صحيفة كيهان الإيرانية المقربة من السلطة الإيرانية نشرت قبل يومين مقال افتتاحي بخصوص الاحداث السورية الأخيرة مع صورة لاحمد الشرع يصافح دونالد ترامب !! كاتب المقال يقول ان هناك "سؤال حيّر المحللين وهو: لماذا يتعرض نظام الجولاني الذي يعتمد بنسبة 100٪ على الولايات المتحدة والنظام الصهيوني، ولا يمتلك قدرة نووية ولا هو في حالة حرب مع الصهاينة، لماذا يتعرض للهجوم بهذه الطريقة؟"
حتى الأسبوع الماضي كان الاعلام الإيراني يقول للإيرانيين ان احمد الشرع هو عميل امريكي إسرائيلي.. اليوم وبعد الضربة التي وجهتها إسرائيل مؤخرا لدمشق وتهديدها المباشر لحياة احمد الشرع.. تجد البروباغندا الإيرانية نفسها في ورطة.. وعبارة "حيّر المحللين" هي في الحقيقة ضوضاء لغوية تعبر عن محاولة الاعلام الإيراني إيجاد مخرج لتناقض سرديته.. الاعلام الإيراني البوقي يختبر اليوم مقولة ابراهام لينكولن الشهيرة والتي يعرفها كل طالب سنة أولى في قسم الاعلام.. وهي إنك "تستطيع ان تكذب على بعض الناس كل الوقت وتستطيع ان تكذب على كل الناس بعض الوقت ولكنك لا تستطيع ان تكذب على كل الناس كل الوقت".
نستطيع ان نفهم ايران وضغينتها تجاه احمد الشرع.. لا احد يفرح لخسارة "مكانه" و"مكانته" امام عدوه.. احمد الشرع في سوريا حل محل الأسد.. وهو بذلك حل محل بيدق ايران على رقعة الشطرنج الاقليمية.. وايران فقدت بذلك "ورقة" مهمة.. ولكننا "لا نفهم" ايران التي اجتمع حرسها الثوري مع الشيطان الأكبر في فنادق جنيف للتحضير لغزو أفغانستان.. ايران التي كانت تستلم شحنات السلاح من اسرائيل في الثمانينيات اثناء حربها مع العراق.. "لا نفهم" كيف تجرؤ دولة يتراكم في "مخزنها" كل هذا السجاد العتيق العفن.. وتأتي اليوم وتوزع "اوسمة" الوطنية والعمالة على الناس.
ثم ان ما يقوم به احمد الشرع من تواصل مع امريكا.. قام ويقوم به شيعة العراق منذ عقود مع العام سام.. مع فارق "بسيط" وهو ان الدبابات الامريكية لم "تحرر" دمشق!! لا بل ان ما يقوم به احمد الشرع من تواصل مع أمريكا.. قام به المرجع الشيعي السيستاني مع "الفاتح" بريمر.. آنذاك كان شيعة ايران "يرسمون" على جدران بغداد شعارات من عيار: "ثلاثة يدخلون الجنة: بوش وبلير وبريمر"!!! وايران كانت ولازالت تدعم هذا "النظام" الذي جاء على ظهور الدبابات الامريكية "المبشرة بالجنة".. فلماذا "بزنس" شيعة العراق مع أمريكا حلال.. اما عندما يتعامل احمد الشرع مع أمريكا فهو عمالة؟؟ عندما تقول لنا صحيفة كيهان ان شيعة العراق هم عملاء.. عندما تقول لنا ان نوري المالكي الذي وضعه الامريكان في رئاسة الوزراء هو عميل.. عندها.. وعندها فقط.. سنمنح ايران "وكالة" توزيع "اوسمة" الوطنية والعمالة على الناس.. اما قبل ذلك فلا.. لا تنه عن "عمالة" وتأتي مثلها عار عليك إذا فعلت عظيم!!
