2025/03/10

هل جَيّشَ الحسن جيشا لقتال معاوية ؟؟ شارلوك هولمز في الكوفة

التاريخ وثائق قبل كل شيء.. وثائق يمكن التحقق من صحتها او عدم صحتها من خلال قراءة نقدية.. ونحن للأسف لا نملك وثائق اصلية في حدث انهيار الحسن السياسي.. كل ما نملكه هي روايات تناقلها الرواة شفاهيا خلال قرن ونصف قبل ان توضع على الصحف.. وحتى هذه الصحف لم تصلنا.. كل ما وصلنا منها هي مقتطفات نجدها في سرديات الطبري والبلاذري.. وهذه السرديات الكبرى تم كتابتها بعد ما يقارب ثلاثة قرون على الحدث.. لا غرابة بعد ذلك انها سرديات تتناثر فيها روايات متضاربة ينطح بعضها بعضا!! هذه السرديات يمكن ان يصدقها العامة بشكل "عقائدي".. ولكنها من منظور علم التاريخ الحديث مجرد محاولات توليفيه متأخرة ولا يمكن القبول بها كما هي.

 

ما العمل إذاََ ؟؟ كيف نقرأ حدث انهيار الحسن السياسي قراءة تاريخية رصينة ونحن لا نملك وثائق اصلية ؟؟  والجواب هو منح حدث انهيار الحسن السياسي نفس الاهتمام الذي يمنحه محقق "البوليس" لجريمة ما.. وأول شيء يقوم به المحقق في هذه الحالة هو الذهاب الى "مسرح الجريمة" والبحث عن ادلة واشارات تمنحه خيط من الوضوح للسير عليه بعد ذلك لاستكشاف حقيقة ما جرى.. وبالتالي قراءة نقدية لروايات "المتهمين" و"الشهود" و"الرواة" ومن لهم علاقة بمسرح الجريمة.

 

ونحن إذا ما ذهبنا "لمسرح جريمتنا".. إذا ما ذهبنا لكوفة ذلك الزمان.. وقمنا بمعاينة دقيقة للمشهد السياسي في كوفة "ابو الحسن".. وبالتحديد مشهد مقتل "أبو الحسن".. وفتشنا تفاصيله بدقة.. ونظرنا فيما بين "رفوفه" و"زواياه".. سنجد "إشارة" في منتهى الأهمية.. وهذه "الإشارة" نجدها مستترة في "مراسم" دفن جثة "أبو الحسن".. فبعض الروايات التي وصلتنا تقول ان جثة "أبو الحسن" دفنت خلسة في الليل وفي مكان غير معروف: "قيل بظاهر الكوفة وقيل بالكناسة وقيل دفن بالبرية".. والسؤال البديهي الذي سيطرحه المحقق في مثل هذا الحالة هو: لماذا دفنت جثة علي ابن ابي طالب خلسة؟؟  

 

 وبعد ان يسجل محقق البوليس هذا السؤال المهم في دفتر ملاحظاته..  سيعود الى مكتبه.. يرمي قبعته على الشماعة (قليل من الخيال لا يضر)!! ثم يقوم بوضع جميع ملفات القضية على طاولته.. وهنا سيضع "عدسات" شارلوك هولمز!! ويدفن رأسه بين دفات الكتب.. قراءة متأنية وغربلة لروايات "الشهود" و"المتهمين".. وهو سيركز على إستنطاق المتناقض فيما بين سطور تلك الروايات.. وهو وبعد قراءة متأنية للروايات سيكتشف ان دفن جثة "أبو الحسن" خلسة كان: "خوفا عليه من الخوارج ان ينبشوا جثته".. ولهذا السبب ظل قبر عليّ مجهولا خلال أكثر من قرنين.. وفي العصر العباسي ورغم ان الحامض النووي لم يكن قد اكتشف بعد!! يتم العثور فجأة على قبر عليّ !! وهو الموقع الحالي في النجف.. وهذا المحقق سيضحك عندما يمر على رواية يسجلها الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" تقول "لو علمت الشيعة قبر هذا الذي يعظمونه بالنجف لرجموه بالحجارة، لأنه قبر المغيرة بن شعبة!!

