل هذه الظروف.

 

 من هنا فان معلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة والتي تقول لنا ان الكوفة كانت تعيش توتر سياسي وأمني.. ستسمح لنا برفض رواية "خروج الحسن بالناس" بعد إستخلافه لمقاتلة معاوية.. لماذا؟؟ أولا.. لأنها ببساطة لا تتناسب منطقيا مع الجو السياسي والأمني الذي كان سائدا في الكوفة!! ثانيا.. لان هذه الرواية مستحقرة بكل منطق لوجستي عسكري.. فـ علي ابن ابي طالب وخلال اكثر من اربع سنوات بعد معركة صِفّين لم يستطع تجييش جيش لقتال معاوية.. وفجاءة وفي ظروف انتقال السلطة الهش يقوم ابنه بتجييش جيش لقتال معاوية!! هل ترون الان سخافة هذه الرواية.

 

باختصار.. معلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة "خوفا عليه من الخوارج ان ينبشوا جثته".. ستوجه انظارنا نحو الرواية الاكثر قربا للمشهد الأمني والسياسي الذي كان سائدا في الكوفة.. وهي رواية انهيار الحسن السياسي في الكوفة.. بمعنى ان الفوضى التي تم خلالها سرقة مال الحسن وطعنه قد حدثت في الكوفة.. والرواية الأولى للطبري كما روايته الرابعة تقر بحدوث الفوضى في الكوفة بعد استخلاف الحسن مباشرة.. ولكنها تبرر ذلك بأسباب غير مقنعة..  وهي ان الحسن في خطبة الاستخلاف لم يكن "يرى قتال" معاوية.. وهذا قد اغضب اهل الكوفة.. حتى وان افترضنا ان خطبة الاستخلاف لم تعجب اهل الكوفة.. هل هذا مبرر وجيه وكافي لطعنه وسرقة ماله؟؟ فقط ساذج يمكن ان يصدق هذه السببية العرجاء.. الطبري هنا هو كمن يقول لنا ان خلافة الحسن انهارت بسبب ضربة عصى من الخيزران!!

 

تفنيد رواية "خروج الحسن بالناس" بعد إستخلافه لمقاتلة معاوية .. ورفض سببية الطبري في تبرير الفوضى في الكوفة .. يجبرنا على الإجابة على السؤال المهم الذي سيواجهنا عندها: اذا لم تكن خطبة الاستخلاف هي سبب الفوضى التي أطاحت بخلافة الحسن .. فما الذي حصل لكي تعم الفوضى في الكوفة بعد استخلاف الحسن؟؟

يتبع 

2025/02/28

خيزرانة الطبري ام فأس ارسطو .. لماذا انهارت خلافة الحسن بن علي

ارسطو وبطريقة الاغريق الحوارية كان يقول: "ما الذي يحصل لكي تنشطر قطعة خشب صلبة الى شطرين؟؟ لأنها تلقت ضربة بفأس .. ولماذا انشطرت قطعة الخشب هذه بضربة فأس؟؟ لأن قطعة الخشب الصلبة لا يمكن ان تنشطر بضربة عصا من الخيزران.. فلكي تنشطر قطعة الخشب الصلبة يجب ان تتلقى ضربة بشيء صلب اولا.. وحاد ثانيا.. والفأس تمتلك هاتين الخاصيتين".. ارسطو يضعنا هنا امام بوادر مفهوم السببية المتعددة.. وهو المفهوم السائدة اليوم  في العلوم الاجتماعية .

 

واحدة من الأشياء التي تصفعك وانت تقرأ التاريخ الإسلامي هو سذاجة مفهوم السببية فيها.. وانت عندما تقرأ احداث مهمة ومفصلية في التاريخ الإسلامي من مثل مقتل عثمان ابن عفان او معركة صِفّين وواقعة التحكيم التي تبعتها.. ستضحك على سذاجة مفهوم السببية فيها.. ومع ذلك يبقى حَدَث انهيار الحسن بن علي بعد "إستخلافه" في الكوفة هو الحدث الأكثر غرابة وفنطازية في التاريخ الإسلامي.. ومفهوم السببية فيه من أسخف ما قرأت في هذا الإطار.. فالسردية السائدة اليوم بخصوص هذا الحدث تنتقل من مبايعة الحسن في الكوفة.. الى تجيشه لجيش لمقاتلة معاوية.. و" تَبَخُْر" هذا الجيش في فوضى عارمة تم خلالها سرقة "بساط" الحسن وطعنه.. وأخيرا مصالحة ومبايعة معاوية.. كل ذلك بأقل من خمسة أسطر تقريبا!! وهذا الانتقال السريع من الشيء الى نقيضه مستحقر لكل منطق.. من هنا أهمية تفكيك هذا الحدث.