موقف امريكا في سوريا اليوم هو نفس موقف امريكا في ايران بعد الضربة الإسرائيلية الاخيرة.. في كلا الحالتين قام العم سام بمنع الثور الإسرائيلي الهائج من تحطيم كل شيء.. كان بإمكان الثور الإسرائيلي الهائج ضرب كل المنشآت النفطية وحقول النفط ومرافئ التصدير الإيرانية وتركيع ايران واخراجها عن الخدمة "كمضخة نفط".. كان بإمكان إسرائيل فعل ذلك بكل سهولة.. ولكن امريكا كما اوروبا ووكلاء امريكا الإقليميين مثل تركيا والسعودية.. لا يريدون الفوضى في ايران.. كما انهم لا يريدون الفوضى في سوريا.. لان ذلك مضر باستقرار المنطقة وبالتالي مضر بأمن واستقرار دولهم ومصالحهم.
ضمن هذا الاطار العام.. فان احمد الشرع الذي خضع لإنذار نتانياهو وانسحب من السويداء.. لا يختلف عن خامنئي الذي خضع لإنذار دونالد ترامب بعد ضرب المفاعل النووية الايرانية.. نحن هنا امام تقييم واقعي لعلاقات القوة على الأرض.. وليس عيبا ان يقوم قائد شعب بحماية شعبة من عدو اقوى منه "الف مرة".. لا بل ان احمد الشرع في خضوعه للإنذار الاسرائيلي يمتلك عذر اكبر من قبول ايران للإنذار الامريكي.. فاحمد الشرع لا يمتلك "جيش مليوني" ولا حرس ثوري ولا "مدن صواريخ".. واحمد الشرع بعد ذلك وصل لسدة الحكم قبل سبعة اشهر فقط.. وبالتالي فهو ليس كخامنئي الذي يتحضر للحرب مع إسرائيل منذ عقود.. والشرع بعد هذا وذلك لم يدعي انه سيمحو إسرائيل وسيحرر القدس كما ادعت وتدعي ايران كذبا.
كل هذا يمنحنا الحق بمشاغبة سؤال صحيفة كيهان الإيرانية.. بطرح بعض الأسئلة "المحيرة": لماذا قبلت ايران بوقف اطلاق النار مع إسرائيل التي قامت بقتل قادتها العسكريين وعلمائها النوويين بطريقة غادرة ومذلة ؟؟ لماذا قبلت ايران التي هي على عتبة "القدرة النووية" وهي "في حالة حرب مع الصهاينة" بوقف اطلاق النار معهم؟؟ لماذا قبلت ايران التي تمتلك "مدن صواريخ" بوقف اطلاق نار مع " عدو ضعيف اعترف بهزيمته" كما صرح علي فدوي، نائب القائد العام للحرس الثوري قبل يومين.. فلماذا لم تستغل ايران هذا الضعف!! غريب الم يكن الهدف محو إسرائيل وتحرير القدس ؟؟ ام ان ايران هي جمعية خيرية للعطف على "الضعفاء المهزومين"!! واخيرا لماذا قبلت ايران التي تردد شعارات الموت لأمريكا منذ ٤٥ عاما.. لماذا رضخت لانذار "ألشيطان الأكبر".. وخصوصا بعد ان دمر مفاعلاتها النووية التي كلفتها ما يقارب ترليوني دولار؟؟
لان نظام الملالي وبعد دقائق من غارة سرب طائرات الشبح الـ "بي تو" على المفاعل النووية الإيرانية.. تلقى تحذيرا حازما من العم سام.. ستيف ويتكوف اتصل بـوزير خارجية ايران عراقجي وقال له بالحرف وبلغة تلغرافية لا تحتمل التأويل: "رأيتم ما يمكننا فعله. يمكننا عمل اكثر من ذلك. نريد السلام وعليكم أيضا فعل ذلك".. بعد هذه المكالمة الهاتفية بساعات قبلت ايران قرار ترامب بوقف اطلاق النار.. بعد ساعات.. نقل خلالها عراقجي الرسالة الامريكية الى خامنئي واستلم الجواب (لان التواصل مع المرشد الخاتل آنذاك لم يكن سهلا).. انصاع " المرشد" الى انذار "الراعي" دونالد.