 

معلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة "خوفا عليه من الخوارج ان ينبشوا جثته".. تضعنا امام القرينة الأهم في مسرح جريمتنا.. فهذه المعلومة ستنتج قطيعة معرفية في معاينة الحدث الذي يشغلنا.. هنا سيترك الطبري والبلاذري واليعقوبي "طاولتنا" وسيخرجون من مشهدنا "المعرفي".. هنا سنخرج من "خيميائية" واحد زائد واحد يساوي أربعة وفي رواية أخرى يساوي سبعة!! هنا سنخرج من تعويذه "اذ نادى مناد " فَيتبخّر جيش كامل بعدته "الحسنة" وعديده!! هنا سنخرج بفرح من بلادة وسخافة نظرية المؤامرة الشيعية!! هنا سنغادر كوكب السحارات والفيلة والحمير الطائرة!!

 

فمعلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة.. ستضع امامنا "خارطة طريق" أخرى لمعاينة حدث انهيار الحسن السياسي.. لأنها ستعيد لهذا الحدث اطاره التاريخي.. ستدلنا على الديناميكية السياسية التي كانت سائدة في الكوفة انذاك.. ان يضطر الخليفة الحسن لدفن جثة ابيه خلسة يعني من خلال عملية استدلال منطقية بسيطة.. ان الكوفة كانت خارج سيطرته الأمنية.. يعني ان الكوفة كانت تعيش فترة انفلات امني.. وهنا يسقط السؤال المهم.. كيف لخليفة اغتيل والده توا من قبل الخوارج.. ودفن جثة ابيه خلسة بسبب تهديدهم.. كيف يقوم هذا الخليفة في مثل هذه الظروف بـِ "الخروج بالناس" الى المدائن وترك الكوفة المهددة امنيا بمجرد إستخلافه؟؟ حتى اغبي نائب عريف لن يقوم بمثل هكذا حماقة عسكرية في مثل هذه الظروف.

 

 من هنا فان معلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة والتي تقول لنا ان الكوفة كانت تعيش توتر سياسي وأمني.. ستسمح لنا برفض رواية "خروج الحسن بالناس" بعد إستخلافه لمقاتلة معاوية.. لماذا؟؟ أولا.. لأنها ببساطة لا تتناسب منطقيا مع الجو السياسي والأمني الذي كان سائدا في الكوفة!! ثانيا.. لان هذه الرواية مستحقرة بكل منطق لوجستي عسكري.. فـ علي ابن ابي طالب وخلال اكثر من اربع سنوات بعد معركة صِفّين لم يستطع تجييش جيش لقتال معاوية.. وفجاءة وفي ظروف انتقال السلطة الهش يقوم ابنه بتجييش جيش لقتال معاوية!! هل ترون الان سخافة هذه الرواية.

 

باختصار.. معلومة دفن جثة "أبو الحسن" خلسة "خوفا عليه من الخوارج ان ينبشوا جثته".. ستوجه انظارنا نحو الرواية الاكثر قربا للمشهد الأمني والسياسي الذي كان سائدا في الكوفة.. وهي رواية انهيار الحسن السياسي في الكوفة.. بمعنى ان الفوضى التي تم خلالها سرقة مال الحسن وطعنه قد حدثت في الكوفة.. والرواية الأولى للطبري كما روايته الرابعة تقر بحدوث الفوضى في الكوفة بعد استخلاف الحسن مباشرة.. ولكنها تبرر ذلك بأسباب غير مقنعة..  وهي ان الحسن في خطبة الاستخلاف لم يكن "يرى قتال" معاوية.. وهذا قد اغضب اهل الكوفة.. حتى وان افترضنا ان خطبة الاستخلاف لم تعجب اهل الكوفة.. هل هذا مبرر وجيه وكافي لطعنه وسرقة ماله؟؟ فقط ساذج يمكن ان يصدق هذه السببية العرجاء.. الطبري هنا هو كمن يقول لنا ان خلافة الحسن انهارت بسبب ضربة عصى من الخيزران!!