  

 الطبري مثلا يعطينا اربع روايات بخصوص هذا الحدث.. الرواية الاولى تقول "واستخلف اهل العراق الحسن على الخلافة، وكان الحسن لا يرى القتال، ولكنه يريد ان يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية، ثم يدخل في الجماعة، وعرف الحسن ان قيس ابن سعد (قائد الجيش) لا يوافقه على رأيه، فنزعه وامر عبيد الله ابن عباس، فلما علم ابن عباس بالذي يريده الحسن كتب الى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه من الأموال التي أصابها، فشرط ذلك له معاوية. (وهنا مداخلة سريعة استعيرها من البارع فلهاوزن.. في كل مرة تقرأ عبارة "اهل العراق" في هذه الروايات افهم اهل الكوفة فقط) 

 

 الرواية الثانية تقول " بايع الناس الحسن بالخلافة، ثم خرج بالناس (لقتال معاوية) حتى نزل بالمدائن، وبعث قيس ابن سعد في مقدمته في اثنى عشر الفا، واقبل معاوية في اهل الشام حتى نزل مَسكِن، "فبينما الحسن في المدائن، اذ نادى مناد في العسكر: ألا ان قيس ابن سعد (قائد الجيش) قد قتل، فانفروا، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن، حتى نازعوه بساطا كان تحته،....... فلما رأى الحسن تفرق الامر عنه، بعث الى معاوية يطلب الصلح ... فصالحه "على ان يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة الاف الف واشياء اشترطها.  

 

الرواية الثالثة تقول: " وكتب الحسن الى معاوية في الصلح وطلب الأمان".. ثم يقوم الحسن بإخبار الحسين وعبد الله ابن جعفر بمشروع المصالحة وطلب الامان فيعترض الحسين . فقال له الحسن: اسكت، فأنا اعلم منك بالأمر...... فكتب الحسن الى قيس ابن سعد وهو على مقدمته في اثنى عشر الفا يأمره بالدخول في طاعة معاوية.......".

 

 اما الرواية الرابعة والأخيرة عند الطبري فهي تقول " بايع اهل العراق الحسن بالخلافة، فطفق يشترط عليهم الحسن: انكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت، فارتاب اهل العراق في امرهم حين اشترط عليهم هذا الشرط، وقالوا: ما هذا لكم بصاحب، وما يريد هذا القتال، فلم يلبث الحسن بعد ما بايعوه الا قليلا حتى طُعن طعنة اشوته، فازداد لهم بغضاََ، وازداد منهم ذعراََ (!!!)، فكاتب معاوية وأرسل اليه بشروط، قال: ان اعطيتني هذا فانا سامع مطيع....."

 

اما البلاذري في أنساب الأشراف فهو يعطينا الرواية التالية:" لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه، واجتمع له خمسون ألفًا، فخرج بهم حتّى أتى المدائن، وسرَّح بين يديه قيس بن سعد في عشرين ألفًا، فنزل بمسكن، وأقبل معاوية من الشام في جيش. ثمّ إنّ الحسن خلا بأخيه الحسين فقال له: يا هذا إنّي نظرتُ في أمري فوجدتني لا أصل إلى الأمر حتّى يُقتل من أهل العراق والشام مَن لا أُحبّ أنْ أحتمل دمه، وقد رأيتُ أن أُسلّم الأمر إلى معاوية فأشاركُه في إحسانه ويكون عليه إساءته. فقال الحسين: أُنشِدُكَ الله أَنْ تَكُونَ أَوَّلَ مَنْ عابَ أَباكَ وَطَعَنَ عَلَيْهِ، وَرَغِبَ عَنْ أَمْرِهِ. فقال: إنّي لأرى ما تقول، ووالله لئن لم تتابعني لأشدَّنك في الحديد، فلا تزالُ فيه حتّى أفرغ من أمري. قال: فَشَأْنُكَ! فقام الحسن خطيبًا فذكر رأيه في الصلح والسلم لما كره من سفك الدماء، وإقامة الحرب، فوثب عليه أهلُ الكوفة وانتهبوا ماله، وحرّقوا سرادقه، وشتموه وعجّزوه، ثمّ انصرفوا عنه ولحقوا بالكوفة.