لماذا انصاع " المرشد" لهذا الإنذار الامريكي.. الإجابة بسيطة.. موازين القوى ليست لصالح ايران.. وقائد الدبلوماسية الإيرانية عباس عراقجي والذي يعرف حتما المقولة التي تنسب لهنري كيسنجر: "حاملة الطائرات هي مئة الف طن من الدبلوماسية".. عباس عراقجي فهم ان طائرة الـِ "بي تو" الشبح هي ٣٤ طن من الدبلوماسية".. وعراقجي الذي عرف صغيرا أجواء البازار (لأنه يتحدر من عائلة تعمل في تجارة السجاد).. عراقجي هذا قام بجردة حسابية سريعة.. وضرب عدد ٣٤ طن (الذي هو حمولة طائرة شبح واحدة) بعدد طائرات الشبح التي تمتلكها امريكا.. ثم زاد عليها حمولة حاملات الطائرات الامريكية التي كانت "تتشمس" آنذاك قبالة السواحل الايرانية!! وفهم سريعا ان الحسبة خاسرة!!
ويتكوف في اتصاله مع عراقجي "تكلم بهدوء ولكن مع عصا غليظة".. لكي نستعير جملة الرئيس الأمريكي السابق تيودور روزفلت صاحب "دبلوماسية العصا الغليظة التي مارسها في بداية القرن العشرين.. واحدة من شروط نجاح دبلوماسية العصا الغليظة هي انها دائما تعطي الخصم فرصة لحفظ ماء الوجه.. وسينوغرافيا رشقة الصورايخ على قطر اضافة الى المزامط الإعلامي عن النصر الإيراني وهزيمة إسرائيل يدخل ضمن اطار حفظ ماء الوجه.. انذار ويتكوف ورضوخ ايران له اثبت من جديد ان ايران تتكلم أيديولوجيا وتتصرف براغماتيا.. ترفع شعارات ثورية وتنبطح بواقعية.. وعليها تنطبق مقولة: "لا تصغي لما يقول ولكن انظر ماذا يفعل".
والحوار الذي منحه الرئيس الإيراني قبل ايام للصحفي الأمريكي تاكر كارلسون.. وهو "المتحدث الرسمي" باسم القاعدة الشعبية لدونالد ترامب.. هي رسالة شكر ومغازلة ايرانية لهذه القاعدة الشعبية المعارضة للحرب.. في هذا الحوار نجد خطاب ايراني اخر.. ولغة أخرى تختلف تماما مع خطاب "المزامط" الموجه للداخل الايراني.. بزشكيان في هذا الحوار يقدم ايران كحمامة سلام تحمل غصن الزيتون ولا تريد سوى ان "توكر" بسلام على "شجرة" القانون الدولي!! ايران امام أمريكا واسرائيل تتباكى على القانون الدولي.. اما في البلدان العربية مثل العراق ولبنان فهي تمارس لغة كواتم الصوت!! ايران امام طائرة الـ "بي تو" ترفع يافطة القانون الدولي.. اما امام المتظاهر التشرينيّ السلمي فهي ترفع السكاكين و كواتم الصوت.. الإيراني الذي نخر وينخر دولنا بمليشياته العابثة بالقانون لا يتكلم عن القانون الا عندما يجد نفسه امام عصى غليظة.