 

تفنيد رواية "خروج الحسن بالناس" بعد إستخلافه لمقاتلة معاوية .. ورفض سببية الطبري في تبرير الفوضى في الكوفة .. يجبرنا على الإجابة على السؤال المهم الذي سيواجهنا عندها: اذا لم تكن خطبة الاستخلاف هي سبب الفوضى التي أطاحت بخلافة الحسن .. فما الذي حصل لكي تعم الفوضى في الكوفة بعد استخلاف الحسن؟؟

يتبع 

2025/02/28

خيزرانة الطبري ام فأس ارسطو .. لماذا انهارت خلافة الحسن بن علي

ارسطو وبطريقة الاغريق الحوارية كان يقول: "ما الذي يحصل لكي تنشطر قطعة خشب صلبة الى شطرين؟؟ لأنها تلقت ضربة بفأس .. ولماذا انشطرت قطعة الخشب هذه بضربة فأس؟؟ لأن قطعة الخشب الصلبة لا يمكن ان تنشطر بضربة عصا من الخيزران.. فلكي تنشطر قطعة الخشب الصلبة يجب ان تتلقى ضربة بشيء صلب اولا.. وحاد ثانيا.. والفأس تمتلك هاتين الخاصيتين".. ارسطو يضعنا هنا امام بوادر مفهوم السببية المتعددة.. وهو المفهوم السائدة اليوم  في العلوم الاجتماعية .

 

واحدة من الأشياء التي تصفعك وانت تقرأ التاريخ الإسلامي هو سذاجة مفهوم السببية فيها.. وانت عندما تقرأ احداث مهمة ومفصلية في التاريخ الإسلامي من مثل مقتل عثمان ابن عفان او معركة صِفّين وواقعة التحكيم التي تبعتها.. ستضحك على سذاجة مفهوم السببية فيها.. ومع ذلك يبقى حَدَث انهيار الحسن بن علي بعد "إستخلافه" في الكوفة هو الحدث الأكثر غرابة وفنطازية في التاريخ الإسلامي.. ومفهوم السببية فيه من أسخف ما قرأت في هذا الإطار.. فالسردية السائدة اليوم بخصوص هذا الحدث تنتقل من مبايعة الحسن في الكوفة.. الى تجيشه لجيش لمقاتلة معاوية.. و" تَبَخُْر" هذا الجيش في فوضى عارمة تم خلالها سرقة "بساط" الحسن وطعنه.. وأخيرا مصالحة ومبايعة معاوية.. كل ذلك بأقل من خمسة أسطر تقريبا!! وهذا الانتقال السريع من الشيء الى نقيضه مستحقر لكل منطق.. من هنا أهمية تفكيك هذا الحدث.

  

 الطبري مثلا يعطينا اربع روايات بخصوص هذا الحدث.. الرواية الاولى تقول "واستخلف اهل العراق الحسن على الخلافة، وكان الحسن لا يرى القتال، ولكنه يريد ان يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية، ثم يدخل في الجماعة، وعرف الحسن ان قيس ابن سعد (قائد الجيش) لا يوافقه على رأيه، فنزعه وامر عبيد الله ابن عباس، فلما علم ابن عباس بالذي يريده الحسن كتب الى معاوية يسأله الأمان ويشترط لنفسه من الأموال التي أصابها، فشرط ذلك له معاوية. (وهنا مداخلة سريعة استعيرها من البارع فلهاوزن.. في كل مرة تقرأ عبارة "اهل العراق" في هذه الروايات افهم اهل الكوفة فقط) 

 

 الرواية الثانية تقول " بايع الناس الحسن بالخلافة، ثم خرج بالناس (لقتال معاوية) حتى نزل بالمدائن، وبعث قيس ابن سعد في مقدمته في اثنى عشر الفا، واقبل معاوية في اهل الشام حتى نزل مَسكِن، "فبينما الحسن في المدائن، اذ نادى مناد في العسكر: ألا ان قيس ابن سعد (قائد الجيش) قد قتل، فانفروا، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن، حتى نازعوه بساطا كان تحته،....... فلما رأى الحسن تفرق الامر عنه، بعث الى معاوية يطلب الصلح ... فصالحه "على ان يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة الاف الف واشياء اشترطها.  