 

وهنا تنتابك فكرة مجنونة وتقول مع نفسك لما لا اذهب لألقي نظرة على الروايات الشيعية لهذا الحدث.. رغم إنك تعرف تمام المعرفة من قراءتك السابقة انه لا امل معرفي يرجى منها.. ومع ذلك تستجمع ما تبقى عندك من حيادية وتقوم بهذه المخاطرة الفكرية.. تأخذ تاريخ اليعقوبي و"مقاتل الطالبيين" للأصفهاني كعينة.. وتجول فيهما وتتوقف امام باب خلافة الحسن.. فتجد عندهما ما كنت تخشاه..  فاليعقوبي والأصفهاني يقدمون لك نفس "طبخة الطبري" معمولة "بالبهارات" الشيعية.. نفس تناقض روايات الطبري زائد نظرية المؤامرة الكونية ضد الائمة والتي تشكل العمود الفقري للسببية الشيعية.. الائمة في هذه النظرية البليدة فكريا هم دائما ضحايا وغير مسؤولين تاريخيا.. أما معاوية فهو دائما هناك على الموعد.. مختفيا في زاوية مظلمة وملتحفا بدهائه الأسطوري لكي يكيد للأئمة.. ومعاوية في روايتي اليعقوبي والاصفهاني لا يشذ عن هذه القاعدة.. معاوية في روايتي اليعقوبي والاصفهاني يمتلك قدرات جني المصباح السحري!! فهو عند اليعقوبي: "يدس الى عسكر الحسن من يتحدث ان قيس ابن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجه الى عسكر قيس ابن سعد من يتحدث ان الحسن قد صالح معاوية، واجابة"!!!! وعندما يسمع الناس ذلك تحصل الفوضى الخ.. باختصار.. جيش الحسن في رواية اليعقوبي مكون من دمى يتلاعب بها معاوية كما يريد.. يحرك معاوية اصابعه يمينا.. فيقف جيش الحسن "بالاستعداد" في ساحة العرضات.. يحرك معاوية اصابعه يسارا.. فيدخل جيش الحسن في حالة انذار وبالتالي في فوضى عارمة!! قدرة معاوية في "التثويل" المغناطيسي في الروايات الشيعية مذهلة!! 

 

 اما رواية الاصفهاني فتقول ان الحسن: " سار في عسكر عظيم وعده حسنة .... فنزل ساباط دون القنطرة"!! وهنا يخطب الحسن في جيشه: "الا وان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة...... " فنظر الناس بعضهم الى بعض، وقالوا: ما ترونه، يريد(بمال)؟ قالوا: نظنه والله يريد ان يصالح معاوية ويسلم الامر اليه، فقالوا كفر والله الرجل ".. ثم تعم الفوضى ويتم سرقه أغراض الحسن وطعنه الخ.. وبعد بضعه اسطر يظهر "الجني "معاوية ليرشو قائد جيش الحسن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب "بألف الف درهم"...."فانسل عبيد الله ليلا، فدخل عسكر معاوية، فوفى له بما وعده .... الخ".

 

 الشعور الذي انتابني وانا اغادر كتب الاصفهاني واليعقوبي.. هو نفس الشعور الذي كان يجتاحني في كل مرة كنت اخرج فيها من سينما سميراميس بعد نهاية فلم فنطازي.. ما ان اضع قدمي في شارع السعدون حتى افهم الهوة السحيقة بين عالم السينما وبين الواقع الذي كنت أعيش فيه !! فالسردية الشيعية عند الاصفهاني واليعقوبي لا تختلف في حبكتها الدرامية عن حكايات ألف وليله وليلة.. الشخصيات والأماكن والازمنة والاحداث تتطاير في فضاء خالي من قوانيين الجاذبية الانثروبولوجية والمنطقية!! وفي هذا الفضاء المقفر فكريا تقوم نظرية المؤامرة بشرح كل شيء!!    