إيران قبل "طوفان الأقصى كانت تتبنى أسلوب ولغة الشقاوات المتمثل بشعار الـ "الف خنجر" والـ "الف طعنة".. في إشارة الى سياسة المشاغلة بالأذرع التي اعتقدت ايران انها ستنهك بها إسرائيل.. آنذاك اعتقدت ايران انها الشقاوجي الأقوى في "المنطقة".. آنذاك كانت ايران تهدد "بسكاكين" الاذرع وطعنات المليشيات.. الماتادور الإيراني المتبختر كان يعتقد آنذاك ان ميليشياته ستقوم بإنهاك الثور الإسرائيلي.. وسيأتي هو في نهاية العرض لمنح سكين الرحمة.. لقد جرت مياة كثيرة منذ ذلك الوقت!! ايران اليوم تتكلم عن القانون الدولي!!
فقط عندما نستحضر هذا المسار يمكننا تقييم ميزان الربح والخسارة في المواجهة الدائرة اليوم بين ايران وإسرائيل.. وضمن هذا الاطار الجيوسياسي العام فقط يمكننا القول ان الخنجر الإيراني ارتد على صاحبه.. وان ايران هي التي تلقت الـ "الف طعنة".. الجسد الإيراني اليوم مثخن بالجراح.. وهامش الحركة الإيرانية على رقعة الشطرنج الاقليمية اليوم اقل بمئة مرة عما كان عليه قبل الضربة الاسرائيلية.. وهو اقل بألف مرة عما كان عليه قبل "طوفان الأقصى".. وايران نجت من الانهيار فقط لان مراكز "اللعب" الاستراتيجي العالمي لا تريد فوضى في المنطقة.. لسان حال مراكز "اللعب" الاستراتيجي العالمي يقول: خامنئي يزامط ويمكن التفاوض معه من تحت الطاولة (كما في سينوغرافيا قاعدة العديد القطرية) خير من بلد بلا رأس وتعمه الفوضى.
خلال اثنا عشر يوما استباحت إسرائيل السماء الإيرانية.. وضربت ودمرت كل ما سمح لها ترامب به.. وخلال اثنا عشر يوما وجد الشقاوجي الإيراني نفسه اعزل وحيد.. بلا "خناجر".. غريب اين المليشيات الشيعية التي وعدت بحرق المنطقة والعالم ومحو اسرائيل؟؟ "سكاكين" ايران لم تجرؤ على تحريك ساكن.. الضربة الإسرائيلية التي قتلت الصف الأول من قادة الحرس الثوري الإيراني دمرت معنوياتهم وجمدتهم.. كيف لا وقد وعدهم المرشد بمحو إسرائيل!! كيف لا وقد وعدهم الحرس الثوري بان الطائرات الإسرائيلية اذا ما قامت بضرب ايران سوف لن تجد مدارج عند عودتها الى إسرائيل!! الاختراق الاسرائيلي للمنظومة الأمنية الإيرانية.. وبعد اشهُر من صدمة البيجرات.. حطم معنويات المليشيات الشيعية.. عندما تعمل مرتزق وترى ان سيدك عاري.. فالاختباء يصبح الخيار الوحيد.. لقد وصل الخوف بـِ جماعة "شيعي أولا عراقي ثانيا" حد.. انهم قاموا بتكسير أجهزة هواتفهم وهجروا بيتهم وهاموا في الأرض يتلفتون "يمنة ويسرة".. خشية المسيرات الإسرائيلية.. من "هيهات منا الذلة" الى "هيهات منا المسيرة"!! لسان حال بيادق ايران اثناء حرب الاثنا عشر يوما كان يقول للملا الإيراني: "اذهب انت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون"!!
وعود على بدء.. صحيفة كيهان تقول في خاتمة مقالها ان "التطورات الاقليمية التي تشهدها سوريا هي تذكير بحقيقة أن المرتزقة الذين يعملون من أجل مصالح أجنبية لا يجلبون لانفسهم في نهاية المطاف سوى التهميش".. وهي ترمز بذلك لـِ احمد الشرع.. شخصيا قرأت هذه الجملة "الاستشرافية" فحضرت في راسي صورة مرتزقة ايران في العراق.. حضرت في رأسي جماعة "شيعي اولا عراقي ثانيا".