 

الرواية الثالثة تقول: " وكتب الحسن الى معاوية في الصلح وطلب الأمان".. ثم يقوم الحسن بإخبار الحسين وعبد الله ابن جعفر بمشروع المصالحة وطلب الامان فيعترض الحسين . فقال له الحسن: اسكت، فأنا اعلم منك بالأمر...... فكتب الحسن الى قيس ابن سعد وهو على مقدمته في اثنى عشر الفا يأمره بالدخول في طاعة معاوية.......".

 

 اما الرواية الرابعة والأخيرة عند الطبري فهي تقول " بايع اهل العراق الحسن بالخلافة، فطفق يشترط عليهم الحسن: انكم سامعون مطيعون، تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت، فارتاب اهل العراق في امرهم حين اشترط عليهم هذا الشرط، وقالوا: ما هذا لكم بصاحب، وما يريد هذا القتال، فلم يلبث الحسن بعد ما بايعوه الا قليلا حتى طُعن طعنة اشوته، فازداد لهم بغضاََ، وازداد منهم ذعراََ (!!!)، فكاتب معاوية وأرسل اليه بشروط، قال: ان اعطيتني هذا فانا سامع مطيع....."

 

اما البلاذري في أنساب الأشراف فهو يعطينا الرواية التالية:" لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه، واجتمع له خمسون ألفًا، فخرج بهم حتّى أتى المدائن، وسرَّح بين يديه قيس بن سعد في عشرين ألفًا، فنزل بمسكن، وأقبل معاوية من الشام في جيش. ثمّ إنّ الحسن خلا بأخيه الحسين فقال له: يا هذا إنّي نظرتُ في أمري فوجدتني لا أصل إلى الأمر حتّى يُقتل من أهل العراق والشام مَن لا أُحبّ أنْ أحتمل دمه، وقد رأيتُ أن أُسلّم الأمر إلى معاوية فأشاركُه في إحسانه ويكون عليه إساءته. فقال الحسين: أُنشِدُكَ الله أَنْ تَكُونَ أَوَّلَ مَنْ عابَ أَباكَ وَطَعَنَ عَلَيْهِ، وَرَغِبَ عَنْ أَمْرِهِ. فقال: إنّي لأرى ما تقول، ووالله لئن لم تتابعني لأشدَّنك في الحديد، فلا تزالُ فيه حتّى أفرغ من أمري. قال: فَشَأْنُكَ! فقام الحسن خطيبًا فذكر رأيه في الصلح والسلم لما كره من سفك الدماء، وإقامة الحرب، فوثب عليه أهلُ الكوفة وانتهبوا ماله، وحرّقوا سرادقه، وشتموه وعجّزوه، ثمّ انصرفوا عنه ولحقوا بالكوفة.

 

وهنا تنتابك فكرة مجنونة وتقول مع نفسك لما لا اذهب لألقي نظرة على الروايات الشيعية لهذا الحدث.. رغم إنك تعرف تمام المعرفة من قراءتك السابقة انه لا امل معرفي يرجى منها.. ومع ذلك تستجمع ما تبقى عندك من حيادية وتقوم بهذه المخاطرة الفكرية.. تأخذ تاريخ اليعقوبي و"مقاتل الطالبيين" للأصفهاني كعينة.. وتجول فيهما وتتوقف امام باب خلافة الحسن.. فتجد عندهما ما كنت تخشاه..  فاليعقوبي والأصفهاني يقدمون لك نفس "طبخة الطبري" معمولة "بالبهارات" الشيعية.. نفس تناقض روايات الطبري زائد نظرية المؤامرة الكونية ضد الائمة والتي تشكل العمود الفقري للسببية الشيعية.. الائمة في هذه النظرية البليدة فكريا هم دائما ضحايا وغير مسؤولين تاريخيا.. أما معاوية فهو دائما هناك على الموعد.. مختفيا في زاوية مظلمة وملتحفا بدهائه الأسطوري لكي يكيد للأئمة.. ومعاوية في روايتي اليعقوبي والاصفهاني لا يشذ عن هذه القاعدة.. معاوية في روايتي اليعقوبي والاصفهاني يمتلك قدرات جني المصباح السحري!! فهو عند اليعقوبي: "يدس الى عسكر الحسن من يتحدث ان قيس ابن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجه الى عسكر قيس ابن سعد من يتحدث ان الحسن قد صالح معاوية، واجابة"!!!! وعندما يسمع الناس ذلك تحصل الفوضى الخ.. باختصار.. جيش الحسن في رواية اليعقوبي مكون من قرقوزات يتلاعب بها معاوية كما يريد.. يحرك معاوية اصابعه يمينا.. فيقف جيش الحسن "بالاستعداد" في ساحة العرضات.. يحرك معاوية اصابعه يسارا.. فيدخل جيش الحسن في حالة انذار وبالتالي في فوضى عارمة!! قدرة معاوية في "التثويل" المغناطيسي في الروايات الشيعية مذهلة!! 