 

باختصار.. الفوضى المنطقية للروايات التي تتطرق لحدث انهيار خلافة الحسن وتضاربها لا يجاريها سوى فوضى "جيش" الحسن.. فهذه الروايات تقول الشيء ونقيضه.. فرواية تقول لك ان الحسن كان يريد قتال معاوية فيخذله "اهل العراق".. ورواية اخرى تقول لك ان "اهل العراق" كانوا يريدون قتال معاوية ولكن الحسن خذلهم بصلحه مع معاوية ولهذا السبب " انفروا ونهبوا سرادق الحسن، ونازعوه بساطا كان تحته "!! رواية تقول لك ان الفوضى حصلت بعد مبايعة الحسن مباشرة وبسبب خطبته التصالحية في الكوفة!! و رواية اخرى تقول لك ان الفوضى حصلت في معسكر الحسن في المدائن(او ساباط دون القنطرة!!!)!! رواية تقول لك ان الجيش "انفر" بسبب إشاعة مقتل قيس ابن سعد قائد الجيش.. ورواية اخرى تقول لك ان الجيش "انفر" لان "الجني" معاوية رشى قائد الجيش عبيد الله بن العباس "بألف الف درهم"!!! رواية تقول لك في بدايتها "لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه" ثم تصل الى نهايتها فتقرأ: " فوثب عليه أهلُ الكوفة وانتهبوا ماله، وحرّقوا سرادقه، وشتموه!!!! انتقال زئبقي من الطاعة والحب الشديد الى الشتم ومحاولة القتل بستة اسطر!!! 

 

باختصار.. مكان الحدث متضارب.. زمان الحدث متضارب.. اسباب الفوضى متضاربة.. والاعداد كالعادة متضاربة!! ولكن الاعداد في هذا الحدث ليست ذات أهمية.. ويمكننا تجاوزها والعمل بنصيحة احد المختصين الايطاليين بالتاريخ الروماني حين يقرأ عند احد المؤرخين الرومان خبر يقول ان احد الموانئ الرومانية كان يستقبل كل يوم "عشرة الاف اسير"(لكي يعطي فكرة عن سطوة روما آنذاك) .. الباحث الإيطالي يعرف ان هذه الأرقام مستحقرة بالقوانين اللوجستية انذاك ولا يمكن تصديقها.. لهذا السبب يقول لك ان هذا العدد الفنطازي يعني فقط "عدد كبير" بعقلية وأسلوب ذلك الزمان.. وهذه الملاحظة البارعة يمكنك تطبيقها في كل مرة تصفعك في التاريخ الإسلامي عبارة "الف الف" او اعداد متضاربة ومبالغ فيها.. لأنها كتبت بعقلية وأسلوب ذلك الزمان.

 

وفقط عقلية ذلك الزمان تسمح لمؤرخ مثل الطبري بوضع رواية حصول الفوضى في المدائن بعد تجيّش الحسن لجيش لقتال معاوية.. جنبا الى جنب رواية حصول الفوضى في الكوفة بسبب خطبته التصالحية التي لم تعجب اهل الكوفة .. مئة وخمسون كيلومتر تقريبا هي المسافة الجغرافية بين مكان الروايتين.. نحن هنا امام "يانصيبية" جغرافية مذهلة في تحديد مكان الحدث / الفوضى.. وهذا يعطيك فكرة عن الضبابية التي كانت سائدة في الروايات التي كانت بين يدي الطبري حين كتب تاريخه بعد "ثلاث قرون" من الحدث.. وبالتالي الهشاشة المعرفية التي تنطوي عليها السردية السائدة اليوم بخصوص هذا الحدث والتي يشكل الطبري اهم مصادرها.

 

 ما كتبته في هذا الموضوع تحول الى شبة أطروحة .. لذلك سأحاول نشره على شكل حلقات.  

2025/01/18

الكلاب لا تنجب قطط

 على خلفية النقاش المحموم بخصوص سلاح المليشيات في العراق.. وبعد التحذيرات الامريكية لقادة الشيعة من انها لن تستطيع منع إسرائيل الى الابد من ضرب العراق.. وضمن إطار دبلوماسية الـ "طم خريزة" التي يمارسها السيستاني منذ الغزو الأمريكي للعراق.. التقى ممثل الأمين العام "للأمم الغير متحدة" مؤخرا مع السيستاني في النجف.. بعد هذا اللقاء أصدر مكتب السيستاني بيان أكد فيه أن "تحقيق الاستقرار والازدهار غير ممكن دون إعداد خطط علمية وعملية لإدارة البلد، ومنع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها، وتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة".

 

السيستاني الذي كان وكيله في النجف حتى وقت قريب يستقبل ويصلي على جثامين قادة الحرس الثوري الإيراني العائدة من سوريا بالتوابيت.. السيستاني الذي كان وكيله في النجف حتى أسابيع مضت يستقبل ويصلي على جيّف فاطميون وزينبيون و"شقندحيون" الذين دمروا المدن السورية وشردوا الملايين من الاطفال والنساء.. هذا السيستاني يخرج علينا اليوم فقط وبعد ان أصبحت "الحديدة الاسرائيلية حارة".. ليتحدث عن "منع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها وحصر السلاح بيد الدولة "!!!!