 

 اما رواية الاصفهاني فتقول ان الحسن: " سار في عسكر عظيم وعده حسنة .... فنزل ساباط دون القنطرة"!! وهنا يخطب الحسن في جيشه: "الا وان ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة...... " فنظر الناس بعضهم الى بعض، وقالوا: ما ترونه، يريد(بمال)؟ قالوا: نظنه والله يريد ان يصالح معاوية ويسلم الامر اليه، فقالوا كفر والله الرجل ".. ثم تعم الفوضى ويتم سرقه أغراض الحسن وطعنه الخ.. وبعد بضعه اسطر يظهر "الجني "معاوية ليرشو قائد جيش الحسن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب "بألف الف درهم"...."فانسل عبيد الله ليلا، فدخل عسكر معاوية، فوفى له بما وعده .... الخ".

 

 الشعور الذي انتابني وانا اغادر كتب الاصفهاني واليعقوبي.. هو نفس الشعور الذي كان يجتاحني في كل مرة كنت اخرج فيها من سينما سميراميس بعد نهاية فلم فنطازي.. ما ان اضع قدمي في شارع السعدون حتى افهم الهوة السحيقة بين عالم السينما وبين الواقع الذي كنت أعيش فيه !! فالسردية الشيعية عند الاصفهاني واليعقوبي لا تختلف في حبكتها الدرامية عن حكايات ألف وليله وليلة.. الشخصيات والأماكن والازمنة والاحداث تتطاير في فضاء خالي من قوانيين الجاذبية الانثروبولوجية والمنطقية!! وفي هذا الفضاء المقفر فكريا تقوم نظرية المؤامرة بشرح كل شيء!!    

 

باختصار.. الفوضى المنطقية للروايات التي تتطرق لحدث انهيار خلافة الحسن وتضاربها لا يجاريها سوى فوضى "جيش" الحسن.. فهذه الروايات تقول الشيء ونقيضه.. فرواية تقول لك ان الحسن كان يريد قتال معاوية فيخذله "اهل العراق".. ورواية اخرى تقول لك ان "اهل العراق" كانوا يريدون قتال معاوية ولكن الحسن خذلهم بصلحه مع معاوية ولهذا السبب " انفروا ونهبوا سرادق الحسن، ونازعوه بساطا كان تحته "!! رواية تقول لك ان الفوضى حصلت بعد مبايعة الحسن مباشرة وبسبب خطبته التصالحية في الكوفة!! و رواية اخرى تقول لك ان الفوضى حصلت في معسكر الحسن في المدائن(او ساباط دون القنطرة!!!)!! رواية تقول لك ان الجيش "انفر" بسبب إشاعة مقتل قيس ابن سعد قائد الجيش.. ورواية اخرى تقول لك ان الجيش "انفر" لان "الجني" معاوية رشى قائد الجيش عبيد الله بن العباس "بألف الف درهم"!!! رواية تقول لك في بدايتها "لمّا بلغ أهل الكوفة بيعة الحسن أطاعوه وأحبّوه أشدّ من حبّهم لأبيه" ثم تصل الى نهايتها فتقرأ: " فوثب عليه أهلُ الكوفة وانتهبوا ماله، وحرّقوا سرادقه، وشتموه!!!! انتقال زئبقي من الطاعة والحب الشديد الى الشتم ومحاولة القتل بستة اسطر!!! 

 

باختصار.. مكان الحدث متضارب.. زمان الحدث متضارب.. اسباب الفوضى متضاربة.. والاعداد كالعادة متضاربة!! ولكن الاعداد في هذا الحدث ليست ذات أهمية.. ويمكننا تجاوزها والعمل بنصيحة احد المختصين الايطاليين بالتاريخ الروماني حين يقرأ عند احد المؤرخين الرومان خبر يقول ان احد الموانئ الرومانية كان يستقبل كل يوم "عشرة الاف اسير"(لكي يعطي فكرة عن سطوة روما آنذاك) .. الباحث الإيطالي يعرف ان هذه الأرقام مستحقرة بالقوانين اللوجستية انذاك ولا يمكن تصديقها.. لهذا السبب يقول لك ان هذا العدد الفنطازي يعني فقط "عدد كبير" بعقلية وأسلوب ذلك الزمان.. وهذه الملاحظة البارعة يمكنك تطبيقها في كل مرة تصفعك في التاريخ الإسلامي عبارة "الف الف" او اعداد متضاربة ومبالغ فيها.. لأنها كتبت بعقلية وأسلوب ذلك الزمان.

 

وفقط عقلية ذلك الزمان تسمح لمؤرخ مثل الطبري بوضع رواية حصول الفوضى في المدائن بعد تجيّش الحسن لجيش لقتال معاوية.. جنبا الى جنب رواية حصول الفوضى في الكوفة بسبب خطبته التصالحية التي لم تعجب اهل الكوفة .. مئة وخمسون كيلومتر تقريبا هي المسافة الجغرافية بين مكان الروايتين.. نحن هنا امام "يانصيبية" جغرافية مذهلة في تحديد مكان الحدث / الفوضى.. وهذا يعطيك فكرة عن الضبابية التي كانت سائدة في الروايات التي كانت بين يدي الطبري حين كتب تاريخه بعد "ثلاث قرون" من الحدث.. وبالتالي الهشاشة المعرفية التي تنطوي عليها السردية السائدة اليوم بخصوص هذا الحدث والتي يشكل الطبري اهم مصادرها.

 

 ما كتبته في هذا الموضوع تحول الى شبة أطروحة .. لذلك سأحاول نشره على شكل حلقات.  

2025/01/18

الكلاب لا تنجب قطط

 على خلفية النقاش المحموم بخصوص سلاح المليشيات في العراق.. وبعد التحذيرات الامريكية لقادة الشيعة من انها لن تستطيع منع إسرائيل الى الابد من ضرب العراق.. وضمن إطار دبلوماسية الـ "طم خريزة" التي يمارسها السيستاني منذ الغزو الأمريكي للعراق.. التقى ممثل الأمين العام "للأمم الغير متحدة" مؤخرا مع السيستاني في النجف.. بعد هذا اللقاء أصدر مكتب السيستاني بيان أكد فيه أن "تحقيق الاستقرار والازدهار غير ممكن دون إعداد خطط علمية وعملية لإدارة البلد، ومنع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها، وتحكيم سلطة القانون، وحصر السلاح بيد الدولة".

 

السيستاني الذي كان وكيله في النجف حتى وقت قريب يستقبل ويصلي على جثامين قادة الحرس الثوري الإيراني العائدة من سوريا بالتوابيت.. السيستاني الذي كان وكيله في النجف حتى أسابيع مضت يستقبل ويصلي على جيّف فاطميون وزينبيون و"شقندحيون" الذين دمروا المدن السورية وشردوا الملايين من الاطفال والنساء.. هذا السيستاني يخرج علينا اليوم فقط وبعد ان أصبحت "الحديدة الاسرائيلية حارة".. ليتحدث عن "منع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها وحصر السلاح بيد الدولة "!!!!