أكثر من عشرين عاما ومرجعية السيستاني في النجف تصدر البيانات وتبارك التغييرات وتعطي توجيهاتها "الرشيدة".. والنتيجة ان عراق المرجعية "الرشيدة" لازال بلدا غير مستقر وغير مزدهر ويحتاج الى "اعداد خطط علمية لإدارة البلد" كما يقول لنا بيان السيستاني.. اكثر من عشرين عاما وبميزانيات تكفي لبناء عشر دول بحجم العراق.. ولا زال عراق المرجعية "الرشيدة" بلد مولدات كهربائية جعلت العراق من اكثر بلدان العالم تلوثا.. اكثر من عشرين عاما ولا زالت المافيات الشيعية في السلطة تستورد الغاز من ايران لتشغيل محطات كهربائية عفى عليها الزمن.. اكثر من عشرين عاما من "تجريب المجرب" ولازال السيستاني يصدر البيانات التي تدعوا الى " إعداد خطط علمية وعملية لإدارة البلد" !!!

مذهل بعد ذلك ان تسمع احد "المحللين" في "حشد السيستاني الإعلامي" يقول لك ان بيان السيستاني هذا "أعطى دفعة إيجابية ستمكن الحكومة من التعاطي مع الملفات المعلقة".. محللو "خلف السدة" يتبركون بكل شيء يصدر عن السيستاني.. حتى لو ضرط السيستاني ستسمعهم يُدبّجون المقالات وينظمون القصائد الطوال ليقولوا لك فيها ان ضراط السيستاني "سيعطي دفعة إيجابية ستمكن الحكومة من التعاطي مع ملف التلوث والتغيرات المناخية !!!! 

العراق الذي كان في يوم ما يملك اكبر نسبة مهندسين في المنطقة قياسا لعدد سكانه.. وهذا معيار تقني بحت وليس جملة خطابية.. العراق الذي كانت جامعاته في يوما ما مزارا للطلاب العرب ..هذا العراق وصل في الانحدار حد.. اصبح فيه ملا لا يعرف ثمن رغيف الخبز في السوق.. يوجه عمل الحكومات العراقية.. ملا لا يمتلك من العِلم سوى "عِلم" جابلق وجابلص ( وهي اسماء مدن إكزوتيكية اسطورية فبركها رواة الحديث الشيعة للضحك على ذقون الرعاع في زمن لم يعرف خرائط غوغول).. ملا لا يمتلك من العِلم سوى إجازة في "عِلم" الاحاديث المفبركة وفقه النجاسة والنكاح .. يوجه عمل دولة بحجم العراق ويقول للحكومات الشيعية ماذا عليها ان تفعل!!!  

هل نستغرب بعد ذلك ان العراق تحول الى "شبه دولة" تتحكم فيها مليشيات وحشد إلسيستاني بقرار الحرب والسلم.. "شبه دولة" يحتاج رئيس وزراءها الشيعي للسفر الى ايران قبل ان يخطو أي خطوة "سيادية" داخل العراق.. "شبه دولة" يتعهد فيها رئيس الوزراء الشيعي بالعمل وفقا لتوجيهات المرجعية.. "شبه دولة" يسرق فيها "عبد الحسين" الملايين ثم يذهب بعدها باكيا مستغفرا امام شباك الحسين.. شبه دولة تحتاج فيها الحكومة الشيعية الى بيان من السيستاني لكي يعطي محركها العاطل دفعة لمعالجة "الملفات العالقة"!!!! 

باختصار.. "شبه دولة" العراق التي نراها امامنا اليوم هي نتاج منظومة فكرية وسياسية فاسدة.. مِن ابن السيستاني الذي يتحكم بإمبراطورية مالية أخطبوطيه.. الى أصغر شرطي مرتشي.. والسيستاني بهذا المعنى هو جزء لا يتجزأ من منظومة الفساد هذه.. ولو عاش السيستاني عشرين عاما أخرى واصدر الاف البيانات والتوجيهات.. سوف لن يخرج العراق من منظومة الفساد هذه.. لماذا ؟؟؟ لان الفكر الفاسد ينتج ساسة فاسدين وشعوب فاسدة.. فالكلاب لا تنجب قطط ..كما يقول المثل الفرنسي .. "الكلاب" تنجب "كلاب" فقط !!!