أكثر من عشرين عاما ومرجعية السيستاني في النجف تصدر البيانات وتبارك التغييرات وتعطي توجيهاتها "الرشيدة".. والنتيجة ان عراق المرجعية "الرشيدة" لازال بلدا غير مستقر وغير مزدهر ويحتاج الى "اعداد خطط علمية لإدارة البلد" كما يقول لنا بيان السيستاني.. اكثر من عشرين عاما وبميزانيات تكفي لبناء عشر دول بحجم العراق.. ولا زال عراق المرجعية "الرشيدة" بلد مولدات كهربائية جعلت العراق من اكثر بلدان العالم تلوثا.. اكثر من عشرين عاما ولا زالت المافيات الشيعية في السلطة تستورد الغاز من ايران لتشغيل محطات كهربائية عفى عليها الزمن.. اكثر من عشرين عاما من "تجريب المجرب" ولازال السيستاني يصدر البيانات التي تدعوا الى " إعداد خطط علمية وعملية لإدارة البلد" !!!

مذهل بعد ذلك ان تسمع احد "المحللين" في "حشد السيستاني الإعلامي" يقول لك ان بيان السيستاني هذا "أعطى دفعة إيجابية ستمكن الحكومة من التعاطي مع الملفات المعلقة".. محللو "خلف السدة" يتبركون بكل شيء يصدر عن السيستاني.. حتى لو ضرط السيستاني ستسمعهم يُدبّجون المقالات وينظمون القصائد الطوال ليقولوا لك فيها ان ضراط السيستاني "سيعطي دفعة إيجابية ستمكن الحكومة من التعاطي مع ملف التلوث والتغيرات المناخية !!!! 

العراق الذي كان في يوم ما يملك اكبر نسبة مهندسين في المنطقة قياسا لعدد سكانه.. وهذا معيار تقني بحت وليس جملة خطابية.. العراق الذي كانت جامعاته في يوما ما مزارا للطلاب العرب ..هذا العراق وصل في الانحدار حد.. اصبح فيه ملا لا يعرف ثمن رغيف الخبز في السوق.. يوجه عمل الحكومات العراقية.. ملا لا يمتلك من العِلم سوى "عِلم" جابلق وجابلص ( وهي اسماء مدن إكزوتيكية اسطورية فبركها رواة الحديث الشيعة للضحك على ذقون الرعاع في زمن لم يعرف خرائط غوغول).. ملا لا يمتلك من العِلم سوى إجازة في "عِلم" الاحاديث المفبركة وفقه النجاسة والنكاح .. يوجه عمل دولة بحجم العراق ويقول للحكومات الشيعية ماذا عليها ان تفعل!!!  

هل نستغرب بعد ذلك ان العراق تحول الى "شبه دولة" تتحكم فيها مليشيات وحشد إلسيستاني بقرار الحرب والسلم.. "شبه دولة" يحتاج رئيس وزراءها الشيعي للسفر الى ايران قبل ان يخطو أي خطوة "سيادية" داخل العراق.. "شبه دولة" يتعهد فيها رئيس الوزراء الشيعي بالعمل وفقا لتوجيهات المرجعية.. "شبه دولة" يسرق فيها "عبد الحسين" الملايين ثم يذهب بعدها باكيا مستغفرا امام شباك الحسين.. شبه دولة تحتاج فيها الحكومة الشيعية الى بيان من السيستاني لكي يعطي محركها العاطل دفعة لمعالجة "الملفات العالقة"!!!! 

باختصار.. "شبه دولة" العراق التي نراها امامنا اليوم هي نتاج منظومة فكرية وسياسية فاسدة.. مِن ابن السيستاني الذي يتحكم بإمبراطورية مالية أخطبوطيه.. الى أصغر شرطي مرتشي.. والسيستاني بهذا المعنى هو جزء لا يتجزأ من منظومة الفساد هذه.. ولو عاش السيستاني عشرين عاما أخرى واصدر الاف البيانات والتوجيهات.. سوف لن يخرج العراق من منظومة الفساد هذه.. لماذا ؟؟؟ لان الفكر الفاسد ينتج ساسة فاسدين وشعوب فاسدة.. فالكلاب لا تنجب قطط ..كما يقول المثل الفرنسي .. "الكلاب" تنجب "كلاب" فقط !!!